الشطرنج كما نعرفه اليوم هو "شطرنج ستاونتن" الذي صمم عام 1849، وسمي باسم أهم لاعبي العالم حينذاك، هاورد ستاونتن. إلا أن الشطرنج بدأ في الهند، في أيام ازدهار إمبراطورية غوبتا (320 ـ 550)، التي تعرف أيضاً بالعصر الذهبي في تاريخ الهند. كان اسم اللعبة الـ"تشاتورانجا"، وتعني حرفياً "الفرق (العسكرية) الأربع". ومن الهند انتقلت إلى بلاد الفرس، وأصبحت جزءاً من حياة البلاط. عند الفرس، كان يطلق على قطعة "الملك" اسم "شاه"، وهي الكلمة الفارسية للملك، ومن هنا جاء تعبير "شاه ميت"، وفي هذه الفترة تطورت مبادئ اللعبة وأخذت اسمها الحالي "شطرنج". في كتاب الملوك الفارسي، الـ"شاهنامه"، قصة عن لعبة الشطرنج تحكي أن ملك الهند أرسل سفيره لامبراطور الفرس كسرى الأول (531 ـ 579)، ليقدم له شطرنجاً هدية، ومعه لغز عن قواعد اللعبة وتحدّ للامبراطور ووزرائه. القصة تختم بانتصار الفرس ونجاحهم في فك اللغز.
ومع توسع الامبراطورية العربية الإسلامية شرقاً وضم بلاد فارس، تعرف العرب إلى لعبة الشطرنج. كانت تسمى "الرُّخ". نقل العرب بدورهم اللعبة، من صقلية والأندلس إلى أوروبا. واستمر التأثير الإسلامي في الأشكال التجريدية للقطع عبر العصور. ومع أن الشطرنج لم يكن معروفاً في أوروبا قبل ذلك، فإن الأبحاث الأثرية وجدت ألعاب ألواح تشبهه، مثل هذه اللعبة من إيرلندا وبريطانيا، بألواح وقطع زجاجية.
الشطرنج في العصور الوسطى
لم يكن الشطرنج دائماً لعبة لوح، فلدينا الكثير من القطع الثمينة من العاج أو الأحجار الكريمة من العصور الوسطى، التي كانت تستخدم ربما كهدايا وقطع تزيين. فمن العالم الإسلامي، أرسل هارون الرشيد هدية لشارلمان، من ضمنها لوح شطرنج. ولم يكن للتسلية فقط، فقد استخدم للقمار، والتحديات، وهناك قصص قتال عنيفة للاعبين خسروا في اللعبة.شطرنج شارلمان، مصنوع من العاج - المتحف الوطني في باريس
شطرنج "لويس" من القرن الثاني عشر، من أهم وأشهر مجموعات الشطرنج في تاريخ العصور الوسطى - المتحف البريطاني
قطعة من شطرنج من غرب العالم الإسلامي، من القرن 11 أو 12
وقد ولع كثير من الخلفاء المسلمين بهذه اللعبة، وكان أشهر محبيها هشام بن عبد الملك، وهارون وولداه الأمين والمأمون، والخليفة المكتفي. ومن مشاهير لاعبي الشطرنج في عصر الخلافة، من القرن الأول للإسلام، سعيد بن غبير، الذي كان عالماً في دراسات القرآن. وأحمد بن يحيى التلمساني (725،776)، وأبو بكر محمد الصولي (946) من البصرة. وفي الأندلس اشتهر اللاعب أبو زيد محمد بن عمار، وهناك لاعبة حاذقة عرفت بـ"عريب"، أيام الخليفة المأمون. قد تكرر اسم "أبو حافظ الشطرنجي" كثيراً على أنه لاعب بارع في عصر هارون. ونذكر أن كتّاباً كباراً أشاروا في كتبهم إلى الشطرنج، منهم الجاحظ والتوحيدي والثعالبي، كما ورد ذكره في الليالي. تقدم هذه اللعبة نظرة للحياة في العصور الوسطى، من خلال الأزياء التي ترتديها القطع، وأشكال الأحصنة وأسراجها، واختيار القطع وتجسيدها. فعندما أصبح "الفيل" "قساً" مثلاً، نعرف بأن دور الدين والكنيسة في أوروبا قد توسع. ولعل أقدم المخطوطات عن الشطرنج هي "مديان اي شاترانج" أو "كتاب الشطرنج" الذي يعود للقرن التاسع الميلادي، إلا أن كتب العصور الوسطى هي التي طورت الشطرنج إلى ما هو عليه اليوم. وأهم هذه الكتب:
صفحة من كتاب الشطرنج
كتاب جاكوبس دي سيسوليس (1250_ 1322)، وعنوانه "كتاب أخلاق الرجال (الذي عدل لـ"عادات الرجال")، وواجبات النبلاء والعامة"، أو "كتاب الشطرنج". حقق الكتاب نجاحاً واسعاً وتمت ترجمته إلى لغات وعاميات عدة، شعراً ونثراً. يعطى جاكوبس في كتابه كل قطعة مهمة خاصة. ولكن أهمية الكتاب تكمن في ربطه بين اللعبة وطبائع السلطان والناس وسلوكهم. يفتتح الكتاب بقصة حاكم ديكتاتور في بابل، وصل إلى الحكم بعد أن قتل والده بعنف، وقطعه إلى 300 قطعة، جعلها طعاماً للطيور. في مملكته، يقوم فيلوميتر، وهو أحد الفلاسفة، بناءً على طلب السكان الذين أرهبتهم فظائع حاكمهم، بتعريف البلاط على لعبة الشطرنج، ويدرب نبلاء المملكة. وبذلك، يصل إلى الحاكم، الذي تسترعي اللعبة اهتمامه، عندما رأى غيره يلعبها. وحين يسأل الحاكم الفيلسوف لماذا صمم اللعبة، يخبره أنه أراد أن يعلم الملك الحكم "النبيل،" لأن لعب الشطرنج، سيعلم الحاكم "فن الحكم".
وفي الجزء الأخير من الكتاب، تختم القصة بأن الملك الديكتاتور، بعد أن تعلم الشطرنج ولعبه، أصبح عادلاً. لعل تقطيع الجسد في القصة، مثل تقسيم الشطرنج في قطع، يمثل دور الحاكم (أو الملك)، على أنه واحد من الأجزاء الذي يبنى عليه "جسد" المملكة، وليس ممثلها الوحيد.
استخدم الشطرنج بقوانينه وانتظام قطعه وتوازي ترتيبها، في هذا الكتاب كرد على الفوضى وفشل حكم الديكتاتور. وشكل رمزياً تنظيم الحكم والحياة المدنية، المبني على المنطق والقانون. ومن خلاله يناقش الكاتب دور المواطنين في المملكة، لذلك هناك صفات "أخلاقية" لكل قطعة، وقصص تفصيلية لتوضح ذلك. البيادق يمثلون العامة، ويعطي الكاتب كلاً منها دوراً مختلفاً (فلاح، حداد، الخ)، مؤكداً أهمية الأخلاق في نجاح المملكة. وحين يطلب جاكوبس من قراء الكتاب أن يتعلموا لعبة الشطرنج، إنما هو يدعو الناس ليكونوا فعالين في المجتمع.
بالإضافة إلى كتاب عصر النهضة الأوروبية من عام 1500، من تأليف لوكا باسيولي، عالم الرياضيات الإيطالي، بعنوان "عن لعبة الشطرنج". ويعتقد بأن رسوم الشطرنج التوضيحية في هذه المخطوطة، قد تكون من إبداع ليوناردو دا فينشي، إلا أن الأدلة ليست نهائية.
أما أهم كتاب نشر عن الشطرنج، فهو كتاب لاعب الشطرنج الإسباني، لويس زاميرز دي لوسينا (1465-1530)، الذي طبعه في سلامانكا عام 1497. واعتمد فيه ربما على كتاب سابق مفقود عنوانه "عن الحب وفن الشطرنج، و150 وضعية"، وفيه يقدم تحليلاً لـ11 من افتتاحيات الشطرنج، ويبدو أن أساسيات اللعبة وقوانينها تشبه إلى حد بعيد ما نتبعه اليوم.
ملكات الشنطرنج
من المثير للاهتمام أن قطعة الوزير في الشطرنج العربي، تغيرت وحل محلها قطعة "الملكة"، ومع مرور الوقت تطورت قدرة القطعة على الحركة، فالوزير كان كالملك، يتحرك بقدرة محدودة جداً. أما قطعة الملكة فأصبحت أقوى قطعة على الإطلاق.
الملكة أديل من كاتدرائية (مايسن) في ولاية ساكسونيا الألمانية
في كتابها "ولادة ملكة الشطرنج،" تقدم مارلين يالوم من جامعة ستانفورد، بحثاً في تاريخ قطعة الملكة. وتقترح أنها بدأت بالتحديد في نهاية القرن العاشر، عندما شهدت أوروبا حكم إمبراطورتين عظيمتين، هما: أديل التي توجت إمبراطورة عام (962)، وهي أرملة الإمبراطور أوتو الأول (931_ 999)، وزوجة ابنها أوتو الثاني، ثيوفانيا. حكمت كل منهما بعد وفاة زوجيهما باسم ولي العهد، أوتو الثالث الذي تناوبتا على رعايته، وعرفت كل منهما بنجاحها وقوتها. انعكس حكمهما على لعبة الشطرنج، وأصبحت الملكة قطعة مهمة في الشطرنج. كانت روسيا من آخر البلدان التي تبنت قطعة الملكة حين حكمت الإمبراطورة كاثرين العظيمة (1729-1796) البلاد، وأمرت بتصميم شطرنج، حلت فيه هي مكان قطعة الملكة، ووضعت عشيقها مكان الملك.
الشطرنج والحروب
توسعت استخدامات الشطرنج، ولأن أحجار الشطرنج تصطف بعضها مقابل بعض في فريقين، فإن اللعبة كانت مثالية للرمز إلى الحروب والصراعات السياسية، منذ العصور الوسطى حتى اليوم، لعل أطرفها شطرنج "الرأسمالية ضد الشيوعية"، التي تجسد قطع "البيادق" عمالاً مكبلين، وبقية القطع تمثل الطبقة الفاسدة، بثياب فاخرة وتقصيعة ترمز لتكبرهم. يقابلها، في الفريق الخصم، العمال في كل القطع، والبيادق تحمل شعار الشيوعية بفخر. وشطرنج وضع نابوليون كملك، وجوزفين ملكة، وحوله، بدلاً من الفرسان والقس (الحصان والفيل)، وزراؤه ومستشاروه. وأخيراً شطرنج الحرب العالمية الثانية، الذي تمثل قطعه كل رؤساء البلاد المتصارعة ومعداتهم، في فريقي دول الحلفاء ودول المحور.
مان راي - بورتريه ذاتي
وكما كان الشطرنج في العصور الوسطى نوعاً من الفن، فكذلك هو اليوم إذ اختاره عدد من أشهر فناني العصر الحديث، فتعددت المواد التي صنع منها، وأشكال القطع والألواح. من أشهر الفنانين الذي يعشقون الشطرنج، دوشامب، الذي نظم معرضاَ خاصاً للعبة، وكان ولعه بها معروفاً لمن حوله، واشتهر بمقولته: "ليس كل الفنانين لاعبي شطرنج ناجحين، إلا أن كل لاعبي الشطرنج فنانون!". وبعيداً عن مفهوم اللعبة في العصور الوسطى، حولها الفنان مان ري في هذه الصورة، إلى حالة تأملية، يلعب الشطرنج مع نفسه، في واحدة من أشهر صوره، التي يطلق عليها اسم "بورتريه ذاتي". ولعل أشهر ظهور للشطرنج في الفن كان دوره الأساسي في الفيلم الذي يعد من أعظم أفلام تاريخ السينما: "الختم السابع" لإنغمار برغمان.
مع الحضور الطاغي للألعاب على الإنترنت، هل تتغير مكانة الشطرنج، كلعبة تعد الأرفع عقلياً والأكثر تنوعاً وعمقاً في تاريخ الألعاب، وفي العصور كلها؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...