في عام 2011، السنة التي انتصرت فيها ثورة يناير، وبدأنا نسمع للمرة الأولى كلمات مثل: "ثورة الإنترنت"، "نشطاء الفيسبوك"، "مناضلون من وراء الشاشات"، في شهر تشرين الثاني/نوفمبر كُلفت من رئيس التحرير، بحكم عملي الصحفي، بتغطية الملف الأمني المصري، مما تعيّن علي أن أذهب إلى وزارة الداخلية لتقديم أوراق اعتمادي كمحرر بمبنى الوزارة، حتى يحق لي الدخول وقتما أشاء، وأن أطلع على المعلومات التي أريدها.
لم تنته الثورة بعد، قلت لنفسي: "هذا صحيح، وقانون حرية تداول المعلومات قادم في الطريق أيضاً".
"وزارة النفي"
استغرقت محاولات دخولي مبنى وزارة الداخلية ثلاثة أشهر على الأقل، لكن أخيراً تمكنت من الدخول، وسجلت أوراقي، لكن بدا لي أن الأمر لم يكن يستحق عناء الثلاثة أشهر.
وقتذاك، لم يكن لوزارة الداخلية أي منفذ إعلامي أمام الصحافيين سوى المكتب الإعلامي الرسمي، أما الوجود في هذا المكتب فلم يكن له جدوى، إذ لا تحصل سوى على "النفي" حتى تكاد تسميها "وزارة النفي".
البيانات كانت مملة وصياغتها لم تتغير. جميعها تتعلق بالضبطيات الأمنية الروتينية، مثل المخدرات أو السلاح أو "مسجلي خطر" هاربين أو هارب من السجن في ثورة 25 يناير، هكذا سارت الأمور.
"العمل الحقيقي يشمل أشياء غير متابعة ما يُنشر على السوشال ميديا، لكنه في كل الأحوال يساهم في تحسين صورة الشرطة، أما التفاصيل فلا يعرفها إلا الله"
أما إذا طلبت كصحافي تعليقاً على خبر متداول، فيكون الرد: "هو احنا فاضيين للي عندنا، عشان نعلق على اللي بيحصل على السوشال ميديا؟!"
بعد 10 سنوات من ذلك التاريخ، وفي أواخر آب/ أغسطس 2021، يضج فيسبوك بترند: "طفل المحلة المخطوف زياد البحيري" من أمام محل عمل والده، ثم تنشر وزارة الداخلية فيديو لعملية الضبط، فيتصدر الأمن المصري الترند، لقد تغيرت الأمور.
ثم باتت كل الأخبار المنشورة على صفحة الوزارة الرسمية عن أطفال مخطوفين تمت إعادتهم لذويهم. مثل طفل الجيزة أو الطفل اقلاديوس وغيرهما.
الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية، يتابعها حوالى ثمانية ملايين شخص، وباتت تنشر أخباراً باستمرار على مدار اليوم ليتجاوز عدد المنشورات حوالي الـ20، وهذا كان مستحيلاً في عصر الإيميلات التي لا تتجاوز السبعة أخبار، وجميعها عن ضبطيات أمنية، أي أخبار لا قيمة لها.
أنشأت الصفحة في عام 2013، لم تكن بداية قوية، كانت نسخة مكررة من الإيميلات الرسمية التي ترسلها للصحافيين، لكن مع الوقت بدأت وزارة الداخلية تدرك مدى أهمية السوشال ميديا، وباتت تختار الأخبار المهمة التي تضمن أن تجلب لها تفاعلاً أو تضعها في مقدمة الترند. وأخذت تصميماتها تتغير حتى أصبحت أكثر تطوراً، وتضاهي في ذلك أبرز المؤسسات الصحافية.
هذا يمكن أن نعتبره توجهاً عاماً في مؤسسات الدولة، الجميع بات يدرك أهمية السوشال ميديا، وأهميتها تحديداً في تلميع صورته وإيصال جهوده، وتزامناً أنشأت النيابة العامة صفحة على السوشال ميديا، وباتت لديها وحدة خاصة لرصد كل ما يخصها على فيسبوك، والجيش المصري، ودار الإفتاء، ووزارة النقل، وأصبحوا لا يهملون شاردة أو واردة تتعلق بهم على السوشال ميديا إلا تفاعلوا معها.
الأمر أصبح حقيقياً للغاية، لدرجة أن الرئيس السيسي أشار في أحد المؤتمرات إلى تلك الظاهرة، وقال: "إن الدولة لا يجب أن تُدار بهذه الطريقة".
الترند والنيابة العامة
تتلقف النيابة العامة الترند بإجرائها التحقيق في الواقعة محل الترند، ثم إذاعة نتيجته للجمهور عبر بيان مكتوب بحرفية عبر فيسبوك.
لم يكن يحدث هذا من قبل في النيابة العامة أيضاً.
يقول "م. ع" المحرر بالشأن القضائي لمدة سبع سنوات، لرصيف22: "قبل التحول الرقمي بالنيابة في عهد النائب العام حمادة الصاوي، كانت البيانات قليلة للغاية، ولا يوجد أي صيغة تواصل رسمية أو متحدث رسمي، إن احتجت إلى معلومة في قضية كبيرة تكلم المحامي العام المختص في التليفون، أو ترتب ميعاداً لمقابلته، ولكن كان من الصعب أن أستخرج معلومات هامة، أو يرد أحد".
الآن قد لا يبذل المحرر أي مجهود يُذكر، لأن البيانات الرسمية التي تتناول القضايا الترند تتابع باستمرار على صفحات النيابة، بحسب المحرر القضائي، ويضيف: "هناك جروب رسمي يضم المحررين، وأي قضية يعلم بها المحرر يبلغ أحد أعضاء إدارة الصفحة، فتخرج النيابة العامة ببيان عن الواقعة. حتى أن النيابة نشرت تبريراً لكثرة نشر تفاصيل الوقائع على الصفحة، بعد شكاوى من كثرة بث البيانات".
اختطاف الأطفال
قبل دخول وزارة الداخلية عصر السوشال ميديا، كان من الممكن أن يُختطف ابنك ولا تستطيع الإبلاغ سوى بعد 24 ساعة من الاختفاء، رغم أن القانون لا ينص على تلك المدة تحديداً، إلا أن العرف الذي تتعامل به أقسام الشرطة يقضي الانتظار حتى مرور 24 ساعة، حتى أن الأفلام تعرف ذلك، من أبرزها فيلم "آخر الرجال المحترمين"، المدرس الذي أدى دوره نور الشريف، وتاهت ابنته، محاولاً العثور عليها بجهود فردية.
عام 2014، اتصل أحد المواطنين بالمحرر الأمني "و. ن" لتغطية اختفاء ابنته، وتدعى ولاء نجاح عبد المرضى عبد السيد، باعتباره صحافياً، فنصحه بضرورة إبلاغ الأمن أولاً، فقال الأب إنهم أخبروه أنه لا بد أن تمر 24 ساعة أولاً حتى يستطيع الإبلاغ، فقد تعود ابنته في أي ساعة.
يقول المحرر: "لم تعد الفتاة حتى الآن، ولم يسمع أحد عنها فيما بعد".
وفقاً لإحصائية المجلس القومي للأمومة والطفولة، في العامين 2018 و2019 تلقى خط نجدة الطفل ما يزيد عن 2264 بلاغاً بحالة خطف، وطبقاً لدراسة صادرة عن مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية، يوجد في مصر أكثر من ثلاثة آلاف طفل مفقود.
الطريقة الأسهل
قبل دخول الداخلية عصر فيسبوك، وأثناء قيامي بمهام عملي، كنت في مكتب رئيس مباحث قسم قصر النيل، حين دخل عليه ضابط يبدو أنه حديث التخرج، برفقته متهم.
المتهم كان مندوباً لبيع منتجات غير مرخصة، وتبين من النقاش أن الضابط كان يشاهد إحدى القنوات التلفزيونية غير المعروفة، وقرر طلب أحد المنتجات التي تُعرض على التلفاز، وحين جاء المندوب لتسليمها ألقى القبض عليه بتهمة بيع منتجات غير مرخصة..
بعد خروج الضابط الصغير والمتهم من المكتب، علق رئيس المباحث على الضابط: "عيل فاضي قاعد قدام التلفزيون يتفرج على قنوات هابطة ويجيبلي قضايا تافهة".
تذكرت تلك الواقعة في أيلول/ سبتمبر 2021، عندما قام سائق توك توك، بسرقة "سبيل مياه"، والتقطته كاميرا مراقبة، فأصبح حديث السوشال ميديا، ويبدو أنه علم أن الواقعة يتم تداولها بسخرية على فيسبوك، فقرر إعادة السبيل إلى مكانه.
كان ترنداً ساخراً. لكن الأمر تحول فجأة، فأصبح الأمن المصري هو الترند بعد قرار وزارة الداخلية بسرعة التحرك لضبط المتهم، قلت في نفسي: لم يتغير شيء، كانت القنوات التلفزيونية تحركهم، والآن السوشال ميديا تحركهم.
المثير أن أجهزة الأمن لا تعلن أبداً عن مجهوداتها فيما يتعلق بقضايا الاختطاف أو السرقة أو حالات التعدي والاغتصاب، ولا توجد جهة تستطيع الوصول إليها لمعرفة الإحصاءات، باستثناء القضايا المتعلقة بالأسلحة والهاربين من العدالة، تعلنها الوزارة دوماً كل شهر وبانتظام.
السوشال ميديا ومكافحة الجريمة
في الشهر الماضي آب/ أغسطس 2021 مثلاً، ألقت الشرطة القبض على 1500 عنصر إجرامي وهارب، و855 قطعة سلاح ناري، لكنها لم تذكر أبداً أي إحصائية تتعلق بالسرقات أو الاختطاف أو الاغتصاب.
اللواء "جمعة"، فضل عدم ذكر اسمه مبرراً ذلك بأنه محظور عليه التحدث إلى الإعلام، وهو خبير أمني متقاعد منذ 2014، يرى أن السوشال ميديا، هي الطريقة الأسهل في العمل، فالطريقة الأسهل هي أن تتدخل بعد وقوع الحادث أو الجريمة، أما الطريقة الأصعب، هي منع وقوع الجريمة.
وعن اتباع طريقة الترندات، فيقول إنها "قد توفر منفذاً لعرض مجهودات الأمن، لكن لا يكفي لأن يُعتمد عليه بشكل كلي في مكافحة الجريمة".
وأضاف: "نشر الواقعة على فيسبوك، هو بمثابة بلاغ لتحرك أجهزة الأمن، أما العمل الحقيقي فيشمل أشياء غير متابعة ما يُنشر على السوشال ميديا، مثل متابعة الأداء الأمني أو تدريب عناصر الأمن على الأساليب الحديثة في مكافحة الجريمة، لكنه في كل الأحوال يساهم في تحسين صورة الشرطة، أما التفاصيل فلا يعرفها إلا الله".
ثمة سبب منطقي لتنتقل الضبطيات إلى الواقع الافتراضي؛ لأن المجرمون أنفسهم انتقلوا إلى ممارسة نشاطهم الإجرامي على السوشال ميديا.
أتساءل وأنا أتذكر الفيديوهات والصور التي كانت تجسد انتهاكات الداخلية في قمع التظاهرات، هل انتهى ذلك العصر؟
في 16 حزيران/ يونيو 2021، نشر أحدهم فيديو على فيسبوك وبجانبه سلاح آلي، يروج لأنواع المخدرات التي بحوزته، "حشيش تلاقي أفيون تلاقي وبرشام تامول وترامادول".
الشاب علل ذلك بأن إغلاق كورونا هو ما دفعه للاتجار في المواد المخدرة، وأنها أفضل من السرقة والنهب، وأرفق رقم تليفونه بالفيديو. انتشر الفيديو كالنار في الهشيم بين رواد السوشال ميديا، ولكن لم يدم الأمر طويلاً، حتى رصدته الأجهزة الأمنية، وحددت مكانه في محافظة قنا، جنوب مصر، وبعثت بمأمورية لضبطه.
حدث تبادل لإطلاق النار، ومات الشاب بحسب البيان الرسمي لوزارة الداخلية، وتبين أنه مطلوب في 25 قضية جنائية.
السوشال ميديا تجعل المجرمين الخطيرين يفقدون حذرهم أحياناً، وتوفر للأجهزة الأمنية فرصة على طبق من ذهب لحصد الترند.
ذات مرة قام سائق بتصوير نفسه وهو يقوم بلف سيجارة الحشيش، ويتنفس دخانها، وما إن تدول الفيديو على فيسبوك، غير خط سيره من الفيوم إلى المريوطية للتمويه، لكن تمكنت قوات الأمن من ضبطه.
لا يأخذنا العجب نحن المصريون من حيوية وتفاعل مؤسسات الدولة مع السوشال ميديا، فهم يلعبون في الميدان وحدهم، بعد ترهيب المعارضين، وسن قوانين لتجريم كل من تخول له نفسه سرد رواية تعاكس السرديات الرسمية.
في عام 2018 سنت الرئاسة قانون "جرائم المعلومات"، ويقضي بالسجن وغرامات مالية على من يدير أو يستخدم موقعاً أو حساباً خاصاً على شبكة معلوماتية بهدف ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانوناً.
سلسلة من القوانين المتعاقبة التي تردع النشطاء عن التعبير عن رأيهم، أو معارضة أو مساءلة المسؤولين، بدأت من عام 2015، حيث صدر قانون جعل من نشر وترويج حوادث الإرهاب التي تناقض روايتها البيانات الرسمية جريمة يعاقب عليها القانون.
في النهاية، أتساءل وأنا أتذكر الفيديوهات والصور التي كانت تجسد انتهاكات الداخلية في قمع التظاهرات، هل انتهى ذلك العصر؟ الأرقام التي تتحدث عن القمع والاعتقالات كبيرة، والقوانين المعيقة لأبسط الحريات لاتزال سارية، وثوار "تويتر" و"الفيسبوك" يقبع عدداً كبيراً منهم في السجون، وأحياناً بلا إدانة قضائية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...