شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"آباء غائبون ومؤسسات فاشلة ودولة منشغلة بالأمن السياسي"… أطفال وقصّر في سجون مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 22 يناير 202003:38 م

لم تكن قضية قتل الطالب المصري محمود البنا على يد كل من محمد راجح، إسلام عواد، مصطفى محمد وإسلام البخ، الأولى من نوعها التي يرتكبها أفراد دون سن الثامنة عشر.

يعرف القانون المصري الطفل بأنه: "كل فرد لم يتجاوز سنه 18سنة ميلادية كاملة"، وبحسب القانون رقم 12 لسنة 1996، والمعدل بالقانون رقم 126 لسنة 2008، والمعروف باسم قانون الطفل: "تمتنع المسؤولية الجنائية على الطفل الذي لم يتجاوز اثنتي عشرة سنة ميلادية كاملة وقت ارتكاب الجريمة، كما لا يحكم بالإعدام ولا بالسجن المؤبد ولا بالسجن المشدد، على المتهم الذي لم يتجاوز سنه الثامنة عشرة ميلادية كاملة وقت ارتكاب الجريمة".

ويرى أحمد فايز، محامي بالمؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة، ارتكاب القصّر للجرائم عادة ما تكون بسبب غياب الأسرة كعنصر رئيسي، وذلك بحسب القضايا العديدة التي تعرض لها في عمله، ولكن هناك عوامل أخرى.

"في قسم الشرطة حتى الموت"

يتعامل فايز مع قضايا خاصة بالأطفال والقصّر، وثمة قصص تشبه ما حدث لمحمود البنا، مثل قضية الطالب محمود (اسم مستعار)، والذي لم يتجاوز السادسة عشر من عمره، واتهم بضرب أفضى إلى موت، وتأتي ملابسات الحادث حول تحرش الرجل الستيني صاحب المحل الذي يعمل فيه محمود، بأخته الصغرى.

يحكي فايز أنَّ محمود ترك شقيقته، وعمرها 7 سنوات، عند رب عمله بعد أن أرسله لقضاء حاجة له في مكان يبعد 20 دقيقة عن محل العمل، في محاولة منه للتحرش بالطفلة.

ويضيف فايز أنه بعودة محمود قصت شقيقته ما حدث، ما جعله يحاول الدفاع عنها، فأخذ سكيناً من المنزل، وطلب من صاحب عمله توصيله إلى مكان تواجد والدته، التي تركت المنزل غاضبة من والدهم، وفي الطريق ضرب محمود المتحرش في محاولة منه لإخافته، ولكن السكين وصلت إلى عنقه ما أدى إلى وفاته.

ويتابع فايز: "سبب قيام محمود بهذا شعوره بالمسؤولية تجاه شقيقته، ثم قضى محمود 10 أشهر في الحبس في قسم الشرطة، ما يعد منافياً لقانون الطفل".

وعن أصعب الحالات التي صادفها فايز في المؤسسة، ياسين ( 15 عاما)، والمتهم بهتك العرض، توفي أثناء احتجازه في قسم منشية ناصر، نظراً لاحتجازه في القسم، وليس في دار الرعاية.

"في دار الرعاية مع عاهرات"

تُخفى أحياناً عن المتابعين لأخبار العنف المتعلقة بالقصَّّر في مصر، الخلفية الاجتماعية القاسية التي ينحدر منها الكثير منهم، حيث العنف العائلي، والفقر، وتشرد العائلة، مثل قصة مريم (16 عاماً) التي احتجزتها الشرطة أثناء توجّهها إلى حفلة خطوبة صديقتها، بتهمة التحريض على الفسق، وتعاني مريم في الأساس من بطش عائلة والدتها، التي ضغطت على والدها للانفصال عن أمها، لأنه دون المستوى الاجتماعي والمادي للعائلة، ما أدى إلى تشريد العائلة بأكملها.

محمود (16 عاماً) ترك شقيقته الصغيرة عند رب عمله بعد أن أرسله لقضاء حاجة له، في محاولة منه للتحرش بالطفلة، وعندما رجع، وعرف ما حدث، حاول إخافته بسكين فقتله، وقضى 10 أشهر في السجن، وهو ما يخالف القوانين الخاصة بالطفل

بعد الانفصال مُنعت الأم من مقابلة أبنائها، وسار الأب في طريق الإدمان والسكر، تاركاً أبناءه للتعامل بأنفسهم مع الحياة، فما كان من مريم إلا الهرب والعيش مع صديقتها.

ويعلق فايز على هذه القضية في تصريحات لرصيف22 موضحاً أن مريم تجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وإيداعها بدار الرعاية يصنع منها فتاة أخرى، فإذا كانت متهمة بالتحريض على الفسق فقط، فعند خروجها من الدار ستتجه بالفعل لهذا الطريق، نظراً لما تعرضت له من سوء معاملة وعدم توجيه في الدار، وإيداعها مع متهمات محترفات للجنس، مضيفاً، أن هناك عدداً من سجينات الدار لهن سمعة في الاعتداء الجنسي على البنات، ما يُعرِّض مريم للعديد من المخاطر.

السياسة ليست بعيدة عن الأطفال والقصّر، فالطالب ممدوح قبض عليه وهو في الـ17 من عمره، بتهمة الانضمام إلى 6 إبريل، وبعد قضائه للمدة المحددة خرج لاستكمال حياته، وانتسب إلى كلية الحقوق، ولكنه الآن متهم بانضمامه لجماعة الإخوان المسلمين، ومسجون في قضية "أمن دولة"، بحسب فايز.

"عائلات مفككة ومؤسسات فاشلة"

لا يستطيع أحد تجاهل مظاهر العنف المتفشية في الأصغر سناً، الأمر الذي دفع أحد المساعدين السابقين لوزير الداخلية، اللواء حسام لاشين، للدعوة إلى خفض السن القانون للحدث أو القاصر من 18 عاماً إلى 16 عاماً، بحجة أن معظم اعتداءات الاغتصاب والقتل والسرقة يرتكبها الأشخاص في هذه المرحلة العمرية.

أرجع سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية، أسباب انتشار هذه الحوادث، إلى غياب دور المؤسسات المسؤولة عن سلوك الأفراد في المجتمع، مشيراً إلى وجود خمس مؤسسات رئيسية تشكل سلوك المواطنين: تأتي في مقدمتهم الأسرة، ثم المدرسة، ويليها الإعلام، والمؤسسات الدينية، وأخيراً القانون.

وأعرب صادق لرصيف22، عن استيائه لاختلال المعايير الأخلاقية عند الأسرة، وأضاف: "المدرسة بدورها ساهمت في نشر العنف، نظراً لعدم اتخاذها إجراءات حاسمة بشأن عنف الطلاب تجاه بعضهم البعض، والاهتمام بالأمن السياسي جاء على حساب الأمن المجتمعي"، مطالباً بضرورة القضاء على ظاهرة التحرش الجنسي لأنها السبب الرئيسي لقضية "شهيد الشهامة"، موضحاً أن الحل يكمن في اتخاذ إجراءات قانونية حاسمة ورادعة.

"المدرسة ساهمت في نشر العنف، والاهتمام بالأمن السياسي جاء على حساب الأمن المجتمعي".

هذا العنف المتفشي بين الأحداث يثقل كاهل الآباء والأمهات في مصر. باهر رضا، طبيب صيدلي وأب لطفلين، أعرب عن قلقه بسبب ازدياد أعمال عنف يرتكبها أحداث، والتي تزيد من أعباء التقويم السلوكي والتربوي لأطفاله، ويرجع السبب في ذلك إلى "تفكك الأسرة، نظرا للظروف الاقتصادية، وغياب العائل بحثاً عن العمل، وانشغال أفراد الأسرة عن الأطفال، ما أدى إلى خلل في تربية الأبناء، بجانب التعرض لمحطات التلفزة والإنترنت دون تصنيف للشرائح العمرية".

ويتابع رضا لرصيف22، أن المنظومة التعليمية فشلت في وضع هيكل تربوي سليم يقوّم سلوكيات الأطفال، مشيراً إلى أن النظام الجديد وضع ذلك في اعتباره، ولكن من خلال احتكاكه بالواقع، ويرى أن بعض المدرسين والمدرسات القائمين على تدريس المناهج يعانون من "أمراض سلوكية" تتسرَّب إلى التلاميذ، مضيفاً أن "تديّن المظاهر سبباً رئيسياً في الفساد المجتمعي، بجانب فشل الدولة التي تحاول عبر مؤسساتها الدينية والتعليمية والقانونية، ولكن تبوء هذه المحاولات بالفشل".

وقد أوضحت دراسة نشرت عام 2016، أجرتها مؤسسة "حياة للتنمية والدمج المجتمعي" بعنوان "الأحداث ودور الرعاية لهم"،  أنه "يوجد نوعان من المُؤَسَّسة العقابيّة الخاصة بالأحداث: أولهما يدار بشكل مشترك بين وزارة الداخليّة ووزارة الشّئون الاجتماعية، وثانيهما يُدار بمعرفة وزارة الشئون الاجتماعيّة وحدها، يُودع فيها الأطفال الذين بلغوا سن 15 سنة ولم يتجاوزا سن 18سنة، بالإضافة إلى ذلك هناك عدد كبير من دور الرعاية الاجتماعيّة للأطفال تحت سن 15 سنة".
وتتابع الدراسة: "في مصر 24 مؤسسة عقابية منها 18مؤسسة مُخصَّصة للأطفال الذكور، و6 مؤسسات للفتيات، ويَبلغ عدد الحالات التي تَستفيد من خدمة المؤسسات سنويًا 32231 حالة في العام الواحد. كما ترعى وزارة الشئون الاجتماعيّة مُؤسسات للإيواء، يصل عددها إلى 161 مؤسسة".
وقد  أصدر مركز بلادي للحقوق والحريات تقريراً عن الأطفال، الذين تعرضوا للحبس دون سن الـ١٨. وجاء التقرير بعنوان "أطفال بلا حماية... تقرير رصدي عن وضع المعاملة الجنائية للأطفال في الفترة مابين يوليو 2013 إلى ديسمبر 2018".
وألقى التقرير الضوء على الانتهاكات التي وقعت على الأطفال على خلفية سياسية بدايةً من ٣٠ يونيو ٢٠١٣ حتى ٣١ ديسمبر ٢٠١٨، وتمثلت الانتهاكات في الحرمان من الحرية، والقتل خارج إطار القانون، والاختفاء القسري، والتعذيب، والمحاكمات العسكرية.
ورصد التقرير ٤١٣٠ انتهاكاً. وقع العدد الأكبر من الانتهاكات في عام ٢٠١٨ مسجلًا ١٢١٨ انتهاكاً، ويليه عام ٢٠١٧ بإجمالي ٨٨٩ انتهاكاً. وعلى الرغم من أن ذروة الاضطرابات كانت في عام ٢٠١٣، إلا أن الأرقام تُشيرُ إلي زيادة مطردة في الانتهاكات.
ووصلت الانتهاكات المتعلقة بالحرمان من الحرية إلى ١٥٥٦ حالة قبض وتحرير محضر، ١٤٩٦ قرار استمرار حبس، بالإضافة إلى ١٩٢ حكم بالسجن من بينهم حالتين بالإعدام.
"فشل مؤسسات الدولة، وانشغالها بالأمن السياسي على حساب الأمن المجتمعي، وعدم توافر مدرسين مؤهلين، والتفكك الأسري، والعنف الممارس على الأبناء، وعدم الالتزام بالقوانين في عقوبات الأطفال"... أبرز أسباب تفاقم سوء أوضاع الأطفال والقصر
وتم رصد ١٩٨ حالة اختفاء قسري، و٧١ حالة تعذيب من بينهم ثلاث حالات أفضوا إلى الموت، ويسلط التقرير أيضًا الضوء على  انتهاك  السلطات المعنية بإنفاذ القانون للقانون الوطني والدولي.  فتتخطى السلطات الدستور، وقانون الطفل، وقانون الإجراءات الجنائية، وكذلك الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل.
ويُشير التقرير إلى عدة تناقضات بين القوانين الوطنية، كقانون مكافحة الإرهاب لعام ٢٠١٥، والاتفاقيات والمعايير الدولية التي تهدف إلى حماية حقوق الطفل.

محمود البدوي، رئيس الجمعية المصرية لمساعدة الأحداث،  شدد في تصريحات لرصيف22 على أن تجربة السجن تلقي بظلالها على هؤلاء الأطفال، لذلك وجب لهم التأهيل النفسي والمجتمعي، حتى ينجحوا بالمرور من هذه التجربة بسلام، مضيفاً، أن التأهيل لا يقتصر على المذنبين فقط بعد انتهاء مدة عقوبتهم، ولكن أيضاً يجب أن يكون هناك تأهيل مجتمعي لتقبل هؤلاء الأفراد دون نبذ أو تنمر.

"أطفالنا يعيشون صراعاً نفسياً"

ترى عبير العراقي، سفيرة الاتحاد الدولي لحماية الطفولة في مصر، أن الأطفال دون سن الـ18 يفتقدون العناية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية، الأمر الذي يدفعهم للتوجه للسلوكيات السلبية لإشباع رغباتهم الداخلية، تقول العراقي لرصيف22: "هؤلاء الأطفال في هذه الفترة يصابون بصراع داخلي بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين المجتمع، في محاولة لإثبات أنفسهم، والتعرف على هواياتهم وطموحاتهم وأحلامهم، فإذا لم يجدوا توجيهاً سليماً من الأسرة فسوف يبحثون عنه خارجها بطرق سلبية كثيرة".

ودعت العراقي الأهالي والمؤسسات التي تتعامل مع المراهقين إلى ضرورة فهم طبيعة المرحلة العمرية التي يمرون بها، فبدلاً من قهرهم يجب استخدام لغة الحوار والنقاش معهم، والتوجيه السليم بصورة صحيحة، تقول إنها "رأت المراهقين كالبحر الهائج الذي يحتاج إلى ربان حكيم ومتزن".

وطالبت العراقي بضرورة توفير الدراسة والإبداع بجانب تعليم الأحداث الحِرَف، موضحة أن التأهيل يجب أن يشمل متابعة الأحداث بعد خروجهم إلى المجتمع مرة أخرى، حيث يجب على الدولة وضع رؤية ممنهجة لما بعد خروج الحدث إلى الحياة، لضمان تأهيلهم بصورة جيدة ومناسبة للانصهار من جديد في المجتمع.

بينما يرى رضا، طبيب صيدلي وأب لطفلين، أن الحل يكمن في تشكيل وعي مجتمعي قائم على نشر ثقافة الجمال، واحترام الآخر، ورفع وصاية الدولة والدين عن حياة الأفراد الخاصة، وفي النهاية، يشدِّد رضا، "السجن للأحداث في مصر لن يخرج سوى عتاة إجرام".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image