في أحد شوارع نيويورك، الخليلة الجامحة، التي يُقال إنها لا تنام ولا تسمح للحالمين بأن يناموا، وعلى بُعد مسافة من حديقة "واشنطن سكوير" التاريخيّة، حوّل رجل خمسيني وقور تُزيّن وجهه لمسات مُحبّبة من الحنان الراسخ والحزن القديم، مُنتدى الشطرنج الذي يملكه منذ أكثر من 26 عاماً، ملاذاً آمناً للمنسيين والمُبدعين الذين سحقتهم مدينة الأمجاد. ولم لا، مدينة الأوهام.
وهو يتوسّل بمنصّته الحميمة ذات الديكور الذي يغمز إلى منزل قُروي يحضن الذين ملّوا وحدتهم وقسوة الأيام، ليجمع عشّاق لعبة الشطرنج حول اللوحة التي تندلع داخل مربّعاتها أشرس الحروب الاستراتيجيّة وأكثرها أناقة.
وأيضاً ليُعيد إلى الواقع، ذاك الرونق الذي حاول العالم الافتراضي أن يسلب منه مجده ولحظات عزّه العابرة.
وهو يرى في الاتصال البشري والقدرة على التواصل من دون جدار الشاشة، التعبير الأقسى عن المحبة والحاجة الملحّة إلى الانتماء، هو الذي يعرف جيداً كيف يشعر هؤلاء الذين لا ينتمون إلى أي مكان، فيمضي العمر وهم يبحثون عن منزل يعلمون جيداً أنهم لن يدخلوا عتبته يوماً.
والجميع في شارع طومسون الشهير القائم في قلب "غرينويتش فيلادج"، يعرفون عماد خشّان، الذي يُعامل الكبار ومن هم في سن الأحلام المستحيلة وكأنه والدهم، هو الذي لم يتزوج (بعد؟)، ولم يُنجب.
وهو جاهز أبداً ليساعد الزوّار الذين يتوافدون إلى المنتدى من كل أنحاء العالم، في اختيار أفضل "رقعة" تتوافق وذوقهم، أو ليعزّز معرفتهم بهذه اللعبة التي لم تفقد سحر اللقاء الأول، على الرغم من كون "حالات الزمان عليها شتى".
وأيضاً ليحوّل مواجهاتهم العنيفة مع "الأعداء"، لعمليّة لطيفة، حارة، ممتعة، غالباً ما ينقلها مباشرةً عبر حساب المنتدى على إنستاغرام.
يُعتبر الـChess Forum آخر منتدى عريق في نيويورك، وقد أصرّ الفلسطيني عماد خشّان الذي يرى البعض أنه ينتمي إلى زمن ولّى، على وضعه في تصرّف عشّاق الشطرنج، وكل الذين يبحثون عن بعض حرارة وإنسانيّة في مدينة لا ترحم
منتدى الشطرنج في نيويورك
يعتبر الـChess Forum آخر منتدى عريق في نيويورك، وقد أصرّ هذا الفلسطيني الذي يرى البعض أنه ينتمي إلى زمن ولّى، مُستأذناً، على وضعه في تصرّف عشّاق الشطرنج، وكل الذين يبحثون عن بعض حرارة وإنسانيّة في مدينة لا ترحم، ولا وقت لكثرة من اتخذوها منزلهم، لنسج العلاقات الإنسانيّة المتينة.
والمنتدى يفتح بابه سبعة أيام في الأسبوع، وغالباً ما تستمر الحروب الاستراتيجيّة حتى منتصف الليل، ليتبادل بعدها الروّاد الذين تحوّلوا مع الوقت لأفراد عائلة منسيّة واحدة، القصص والتجارب، ويحتسون الشاي ويضحكون بمرارة فيها الكثير من الحنين.
ومنذ افتتاحه له في أيلول/ سبتمبر عام 1995، أراد عماد خشّان الذي ترعرع في لبنان، أن تتحوّل لعبة الشطرنج لمنزل الغرباء، وأيضاً كبار اللاعبين الذين لم تُنصفهم الحياة، ووجدوا انفسهم بلا مأوى في الشق الثاني والأخير من حياتهم. ويُعرف عنه عشقه للمدينة التي لا تنام.
منذ افتتاحه لمنتدى الشطرنج في أيلول عام 1995، أراد عماد خشّان الذي ترعرع في لبنان، أن تتحوّل لعبة الشطرنج لمنزل الغرباء، وأيضاً كبار اللاعبين الذين لم تُنصفهم الحياة، ووجدوا انفسهم بلا مأوى في الشق الأخير من حياتهم
وهو يسير في شوارعها بلا ملل، بعد إقفال المنتدى، ويُطعم الفقراء، والذين يتلحفون سماء الخوف، ويُقدم لهم الملابس الدافئة في الشتاء، ويحوّل جرذان نيويورك الشهيرة، أصدقاء لياليه الطويلة.
ويُشبّه حياته التي يُكتب عنها الكثير في المدينة، بأغنية السيدة فيروز، "قديش كان في ناس" الشهيرة، التي تقول في أحد المقاطع: "صرلي شي ميّة سنة مشلوحة بهالدكان. ضجرت منّي الحيطان، ومستحيّة تقول". يضحك وهو يصف نفسه بالرجل المعلّق في الزمن.
دور العائلة والأصدقاء
تمحورت طفولة خشّان حول لعبة الشطرنج التي تعلّمها بفضل والده، الروائي الراحل محمد خشّان. وأسعفته اللعبة خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي استمرت زهاء 15 عاماً، في التغلّب على الخوف والساعات الطويلة التي كانت تمضي بلا كهرباء، وتتفتّح وردة جريحة على أصوات القنابل، وأنين الأحياء الذين ينتظرون الموت.
وجرت العادة أن يزور العائلة الصديق "أبو عماد"، مُتأبطاً لوحة الشطرنج ليلعب مع صديقه على "ضوّ الشمعة".
وكان أبو عماد يرى في هذه اللعبة العراقة والفخامة، وعناصر أخرى لطالما نقلته وعائلته الصغيرة من الواقع إلى عالم النبل الذي يُصر عماد اليوم على اعتماده أسلوبَ حياة داخل المنتدى الشهير.
وصحيح أنه حوّل نيويورك، منذ وصوله إليها في العام 1987، محور حياته، وتحوّل عشقه لها مع مرور الوقت إلى ما يُشبه الهوس، وهو يؤكد بأنه يُريد بعد وفاته أن "يُطاردها" كالأشباح، بيد أنه ما زال مسكوناً بطيف الصبي الغريب الذي كانه ذات يوم.
وهو يذكر جيداً أن أبو عماد زاره في نيويورك منذ سنوات طويلة. أمضيا الوقت في المواجهات الضارية خلف لوحة الشطرنج. وفي أحد الايام، كانا يتنزهان في المدينة التي سيُطاردها عماد يوماً ما كالأشباح، عندما التقيا بالنجم الراحل روبين وليامز الذي كان برفقة ابنته. تبادلا ابتسامة صغيرة عارفة.
أراد عماد أن يقول للنجم التراجيدي، بأنه خلال الحرب، في ليلة راعبة في قسوتها، كانت القنابل تُحاصر العاصمة بيروت، وكان عماد يحمي رأسه وهو يلتصق بالأرض.
وليتخطى الرعب الزاحف من كل الاتجاهات، ركّز على شاشة التلفزيون، حيث عُرض مسلسل "مورك وميندي" الكوميدي، الذي حوّل روبين وليامز لنجم الساعة.
"أردتُ أن أروي له قصة فتى فلسطيني كان من المفترض أن يموت ذات أمسية حاصرتها القنابل. ولكن في أكثر اللحظات ظُلمة، كان يفكر بك. وقد أنقذته من دون أن تعلم".
عماد خشّان يعرف جيداً معنى ألا ينتمي المرء إلى أي مكان...
ولكن الخجل منعه من رواية تلك النادرة التي غالباً ما يُردّدها لروّاد المنتدى وقد وردت أيضاً في حساب Humans Of New York الذي يروي عبر مواقع التواصل الاجتماعي قصص أبناء نيويورك.
وما زال حتى اليوم، يتمنى لو أنه أخبر وليامز الذي مات انتحاراً، كم أن حياته غيّرت حيوات عدة.
وكيلا يعيش أي ندم مُماثل مرة أخرى، يصرّ عماد خشّان على التعبير عن محبته لكل زائر لمنتدى الشطرنج الأخير في نيويورك.
هذا المنتدى الذي تمكّن من تحويله إلى منزل لكل الذين نستهم مدينة الأمجاد، وربما الأوهام، بفضل "إم عماد" التي أقنعت زوجها بإرسال 5 آلاف دولار من مدخرات التقاعد، ليكون لنجلها "مصدر رزق" يومّن له قوت اليوم، ولكنها لم تعلم بأنها في الواقع أمّنت الملاذ الآمن للغرباء، وهؤلاء الذين لا ينتمون إلى أي مكان.
وعماد خشّان يعرف جيداً معنى ألا ينتمي المرء إلى أي مكان، على الرغم من أن "نيويورك قدّمت لي مأوى"، سيُطارده يوماً ما بعد وفاته، كالأشباح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه