يقول عزيز بينبين إنه اكتشف أمرين في السجن: الله وذاته. وحين كان سعيد تقي الدين معتقلاً لدى اليابانيين، تحسّر على إيمانه المفقود، وكان يغبط المصلّين من المساجين. تجربتان قد تكفيان لمحاولة فهم علاقة الإنسان بقوة عليا، فوق قدرة البشر، في حالات مماثلة.
فهل يكون طلب الامتلاء في حده الأقصى في حالة الفقد والخسران والنقص؟ أيكون الرجاء صنو القسوة ؟ واستحضار الغيب أيستدعيه انسحاق الذات؟ إنما مع هذه الأسئلة، يحضر مشهد من رواية "المايسترو" يؤكّد أنه في الحبّ أيضاً يحضر الله، فتمتلئ النفس نعمة وصفاءً.
صندوق بندورا الأسطوري الشهير خرجت منه الشرور التي تصيب البشر جميعها، وبفعل فضول بشري لتبين محتواه، إلا شرّاً واحداً حالما سارعت بندورا إلى الإغلاق عليه، ليبقى حبيساً في صندوقها، هو اليأس.
وبفضل هذا الحبس الأبدي (بتأويل الأسطورة) يتمتّع الإنسان بالأمل، ويقوى على الصمود، ويشحن عزيمته لدى كلّ إخفاق. وأمام الموت –بوصفه حقاً في المفهوم الديني- يشعر المؤمنون بقوة الإلهي إزاء الضعف البشري، فيتأكّد لهم الرجاء.
سيرة المغربي عزيز بينبين
في سيرته الذاتية "تازماموت"، يدوّن المغربي عزيز بينبين، الذي أمضى ثمانية عشر عاماً في السجون، تجربةَ تحرّره من كراهية سجّانيه. ولعلّ هذه الفكرة استلهمها الروائي اللبناني أحمد علي الزين في ثلاثية "عبد الجليل الغزال".
يقول عزيز بينبين إنه اكتشف أمرين في السجن: الله وذاته. وحين كان سعيد تقي الدين معتقلاً لدى اليابانيين، تحسّر على إيمانه المفقود، وكان يغبط المصلّين من المساجين. تجربتان قد تكفيان لمحاولة فهم علاقة الإنسان بقوة عليا، فوق قدرة البشر، في حالات مماثلة
كما اتكأ عليها الروائي المغربي الطاهر بنجلون في رواية السيرة الغيرية "تلك العتمة الباهرة"؛ إذ يسرد على لسان الشخصية المحورية المتخيلة لعزيز بينبين قوله إن قسوة هؤلاء الجنود ما عادت تعنيه، فازداد إيمانه بالله العظيم. وحين رأى النور أدرك أنه علامة على رحمة الله، فشعر بصفاء السريرة وبالطمأنينة؛ مؤكداً إذ ذاك أن "معظم الذين قضوا لم يقضوا جوعاً، بل حقداً؛ فالحقد يضعف".
نقتبس هذه السطور من السيرة الذاتية: "انخرطت في تجربة واختبار سيعطيان حياتي معناها... لقد تكشفت لي هذه التجربة عن شيئين أساسيين: الله ونفسي". غير أنه لم يصل إلى هذه المرحلة إلا بعد مروره بحالة إيمان طارئ بما يشبه الصفقة بينه وبين ربّه، على ما يذهب؛ ذلك قبل المحاكمة. وحالما صدر الحكم، انهار إيمانه المهتزّ الوليد، فامتنع عن الصلاة بغير تمرّد أو سخط، مشبّهاً حاله بحال مورسو، الشخصية المحورية في رواية "الغريب" لألبير كامو، يوم دفن أمّه.
في قصة "لعنة كتاب" من مجموعة "موجة نار"، يقول سعيد تقي الدين بوصفه راوياً شخصية في القصة: "إن نفس المرء تبقى ميتة حتى يملأها الإيمان فتتكهرب وتحيا".
في قصة "لعنة كتاب" من مجموعة "موجة نار"، يقول سعيد تقي الدين بوصفه راوياً شخصية في القصة: "إن نفس المرء تبقى ميتة حتى يملأها الإيمان فتتكهرب وتحيا".
وفي سياق النص الساخر نعرف أن الكتاب المقصود باللعنة، بغلافه الجلدي الأحمر، هو "مجاني الأدب"، المضمّخ بالقيم العربية، لصاحبه لويس شيخو، وأن الشخصية المحورية قد غيرتها الحرب وأهوالها، فجعلت من التهافت على المال معبوداً لها، مبتعدة عن الله؛ لتضعنا النهاية المأسوية لهذه الشخصية أمام مفهوم الحياة الإيمانية الحقيقية، ومعنى محور: الحياة /الموت في بعده الوجودي الروحي، بالقول إن الميت قد آمن بالكتاب الأحمر ثم كفر. أي أنه كفر بما يجعله في قلب الله (بالمفهوم المسيحي).
يتحدّث تقي الدين (شغل منصباً دبلوماسياً في الفليبين، كما عمل بالتجارة فيها) في غير مناسبة، عن أهوال خبرها وشهدها في سجن "فورت سانتياغو" الذي أنشأه اليابانيون في مانيلا، وقد اعتقل إبان الحرب العالمية الثانية إلى أن حرّر على يد القوات الأميركية بعد ما يزيد عن خمسين يوماً، فيقول: "متى عمر القلب بالإيمان عمر بالإقدام".
ويتابع في كتابه "غبار البحيرة"، وهو مجموعة مقالات، قائلاً: "لا يقاتل إلا المؤمنون بشيء عظيم". وتحت عنوان "أشيائي المفقودة والمردودة"، يعترف بأنه فجع بإيمانه بالله. تعود تلك الحسرة إلى أنه ربي في بيت تعلّم فيه التقوى التي لم تكن طقوساً بقدر ما كانت سلوكاً.
يقول: "أنا اليوم أحسد وأغبط كل من اعتقد بالعزّة الإلهية. وإن من الجريمة أن يسعى أحد إلى هدم هذا المعتقد في نفس مؤمنة به".
وأشد ما آلمه حين كان معتقلاً شعوره بأنه وحيد ومتروك؛ إذ ليس لديه رجاء أو من يوجّه صلاته إليه وقت شدّة، مثلما لدى السجناء الآخرين المؤمنين، على تنوّع دياناتهم. ويستلهم بينبين قولاً دالّاً لمرسيل بروست، مفاده: "كما الشعراء في وقت التغنّي، وكما العشّاق في مبتدأ الحبّ، يكون المرضى أقرب إلى أرواحهم". ويتابع صاحب السيرة: "كذلك هم السجناء، يكونون أقرب إلى أرواحهم".
تحوّلات في مستوى العقائد
لنا أن نسأل من خلال تجربتي عزيز وسعيد وتحولاتهما الإيمانية، عن دور الفجائع، الحروب والسجون والتعذيب على وجه مخصوص، في ما تولّده من مشاعر متناقضة، وما تنشئه من تحوّلات في مستوى العقائد: فإمّا الكفر بالحياة وبكل ما هو جميل وانسحاق ذات تجد تمثلات لها بسحق مضاد لذات الآخر، وإما، في مرحلة متقدّمة بعد الغضب والاستنكار، تسترد صفاء مفقوداً، فلا ملاذ لها إلا بالحبّ؛ والله هو جوهر هذا الحب.
لنا أن نسأل من خلال تجربتي عزيز وسعيد وتحولاتهما الإيمانية، عن دور السجون والتعذيب في ما تنشئه من تحوّلات في مستوى العقائد: فإمّا الكفر بالحياة وبكل ما هو جميل وإما، في مرحلة متقدّمة بعد الغضب والاستنكار تسترد صفاءً مفقوداً
في حالة انفعالية تبدو نقيضة للكراهية والألم الجسدي والمعنوي معاً للسجين المعنف، تطالعنا تجربة إحدى الشخصيات الأنثوية في التخييل السردي في رواية "المايسترو" لصاحبها سعد القرش، هي حالة الحبّ. بل لنقل إنه الشعور بالرضا والامتلاء بعد اكتشاف حب حقيقي مشتهى ولم يختبر من قبل.
بمعنى وجودي، انكشاف حجاب المعنى/ حقيقته Alethea (معنى الحب) بالتجربة، في لحظة لا تكاد تشرق حتى تغيب، لكن أثرها الروحي يتردّد في الوجدان. وإذا ما عرّينا هذه الحالة لوجدنا أنها تنطوي كسابقتها على شعور دفين بعدم الإنصاف والغضب جرّاء ذلك. فحين حضر الحب المعادل للجمال تجلّى الإلهي، أما في حالة السجين، يحضر النور الإلهي (طلب الرحمة) في العتمة وبغياب أي رأفة.
فبعد علاقة حبّ بين سيدة معنّفة من زوجها ومهانة وحبيسة حياة لم ترتضيها ورجل غريب، تعلن لشريكها الذي أحسّ بما تمتّعت به من سكينة، وقد مسّه شيء من ضياء وجهها، قائلة: "لأوّل مرّة أشعر بأنني قريبة من الله، وأحبّه".
لفهم أبعاد هذه الجملة علينا فهم التجربة: لعلّه اختبار استرداد الذات الإنسانية المستلبة - بعيداً عن التصنيف الجندري- والإحساس بجمال يتّسع ليغطي مساحة عالم له إله جميل وعادل ومحبّ، وبأنها جزء منه وليست منفية فيه. القرب من الله لا يفهم منه سوى قربها من ذاتها وشعورها بالامتلاء والعدل بعد النقص والخسران؛ وهو شعور (ما فوق الإحساس) لا يحتسب بالزمن الفيزيقي.
حالتان على المستوى النفسي-الشعوري، وإن ظهرتا متناقضتين، فإن معادل الحضور والغياب، أو النقص والامتلاء يجمعهما. وعليه، هل للدين تكوين نفسي قبل أي تفسير آخر، كما حلّل سيغموند فرويد في كتابه "مستقبل وهم"؟ لنتأمّل بعضاً من ما جاء فيه: للأفكار الدينية تكوين نفسي.
فهذه الأفكار التي تطرح نفسها على أنها معتقدات، ليست خلاصة التجربة أو النتيجة النهائية للتأمل والتفكير، إنما هي توهّمات. تحقيق لأقدم رغبات البشرية؛ وسر قوتها هو قوة هذه الرغبات. إن إطالة الحياة الأرضية بحياة مستقبلية تقدم إطار الزمان والمكان الذي ستتحقق فيه تلك الرغبات".
أما بعد، فقد يشوّش الفكر ويضطرب الوعي في حالة الانفعال الشديد بالجسد وحواسه، وقد يهتزّ ما كنا نعتقده ونسلّم به، لتحضر الإواليات الدفاعية اللاواعية في النفس، راجية الخلاص، وأكثر من ذلك، محقّقة له من خلال تيار روحي يمنحها قوة مستديمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون