رغم أن منطقة الأباجية التى يقع بها هذا المكان تضمّ الكثير من الآثار والمساجد والمقابر التى تجذب إليها المئات يومياً، إلا أن هذا المكان، على حالته الراهنة والتى أحزنت الكثير، يبقى واحداً من أكثر الأماكن المثيرة للجدل في المنطقة، خصوصاً مع الحكايات الكثيرة التى تُنسج حوله، وكأنه النبع الذي لا ينضب والفيض الذي لا يتوقف عن بث كل ما هو متضارب ومتناقض في آن معاً.
يبدو المكان للوهلة الأولى كأثر مهمل مرّ الزمن عليه ولم يجد عنده ما يستحق التوقف، لكن خلف تلك الشروخ التي تضرب بجذورها في أعماق هذا البنيان قصص بدأت صغيرة وانتهت بأساطير يصعب أن يُصدقها بشر. نحن هنا في حضرة "مشهد إخوة يوسف"، وهو المكان الذي اختلف حوله الناس من سكان المنطقة، خصوصاً مع الفروق الكبيرة في أعمارهم.
يقول تامر حفني (25 سنة)، حاصل على دبلوم تجارة، أحد الشباب المقيمين بالمنطقة، إن المكان كان في الأصل مسجداً صغيراً أقيم في العصور البعيدة، وإنه سمع كثيراً من الحكايات عنه من والده ووالدته، حيث أقاما في المكان منذ نحو عقدين أو يزيد تعلما خلالها الكثير من التفاصيل التى تخص الآثار المنتشرة في المكان حتى بات كل منهما مرشداً سياحياً قادراً على أن يصحب الزوار في جولة بالمكان ليحكي كل كبيرة وصغيرة.
يتابع الحاج بأن الناس عرفت أن المشهد ليس مسجداً كما يتردد، ولا مقبرةً تضم رفات اثنين من إخوة سيدنا يوسف، وإنما هو مشهد
من بين تلك الحكايات كما يروى تامر لرصيف22 أن المكان نفسه يظهر به كثير من الأشباح ليلاً، وهو ما تسبب في إحجام الناس عن زيارته، والسبب وراء ذلك كما يقول هو أن محيط المكان شهد جريمة قتل راحت ضحيتها فتاة صغيرة، وأنهم اكتشفوا الأمر حين فتحوا أحد القبور القريبة ووجدوا الفتاة مدفونة ويبدو من الدفن أنها كانت حية، ولذلك "روحها تخرج يومياً وتصدر أصواتاً وكأنها استغاثات".
يتابع : "اسألْ أي حد هنا عن الموضوع ده هيقولك أنه حقيقي، وفي ناس شافت البنت نفسها اللي ماتت"، ورغم أنه لا يوجد أي أخبار نُشرت في الصحف أو المواقع المصرية عن جريمة كهذه في تلك المنطقة إلا أن "تامر" يبدو مقتنعاً بالرواية التي ينقلها للغير تماماً كما نُقلت إليه من أخرين.
وبفارق نحو 40 عاماً عن تامر نجد رواية أخرى يرويها لنا الحاج خليل الدرديري، موظف على المعاش، والذي قال: "الناس كانت بتيجي هنا كتير زمان، لكن معدش كتير بيجي لأن المكان بقى حالته صعبة ومعدش فيه روح، وثانياً بسبب الكلام الكتير عن أن زيارة المكان حرام".
ويتابع الحاج بأن الناس عرفت أن المشهد ليس مسجداً كما يتردد، ولا مقبرةً تضم رفات اثنين من إخوة سيدنا يوسف، وإنما هو مشهد، وبالتالي لم تعد الناس المهمومة تأتي إلى هنا لتطلب فك الكرب أو تحقيق أمنية كما كان يحدث في السابق، حين كان الاعتقاد السائد وقتها أن المكان ضريح لإخوة سيدنا يوسف، وبالتالي كان البعض يأتي للتبرك بالمكان والدعاء بقضاء الحاجة.
على الجهة المقابلة يُقسم فاروق خلف (69 عاماً)، تاجر أخشاب، أن المكان عبارة عن مقبرة تضمّ رفات اثنين من إخوة سيدنا يوسف رغم أنه لا يعرف اسميهما الحقيقيين، لكنه متأكد من ذلك، مضيفاً أن المقبرة تعرضت لكثير من المشاكل بسبب الزمن لكنه عرف من نجله أن وزارة الآثار وضعت المقبرة ـ كما يسميهاـ ضمن خطة التطوير والترميم، و"سيأتي اليوم الذي تعود فيها إلى سابق عهدها، خصوصاً أن المكان له كرامات وسبق وحقق أمنيات البعض" بحسب زعمه.
من أكثر الأشياء المميزة للمشهد المحراب الثلاثي الذي يعتبر من أجمل المحاريب الجصية التي تعود إلى العصر الفاطمي
على بعد أمتار من المكان، ومن الروايات المتضاربة، كانت هناك جنازة وصلت للتوّ لإتمام عملية الدفن بالمقابر المجاورة، ومن بين المشاركين في الجنازة حرص محمود رمضان (50 عاماً)، بائع خضار، وشقيقه عبد الله (33 عاماً)، عامل باليومية، على التوجه صوب المشهد، وقراءة الفاتحة، وبعد ذلك رفع كلٌّ منهما يده بالدعاء.
يؤكد محمود لرصيف22 أنه تعود حين يرى أي ضريح أو مكان لـوليّ أو "صاحب كرامات" ـ بحسب وصفه ـ أن يتوجه أمامه بالدعاء وهي العادة التي تربى عليها، مشدداً على أنه دعا الله في تلك الأثناء بأن يرزقه المال الكافي لسداد ديونه كما دعا الله "أنه يحنن قلب أولاده عليه بعد أن هجروه منذ فترة، وبات يعانى الوحدة في ظل وفاة زوجته منذ سنوات بعيدة".
"لكن يقال إن هذا مشهد وليس ضريحاً أو...؟". يقاطعني محمود قبل أن أكمل السؤال: "ربنا وحده العالم بالحقيقة. هو إحنا يعني كنا عايشين وقتها وعارفين إيه اللي حصل؟"
أما شقيقه عبد الله فأكد أنه دعا الله أن يرزقه بالصحة والعافية لأنها رأس ماله الوحيد فهو يعمل بالأجرة يومياً، وإذا تعب لفترة يتوقف عن العمل، تماماً كما حدث في بداية أزمة كورونا عندما وجد نفسه قيد الإقامة الجبرية في البيت وغير قادر على توفير نفقات المعيشة.
ولوضع حد لهذا الجدل سألنا أهل التخصص، حيث قال الباحث الأثري خالد شعبان: "هذا المكان عبارة عن مشهد تمّ تدشينه في عهد الدولة الأيوبية، حيث كان أحد الرجال الصالحين متواجداً في هذا المكان، وقبل أن يخلد إلى النوم قرأ سورة يوسف، ثم صلى على النبي ونام، فشاهد في منامه من يقول له: هذه قصتنا فمن أعلمك بها؟ فردّ بقوله: هذه القصة مذكورة في كتاب الله الذي أنزله على نبيه محمد فمن أنت؟ فأجابه: أنا روبيل بن يعقوب إسرائيل الله، وأحد إخوة يوسف. وعندما استيقظ هذا الرجل الصالح في الصباح كشف للجميع ما رأى، ووصل الأمر إلى إخبار الخليفة برؤياه، وفي النهاية حدث إجماع على بناء المشهد، وهو ما يردّ على من يقول إنه قبر حقيقي، فهو ليس كذلك."
سألته: "وهل المشهد مسجل كأثر بوزارة الآثار المصرية؟"، فأجاب: "بالتأكيد!"، مضيفاً أنه تم تسجيله تحت رقم 301 بقائمة الآثار الإسلامية والقبطية.
وتابع: "المشهد يتكون من مربع يبلغ طول ضلعه 5.73 متر، وارتفاعه 4.64 متر، ومن أكثر الأشياء المميزة للمشهد المحراب الثلاثي الذي يعتبر من أجمل المحاريب الجصية التي تعود إلى العصر الفاطمي، وتشغل المحاريب الثلاثة القبلة كلها تقريباً، إذ يبلغ سعة المتوسط منها 2.15 متر، وارتفاعه 4.05 متر، ويبلغ عرض كل واحد من الجانبين 1.45 2.85 متر".
للقلب أسباب وللكربِ طرق قد لا يتفق عليها العقل والنقل
"وماذا إذاً عن الحكايات التي تروى عن المكان و"كراماته" إذا جاز التعبير؟" يردّ على هذا السؤال الشيخ محمود عبدالمنعم، قائلاً: "زيارة القبر من أجل الدعاء عنده، والظن والاعتقاد في أن ذلك أدعى للإجابة، هو نوع من أنواع البدع التي حذر منها العلماء في كل العصور، والذين أكدوا بدورهم أنها فعل محدث لم يفعله السلف."
وأضاف: "لو كان للدعاء عند القبر مزية لما تركه السلف، وهم الأحرص على كل خير، وأذكر هؤلاء بما قاله ابن تيمية: وأما الزيارة البدعية، فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يطلب منه الدعاء، والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء، فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة، لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الصحابة، لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عند غيره".
لكن الكثير من الناس يأتي إلى هذا المكان ويطلب حاجته غير آبه بمن يحذر، فللقلب أسباب وللكربِ طرق قد لا يتفق عليها العقل والنقل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع