قابضاً على سلطته الأمنية، يمضي رجل الشرطة المصري إلى عمله، مستحوذاً على الشارع، والأفق، الذي بات مسدوداً بسياسات القمع، والقيود على الحريات.
السلطة الأمنية لرجل الشرطة تضم سلطات أخرى من شأنها ترسيخ قوة السلطة الأمنية، وإحكام قبضتها على المواطنين.
تتجلى أعلى تجسيدات تلك السلطة في ظل الحضور الأنثوي، الذي يدفع رجل الأمن إلى القيام بأدوار عدة، كأن يتحول فجأة إلى رجل دين، أو مصلح اجتماعي، يُجاهد في سبيل الحفاظ على ما يُسمى بـ"قيم الأسرة المصرية".
ثمة عبارات مذلّة يطلقها دائماً رجال الأمن في وجوه الفتيات، اللواتي يقعن في قبضتهم، وهن بصحبة رجل أو شاب، في أحد الأماكن العامة، أو ليلاً في الشوارع: "ما تعمليش كدا تاني، ممكن أقول لأهلك يجوا ياخدوكي، تخيلي الفضيحة اللي هاتعمليها لأهلك".
بقدر ما تحمل هذه الكلمات من تهديد وإذلال، فهي تعكس أيضاً الدور الأخلاقي والديني، الذي بات يقوم به رجل الشرطة.
"حاروقك"
كان أحمد إبراهيم (اسم مستعار) خريج كلية نظم المعلومات يسكن بحدائق المعادي في القاهرة، وصاحبته يتجولان ليلاً في شارع القصر العيني، ظل الشرطي يتتبعهما حتى أوقفهما، طالباً منهما إبراز بطاقة الهوية، وحينما اعترض الشاب، قادهما رجل الأمن إلى قسم شرطة قصر النيل.
وهناك يقول أحمد لرصيف22: "فُتح التحقيق حول ماهية العلاقة التي تجمعني بصاحبتي، وعندما اعترضنا على ما يحدث، استشاط الشرطي غضباً، وهدد صاحبتي بالاتصال بأهلها، وهددني بـ "ترويقي في الحبس"، قاذفاً في وجهي كافة الشتائم، ثم تدخل ضابط آخر للتهدئة، وتم الإفراج عن صاحبتي وقضيتُ أنا ليلة في القسم".
"حين يئس من إقامة علاقة معي، لفق لي قضية تعاطي الحشيش أنا وإحدى صديقاتي، خرجت بكفالة، ولكني أشعر دائماً أن شخصاً ما يراقبني، وأن بإمكانه الإلقاء بي في السجن"
وهناك مشهد ثابت يتكرر عادة في الحدائق والمتنزهات، وعلى كورنيش النيل، فبينما أنت تسير، أو تجلس، بجوار صديقتك أو حبيبتك أو حتى زوجتك، يأتيك أحد الرجال، الذي في الأغلب، يكون متخفياً في زي مدني، ويطلب بطاقتك الشخصية، ثم يُحذرك من تكرار هذا الفعل، الذي لا تعرفه.
ينطوي مفهوم "السلطة" لدى أغلب الفلاسفة والمفكرين- بصرف النظر عن التنظيرات السياسية له- على تهديد ما، تتصاعد وتيرته في بلاد تختنق فيها الحرية عبر استخدامات مطلقة للسلطات "الدينية والأمنية والأخلاقية"، لأن السلطتين الذكوريتين "الدينية والأخلاقية"، موجهتان بالأساس صوب المرأة، باعتبارها الشر الأعظم، ومصدر الإغواء والإثم. السلطة الأمنية تستعين بهما، أو تستند إليهما في تحقيق أعلى درجات الانتهاك لخصوصية المرأة التي تخطىء، من وجهة نظرها.
"لفّق لي قضية حشيش"
ثمة عوالم خفية وقصص مروعة وانتهاكات لا حد لها يرتكبها بعض رجال الشرطة في حق الفتيات والنساء، في ظل عدم وجود منصات إعلامية حرة تنشرها، وخوف من تهم ملفقة مثل الانضمام لجماعة إرهابية، أو نشر أخبار كاذبة.
تحكي الشابة العشرينية أسماء مصطفى (اسم مستعار)، خريجة كلية الآداب قسم اجتماع، وتسكن في حي بين السرايات، لرصيف22 إحدى هذه القصص: " كنتُ أعمل موظفة استقبال في أحد الفنادق الكبرى، وفي يوم كانت هناك حفلة كبيرة حضرها الكثيرون من رجال الأعمال والسياسين والإعلاميين، وكانت تعج برجال الأمن، كنت أقوم بتأدية عملي، لكن أحد الضباط لم يتركني وشأني. أثناء انشغال الجميع، جاء إلي طالباً رقم هاتفي، وحين رفضت، هددني، قائلاً: هاندمك، بالطبع لقد حصل على هاتفي بطريقته، وظل يطاردني عبر الهاتف، وفي عملي، وفي كل مكان أذهب إليه، ولأنه رجل أمن، فليس من حق أحد أن يقول له: ماذا تفعل، ولماذا أنت هنا؟".
وتضيف: "حين يئس من إقامة علاقة معي، لفق لي قضية تعاطي الحشيش أنا وإحدى صديقاتي، ثم تحولت حياتي وحياة عائلتي إلى جحيم. خرجت بكفالة من القضية الملفقة، لكني لم أعد أشعر بالأمان. أشعر دائماً أن شخصاً ما يراقبني، وأن بإمكانه الإلقاء بي في السجن".
المؤسسات الحكومية
تتبع أحد رجال الأمن غادة محسن (اسم مستعار) 28 عاماً، تعمل في محل بوسط البلد، أثناء تواجدها في "مجمع العباسية" لاستخراج بطاقة شخصية، تقول: "ظل يتتبعني، عارضاً علي خدماته، لكني شعرت من نظراته وحديثه بشيء مريب، فتركته، ودخلت إلى مكان استخراج البطاقات، وحين خرجت، وجدته أمامي، يُحدق في جسدي، ثم تطور الأمر إلى التحرش بي لفظياً".
وتضيف غادة لرصيف22 أن هذا الأمر دائماً يحدث معها عندما تذهب إلى أي مؤسسة حكومية.
ينتشر رجال الشرطة في كافة الشوارع والمؤسسات المصرية، بشكل مفرط يجعل الحياة مشدودة على خط واحد بين "المجرم والبريء، ورجل الأمن" ومن يدري، ربما لا توجد فتاة لم تتعرض لمضايقات وانتهاكات من جانب رجل الشرطة، الذي يضع نفسه في موضع الرقيب على كل شيء.
تذكرني تلك القصص دائماً بمقولة للكاتب والمفكر الإنجليزي كولن ويلسون، يوضح فيها ما تُرسخه أو تغرسه الوظيفة الأمنية في نفس رجل الشرطة: "هناك مرحلة يصل فيها رجل الشرطة إلى اعتبار كل البشر مجرمين، وكأن كل إنسان يخفي جريمة ما، ومهمة الشرطي تكمن في الوصول إلى هذه الجريمة وكشفها أمام الجميع".
إحساس بالإهانة
يمارس رجل الشرطة وصايته غير القانونية على أدق التفاصيل الخاصة بالفتيات، ففي إحدى المرات، في ساعات الصباح الأولى، كنتُ أنا وصديقتي في إحدى محطات مترو الأنفاق، وكان جهاز التفتيش معطلاً، فتولى رجل الشرطة تفتيش الحقائب. ثمة شعور ما بالانتصار، ممزوجاً بالاحتقار، تجسد في نظرات "الشرطي" حين عثر على علبة سجائر في حقيبة صديقتي.
تعطل جهاز التفتيش في المترو، فتولى رجل الشرطة التفتيش، وعندما عثر على علبة السجائر في حقيبة صديقتي، نظر إلينا باحتقار، وأشهرها أمام الجميع: "بتشربوا سجاير، يا ترى بتعملوا إيه تاني"
أخرج العلبة، وكأنه يشهرها أمام الجماهير، كإعلان إدانة: "بتشربوا سجاير، يا ترى بتعملوا ايه تاني".
لم يفتش رجل الشرطة الحقيبة فقط، لكنه أراد أن يفتش في أعماقنا، أن يكتشف ما وراء علبة "الإدانة"، ذلك لأنه رجل ولديه سلطة ذكورية، وشرطي صاحب سلطة أمنية، وبين السلطتين وقعنا نحن في تلك المنطقة المعتمة.
انتهى الأمر، لكن الإحساس بالإهانة كاد أن يحولنا إلى قطعة متفحمة على رصيف القطار.
أنا والسائق
الباحثة والإذاعية رباب كمال أرجعت هذا السلوك من جانب الشرطة إلى الخلط بين وظيفتهم الحقيقية وقيامهم بدور المحتسب، تقول: "بعض رجال الأمن يخلطون بين دورهم في الحفاظ على الأمن، وبين حماية الأخلاق، ومن ثم يقومون بتقمص دور المحتسب، ويفرضون وصايتهم الأخلاقية على المواطنين".
وأضافت رباب أن اختلاف المستوى الطبقي والاجتماعي يلعب دوراً مهماً في هذا الأمر، فإذا كانت الفتاة بالتعبير الشعبي "مسنودة" أو تنتمي إلى عائلة ذات مستوى اجتماعي مرتفع، فلاشك أن رجل الشرطة سيصبح وديعاً ومهذباً.
وحكت رباب لرصيف22 عن موقف تعرضت له أثناء سفرها، ليلاً: "قبل عامين، كنتُ على طريق "بلبيس" جالسة بجوار السائق، وجاء رجل الشرطة ليسألني والسائق عن البطاقة الشخصية، ثم ألقى علينا الأسئلة المعتادة، التي تدور حول ماهية العلاقة بيني وبين السائق".
وأشارت الباحثة إلى أن هذه الممارسات التي يقوم بها رجال الأمن ليست قانونية، لكنها نابعة من السلطة الذكورية الحاكمة، رغبةً في الإحساس بالذات، وتفريغاً للعنف الكامن بداخلهم.
وأكدت رباب أن وضع حد لمثل هذه الممارسات مرهون بقضايا أخرى شائكة ذات جذور ثقافية تحتاج إلى نضال طويل المدى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون