شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الرؤوس المعلقة وكرامات الرجل الطائر... أساطير باب زويلة

الرؤوس المعلقة وكرامات الرجل الطائر... أساطير باب زويلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الاثنين 27 سبتمبر 202104:51 م

على بعد عدة كيلومترات من القاهرة الخديوية (وسط المدينة)، يصدح التاريخ ويتوهج في القاهرة الفاطمية صاحبة الجمال الفريد، بمعمارها وكنزها الأثري الذي يزداد تألقاً بمرور الزمن، غير أن هذا الجمال الذي تشكل عبر حقب زمنية مختلفة، يتوارى خلفه، في الكثير من الأحيان، تاريخ دام، يحتفظ باب زويلة الذي يقع في الجزء الجنوبي من شارع المعز لدين الله الفاطمي، بجزء كبير منه.

مئذنتان رشيقتان، كحارسين غامضين على الماضي، ترتفعان في مهابة وشموخ، فوق برجي "بوابة زويلة" العارمة في ارتفاعها وقوتها. مشهد آسر، يدفعنا لالتقاط صورة تذكارية مع هذه التحفة المعمارية، التي كانت في الماضي البعيد، بوابة للشنق.

لثمانين عاماً فقط، عاشت أسوار القاهرة التي أنشأها جوهر الصقلي من الطوب اللبن، وضمت ثمانية أبواب: الفتوح، النصر، زويلة، الفرج، المحروق، البرقية، وباب السعادة والقنطرة. وقد أنشأ السور ببواباته الثماني لأهداف عسكرية، ودفاعية، تحمي المدينة من هجمات الأعداء. ومع تهالك السور، وعدم قدرته على القيام بوظيفته، قام الوزير بدر الجمالي في عهد الخليفة المستنصر بالله بإنشاء سور آخر من الحجر وكان ذلك عام 1092، وقد مد مساحة القاهرة بمقدار 150 متراً إلى شمال السور القديم، وحوالي ثلاثين متراً إلى الشرق، ومثلها إلى الجنوب. وكان باب زويلة هو البوابة الرئيسية في السور الجانبي، وهو المتبقي حتى الآن إلى جانب باب الفتوح وباب النصر.

وذكر الروائي جمال الغيطاني في كتابه"ملامح القاهرة في ألف عام"، أن المقريزي في تأريخه لأسوار القاهرة، قال إن بدر الجمالي استعان بثلاثة أشقاء أصلهم من مدينة الرها بشمال العراق في بناء هذا السور وبواباته. وأضاف: "وقد أخبرني من طاف البلاد ورأى مدن الشرق، أنه لم يشاهد في مدينة المدائن عظمة باب زويلة، ولا يرى مثل مئذنتيه اللتين عن جانبيه".

ثمة روايات تاريخية رسمية عن باب زويلة، يحفظها العقل الجمعي المصري ،لكنها تطغى، وبالأحرى تُخفي، روايات أخرى عديدة، صنعت دموية هذه البوابة

وهنا يُكمل الغيطاني حكاية المئذنتين، حيث قال في كتابه السابق ذكره إن المئذنتين كانتا أكبر مما هما الآن بكثير، حيث هدم أعلاهما الملك المؤيد شيخ المحمودي، وبنى المسجد الذي يحمل اسمه داخل باب زويلة.

الباب الدامي

ثمة روايات تاريخية رسمية عن باب زويلة، يحفظها العقل الجمعي المصري ،لكنها تطغى، وبالأحرى تُخفي، روايات أخرى عديدة، صنعت دموية هذه البوابة. وتقول الرواية الرسمية الشهيرة: إنه على بوابة زويلة، قام سيف الدين قطز، بتعليق رؤوس رسل هولاكو قائد التتار، بعد ذبحهم. وهناك رواية أخرى تقول إنه المكان الذي قطع فيه رأس السلطان طومان باي على مرأى من الناس، بواسطة الجنود العثمانيين الذين غزوا مصر، وعُلق رأسه على باب زويله، بأمر من السلطان العثماني سليم الأول، وكان ذلك نهاية لعصر المماليك، وبداية العهد العثماني الذي حول مصر من سلطنة مستقلة إلى ولاية تابعة.

الروايات الأخرى المتوارية أمام سطوة الروايات الرسمية، تتعلق بحسب ما ذكره جمال الغيطاني، بآلاف الرؤوس التي عُلقت على هذه البوابة "من فلاحين فقراء، ومظاليم، وأغراب ومتمردين، ولا شك المجرمين"، ومن ثم أصبح للبوابة وظيفة أخرى إلى جانب وظيفتها الأساسية التي أنشأت من أجلها، حتى أن الوظيفة الجديدة قد طغت على الأخرى.

إنها البوابة التي تثير الرعب والفزع في نفوس المصريين حتى يسيروا على الصراط المستقيم، فالذبح والشنق كان يتم علنياً أمام الناس، حتى تنزف الجثة كل دمائها، ثم تُدفن في المبنى المقابل للبوابة، ويحمل اسم "فرج بن برقوق".

هذا المبنى يُثير الفزع في نفس الرجل الأربعيني مصطفى بدر، والذي يخدم في مسجد الصالح طلائع، المقابل لبوابة زويلة، حيث قال لرصيف22: "أحياناً ما أفكر في الموتى الذين دفنوا في هذا المبنى، فأصاب برعب لا يمكنني الفكاك منه. هناك حكايات متوارثة من جيل إلى جيل حول الجثث التي ألقيت هنا والدماء التي سالت، حتى أن هذه المنطقة كانت تُسمى قديماً (الدم الأحمر)، وتخفيفاً لوطأة الكلمة، سميت في ما بعد (الدرب الأحمر)".

بحسب الغيطاني: لم يُستخدم باب زويلة، خلال العصر الفاطمي، كمكان لتعليق رؤوس المتمردين، حيث يقول إن المراجع التاريخية لم تُسجل أي حادثة إعدام عند زويلة طوال الحقبة الفاطمية، وهو يُرجع ذلك إلى حالة الاستقرار التي اتسم بها هذا العصر، والتي لم تتح فرصاً لمظاهر الشنق العلنية.

"كانت تُسمى قديماً (الدم الأحمر)، وتخفيفاً لوطأة الكلمة، سميت في ما بعد (الدرب الأحمر)"

أما المؤرخ ابن إياس، فقد سجل في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" أول حادثة صلب علنية على باب زويلة في العاشر من محرم سنة 694هـ، وكانت لجماعة من المماليك، كانوا قد هجموا ليلاً على إصطبلات الناس، وسرقوا خيولهم، ولما طلع النهار، تم القبض عليهم، فقطعت أياديهم، ثم صلبوا على باب زويلة، وقُسمت أجسادهم بالسيف، إلى نصفين. ومنذ تلك الواقعة يُخبرنا ابن إياس أن باب زويلة أصبح مقراً للرؤوس المقطوعة.

ومن أشهر حوادث الاعدام على هذه البوابة، حكاية امرأة تُسمى "الخناقة"، وقد اشتهر أمرها بين الناس، فكانت تحتال على النساء والأطفال، وتخنقهم وتأخذ ما عليهم من ثياب، فلما علم السلطان، أمر بتتبعها، حتى تم القبض عليها، وشنقها على باب زويلة.

ويضيف الغيطاني أنه في مناسبات الإعدام هذه، كان الناس يتجمهرون للفرجة، ويبلغ الزحام أشده، مشيراً إلى أن اختيار باب زويلة لهذه المهمة، لم يكن بمحض الصدفة، بل يرجع إلى كثافة حركة الناس عنده، فهو الباب المؤدي إلى أشد مناطق القاهرة ازدحاماً في ذلك الزمن، حيث يتوسط مجموعة من الأسواق المتتالية التي لا تخلو من الرواد ليلاً أو نهاراً، ومنه يخرج الناس متوجهين إلى مناطق القاهرة الجنوبية التي كانت عامرة بالناس. كما أن أي متجه للقلعة كان يمرّ به. ومن ثم تتحقق الغاية التي كان يريدها الحكام في ذلك الوقت وهي الشنق والإعدام العلني أمام جموع غفيرة من الناس، لإثارة الرعب والفزع في النفوس.

وهكذا توالت حوادث الإعدام وتعليق الرؤوس على باب زويلة حتى صارت أمراً عادياً، فهناك عُلقت رؤوس قادة ثورة العبيد، الذين عبروا النيل إلى الجيزة، معلنين تمردهم على السلطان، حيث أنشأوا سلطنة خاصة بهم، حتى تم القبض عليهم وإعدامهم. وعلى البوابة أيضاً، عُلقت رؤوس الكثير من الأمراء، من بينهم الذين تآمروا مع الأمير قايتباي ضد السلطان المؤيد. ويقول الغيطاني إنه طوال الاحتلال العثماني لمصر، تكررت حوادث الإعدام والشنق، لأتفه الأسباب، حتى أن ملك الأمراء خاير بك، شنق فلاحاً فقيراً، لأنه اقتلع عودين من النبات الطبي المسمى "خيار الشنبر".

الأساطير

أثار باب زويلة بدراميته وغموضه، مخيلة المصريين، فنسجوا حوله الكثير من الأساطير والحكايات العجائبية المثيرة، التي بددت جزءاً من تاريخه المعتم الدامي؛ فالباب الشهير كان يتكون من جزئين متجاورين، وعندما جاء المعز لدين الله إلى القاهرة، مر من أحد القسمين، فتفاءل الناس بذلك، وأهملوا المرور من القسم الثاني، الذي قيل عنه إن من مرّ منه لم تقض له حاجة، واستمر الأمر حتى سد.

وترجع تسمية هذا الباب إلى قبيلة زويلة المغربية التي جاءت إلى مصر مع الفتح الفاطمي، واحتلت جزءاً كبيراً من القاهرة، مكانها الآن حارة اليهود بشارع الموسكي، لكن الاسم الأكثر شهرة وشعبية، هو "بوابة المتولي". وثمة روايتان حول هذا الاسم؛ تقول الرواية الأولى إن القطب المتولي، أحد أولياء الله الصالحين، كان يقيم بجوار هذه البوابة المسماة بـ"زويلة"، حيث يطير بعد صلاة المغرب، من الكعبة الشريفة إلى البوابة، ليوزع كراماته على الفقراء والمحتاجين.

أثار باب زويلة بدراميته وغموضه، مخيلة المصريين، فنسجوا حوله الكثير من الأساطير والحكايات العجائبية المثيرة، التي بددت جزءاً من تاريخه المعتم الدامي

ويقول إدوارد لين في كتابه "المصريون المحدثون" إن بعض المشايخ أخبروه بوجود القطب المتولي الذي يُراقب الأولياء جميعهم بجوار بوابة زويلة، مكانه المفضل في القاهرة، وكثيراً ما يظهر القطب هناك، وهو متواضع ورثّ الثياب، ويصيح مرتين في الليل وهو على سطح الكعبة قائلًا: "يا أرحم الراحمين"، قبل أن ينطلق طائر إلى باب زويلة. ومن هنا أصبح الناس يُسمون هذا الباب الشهير، بـ"بوابة المتولي"، وحتى الآن يُطلق عليه هذا الاسم، ويقرأ المارة الفاتحة عند مرورهم به، ويتصدق البعض على الشحاذين الجالسين هناك.

ويصف ستانلي لين بول في كتابه "سيرة القاهرة"، معتقدات الناس في القطب المختفي عند الباب، ويقول إن له قدرة عجيبة في التنقل من مكان إلى آخر، مختفياً عن الأنظار، والمؤمنون يسبحون أثناء مرورهم بالباب، بينما يدفع الفضول غيرهم إلى النظر خلف الباب لعلهم يرونه.

وتقول الرواية الثانية، إن اسم المتولي يرجع إلى متولي الحسبة، وهو الشخص الذي كان يعمل بجوار بوابة زويلة، ويمنح تصاريح الدخول للمواطنين، حيث كانت القاهرة الفاطمية في ذلك الزمن، مقتصره على الخلفاء والأمراء، وكبار رجال الدولة.

ومن بين أشهر المعتقدات الشعبية الخاصة ببوابة زويلة، اعتقاد قديم لدى بعض نساء العامة بأن من لا تحبل، تستطيع أن تدق مسماراً في الباب، وتعقد عليه بعض الخيوط، وعندئذ قد تتحقق أمنيتها وتنجب ولداً. وكذلك المصابون بالصداع، كانوا يدقون مسماراً في البوابة لفك السحر. أما المصابون بوجع الأسنان فيخلعون سناً، ويدسونها في أحد الشقوق.

حتى الآن لا تزال البوابة العتيقة، قائمة وسط زحمة البيوت، بمعمارها الفريد، وتاريخها القاني والأساطير التي نسجت حولها، لكن أبرز ما يتعلق بها –بحسب الغيطاني- أن الآلاف قد لقوا حتفهم فوقها، بعضهم من أفراد الشعب المصري المغلوب على أمره، وآخرون ارتكبوا جرائم قد تكون صغيرة أو كبيرة، وأمراء متمردون، وأسرى انتهت حياتهم في ذلك المكان، وسلطان واحد، شنق وهو يدافع عن آخر ما تبقى في سلطنة مصر المستقلة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard