فى صباح الجمعة من كل أسبوع يبدأ الزوّار والمريدون في التوافد على تلك البقعة من الأرض، والتي يرون فيها قدرة خاصة على صنع المعجزات فى زمن لم يعد يعترف بأى شيء خارج حدود العقل والمنطق.
إذا كنتم من خارج الحيّ فلن تلفت انتباهكم تلك القبور المتراصة إلى جوار بعضها بعضاً؛ فالمشهد عادي ويتكرّر كثيراً في كلّ البلدان، غير أن زاوية صغيرة تتقدم تلك المقابر، يطلق عليها "الشهداء"، سوف تستوقفكم لا محالة. تداعب فضولكم، خصوصاً حين ترون هذا الجمع يقف أمامها يتمسح بجزء من الحائط طالباً البركة أو تحقيق أمنية.
هنا في منطقة الششتاوي بمدينة المحلة الكبرى في محافظة الغربية شمال القاهرة، تعوّد البعض بعد ظهيرة كلّ جمعة أن يأتي إلى تلك المنطقة التي يطلق عليها "المنطقة المبروكة"، حيث يوجد أثر كوع النبى محمّد كما هو مكتوب أعلى اللوحة المحفورة في أحد المقامات، وكما يردّد أهالي المنطقة وكذلك الزوّار والروّاد من كلّ المحافظات.
يقول الشيخ مغاوري الفار (77 عاماً)، دفان المنطقة، لرصيف22: "لا أحد يعلم كيف جاء هذا الأثر إلى هنا. ولكن كلّ ما نعرفه أن سيدنا النبي معروف عنه أنه إذا لمس شيئاً أصبح ليناً وطيعاً، وقد لمس بكوعه الشريف ذلك الحجر، فأصبح بهذا الشكل، وقد جلبه أحدهم إلى مصر، والناس تأتي إلى هنا للتبرّك به."
سألته: "إن كان أثراً بالفعل ألم يكن من الأولى أن يُدرج ضمن قوائم وزارة الآثار أو الأوقاف ونرى لافتة مدونة بذلك عليه؟" فأجاب بعد تفكير: "لا، مش عارف والله."
من بين الحضور في هذا اليوم التقينا الحاجة سيدة (55 عاماً)، والتي حضرت من إحدى القرى التابعة لمدينة كفر الزيات بالغربية، وتعودت أن تأتي إلى المكان بين فترة وأخرى، خصوصاً إذا كانت تعاني من أزمة ما، وتبحث عن حلٍّ لها. تقول لرصيف22: ا"لدنيا مليانة بلاوي ومصايب، وبين فترة وأخرى تعوّدت الحضور هنا."
وواصلت: "أول مرّة جئتُ فيها إلى هنا كانت منذ خمس سنوات، بعدما عانت ابنتي لفترة طويلة، وكان كلّما يتقدم أحد لطلب يدها، تحصل له مشكلة. فتعبتْ جدّاً وقتها، وقفلتْ على نفسها الأبواب، ورفضت التعامل مع أيّ شخص. فجئتُ إلى هنا، أمام أثر كوع النبي، وزرتُ مقام سيدنا عمرو بن العاص، وأشعلتُ الشمع، وطلبت شفاعتهما ليحلّ الله أزمة ابنتي. وقد كان؛ فبعدها بشهرٍ تقدّم لها أحد الشباب، وتزوّجا أخيراً، وهي والآن أمّ لطفلتين (زيّ القمر)."
قال الشيخ: "كلّ ما نعرفه أن سيدنا النبي معروفٌ عنه أنه إذا لمس شيئاً أصبح ليناً وطيعاً، وقد لمس بكوعه الشريف ذلك الحجر، فأصبح بهذا الشكل، وقد جلبه أحدهم إلى مصر، والناس تأتي إلى هنا للتبرّك به
سيدة أخرى جاءت إلى هنا من محافظة المنوفية طلباً للحمل، بعدما أكّد لها الأطباء أنها غير قادرة على الإنجاب، وأنها بحاجة إلى معجزة. فجاءت إلى هنا تبحث عن المعجزة.
تقول نوال (33 عاماً) لرصيف22: "تزوّجتُ منذ أكثر من سبع سنوات، وبعدما تأخّر حملي بدأ زوجي يهددني بأنه سيطلقني إذا لم أنجب، ومنذ ذلك اليوم وأنا أبحث عن أيّ أمل يجعل زواجي يستمرّ ويجعلني أمّاً."
وتروي: "فى البداية ذهبتُ إلى أكثر من طبيب، وبعد فحص وتحاليل أكّدوا جميعاً أننى بحاجة إلى معجزة لأحمل. تزوّج زوجي بأخرى عند ذلك ورفض أن يطلقني. فجرّبت كلّ الحلول. ذهبتُ إلى الشيوخ، ومنهم من قال إني (معمول لي سحر سفلي مدفون في أحد القبور)، ومنهم من قال إني (مربوطة). ذهبت إلى مقامات أولياء الله الصالحين بالقاهرة، ولم يحدث شيء. وأخيراً قبل شهرين ذهبت إلى منطقة "الكحريتة" في المنوفية، حيث تذهب إلى هناك كلُّ من فشلت في الحمل لتطلب بركات الشيخ وتحمل. ورغم أن الطقوس التي تُمارس هناك شاقّة لكنني وافقتُ ولم أمانعْ ونفذتها بالحرف الواحد."
وتشرح نوال: "على المرأة أن تصعد إلى أعلى الجبل الموجود في تلك المنطقة وتردد: (بركاتك يا سيدي الأمير) ثلاث مرّات. وبعد ذلك تلقي بنفسها من فوق الجبل حتى تصل إلى الأرض، وتردّد بعدها الدّعوات وتطلب ما تشاء. ثمّ تغادر وتنتظر حتى تحلّ عليها البركة وتصبح حاملاً."
تواصل: "انتظرت ولم يحدثْ شيء، وفي أحد الأيام نصحتني جارتي أن أتى إلى هنا حيث المنطقة المبروكة، وجئتُ منذ الصباح وزرتُ مقام سيدنا عمرو بن العاص، وطلبتُ بركاته لأصبح حاملاً. بعدها جئت إلى هنا لأطلب الطلب نفسه."
على بعد 25 متراً، يوجد ثاني أهمّ عنصر بالمنطقة المبروكة، كما يقول عنه الناس أنه مقام عمرو بن العاص، بينما تقول لافتة وزارة الآثار المصرية أنه مقام أولاده.
يروي لنا "عم مختار"، أحد أبناء الطريقة الجيلانية والمكلّف بحراسة المقام: "هنا مقام أولاد سيّدنا عمرو، وليس هو نفسه." ويكمل حديثه لرصيف22 ليحكي عن المواقف التي صادفها مع الزوّار ويقول: "في أحد المرّات جاءت فتاة، وبعد فترة من الدعاء وتوليع الشّمع سألتني عن (صندوق الأسامي). فسألتها بدوري عنه لأنني لا أعرفه، فأخبرتني أنها جاءت لطلب الحصول على زوج بعدما تزوّجت أغلب بنات قريتها، وبقيت هي دون زواج، في وقت تتعرّض فيه يومياً للمعايرة من الفتيات اللاتي يصغرنها سنّاً، فيما تهامس البعضُ منهنّ بأنها على علاقة غير شرعية بأحد الشباب وترفض الزواج حتى لا يفتضح أمرها."
ويضيف: "روت لي والدموع تملأ عينيها كيف تريد الزواج لتردّ على كلّ هؤلاء، وبعدها قالت لي إنها سمعت أن كلّ مقام يكون به صندوق يمكن أن تضع فيه اسم العريس الذي تريد الارتباط به، لكنني أخبرتها أنه لا توجد هنا صناديق كتلك. فعادت إلى الضريح لتطوف حوله سبع مرّات، وهي تردّد اسم شابّ محدد، وعندما انتهت، وبينما تغادر قالت لي: (أنا عارفة إن سيدنا مش هيكسفني وهيحقق لي كلّ اللي بحلم بيه)."
سيدة أخرى جاءت إلى هنا من محافظة المنوفية طلباً للحمل، بعدما أكّد لها الأطباء أنها غير قادرة على الإنجاب، وأنها بحاجة إلى معجزة. فجاءت إلى هنا تبحث عن المعجزة
يحكي موقفاً آخر ويقول: "إحدى السيدات جاءت لتطلب الشفاعة، وحتى لا يتزوج ابنها من الفتاة التي أحبّها لأنها تريد أن تزوّجه ابنة أختها، وأخرى جاءت لتطلب أن يطلق زوجها زوجته الثانية."
"وهل كلّ الحضور من النساء؟". يجيب: "أغلبهم، لكن هناك رجالاً يأتون إلى هنا أيضاً. أذكر أن أحدهم جاء ليطلب فكّ كربه بعد أن تزايدت ديونه، وبات مهدداً بالسجن، وآخر جاء ليطلب أن يجد وظيفة تدرّ عليه أيّ دخل بعد أن تمّ فصله من عمله، ومن أجل ألا يتشرّد أولاده."
"هل يعود إليك أيّ منهم مؤكداً أن طلباته قد نُفّذت؟" "نعم، بالطبع. خصوصاً أن من تعوّد على زيارة المكان لا يفارقه ولا يقاطعه، وسمعت من كثيرين أنهم رأوا في المنام سيدنا عمرو بن العاص وهو يؤكّد عليهم أن طلباتهم ستنفّذ، وأن الله سوف يستجيب لهم."
سألته: "ولكن كما أخبرتني فإن المدفون هنا ليس عمرو بن العاص!" أجاب: "نعم. المدفون هنا هم أبناؤه و12 من شهداء المسلمين الأوائل حين دخلوا مصر لينشروا فيها الإسلام، ولكن أغلب الناس يعتقدون أن سيدنا عمرو هو المدفون هنا رغم أننا ننفي لهم دائماً، ورغم ما هو مدوّن على اللافتات بأن المدفون هنا هم أولاده لكنهم مصرّون، خصوصاً أن أغلبهم لا يجيدون القراءة أو الكتابة. ولقد وصل الأمر بأحدهم، وهو مسنّ، إلى القول بأن الحضور إلى هنا والطواف حول المقام 7 مرّات يعادل العمرة."
يقول الدكتور محمود حامد، أستاذ الطب النفسي: "السيدات يمِلن أكثر من الرجال إلى تصديق كلّ ما له علاقة بالخرافات والمعجزات وغيرها من الحكايات التي تُروى عن المقامات والشيوخ وأصحاب البركات، ومع الضغوط التي يتعرّضن لها، وقلّة التعليم الذي يحصلن عليه، يبقى السبيل إلى تحقيق ما يحلمن به زيارة الأضرحة والمقامات بحثاً عن تحقيق ما يحلمون به، خصوصاً مع الروايات التي تتناقلها السيدات عن واحدة ذهبت إلى أحد الأضرحة وطلبت كذا فاستجاب الشيخ لها وهكذا."
لقد وصل الأمر بأحدهم إلى القول بأن الحضور إلى هنا والطواف حول المقام 7 مرّات يعادل العمرة
وأضاف لرصيف22: "التربية والموروث الذي نتناقله عن الأجداد له أيضاً دور كبير في تصديق مثل تلك الخرافات، ولذا فأنا أرى أن مثل هؤلاء بحاجة إلى علاج نفسي."
نقلنا الصورة إلى الدكتور محمد الكحلاوي، أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، ففجر المفاجأة وقال لرصيف22: "لا هذا أثرَ كوع النبى، ولا هو مقاماً لأولاد عمرو ابن العاص. كلّ هذا دجل، وليس له من العلم رصيد، ولا يوجد شيء علمي أو تاريخي يؤكد هذا الكلام. يحبّ الناس أن يضفوا صفة المزار على مقابرهم للتأكيد على أن أمواتهم في كنف وجوار مكان مبارك، ولذا تجدون المقابر في مصر مرتبطة بالشيوخ والأولياء والصحابة والتابعين للحصول على نوع من التبرّك مثل مقابر الإمام الشافعي والإمام اللّيث، وهذا فكر موروث من عادات غير حقيقية وغير إسلامية."
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم