شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أن أحيا كبغل وأن أموت كفيلسوف... ماذا أفعل بجثتي؟

أن أحيا كبغل وأن أموت كفيلسوف... ماذا أفعل بجثتي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 23 سبتمبر 202111:10 ص

قال سقراط وهو يرى الرجل حاملاً السم: حسناً أيها الرجل الطيب، أنت تعرف هذه الأشياء، ماذا علي أن أفعل؟ قال الرجل: ببساطة، اشرب هذا وامش في دوائر إلى أن تحس بثقل في قدميك، ثم استلق ليسري السم. بدأ التلاميذ بالبكاء، وسط غضب سقراط من هذه الدموع البلا فائدة: بصمت ميمون علينا أن نموت، قال سقراط، حكمته الأخيرة.

لم تجمّل نصيحة سقراط نظرتي للموت، أجد أنه ينبغي أن يكون صخاباً وصاخباً، مليئاً بالأصدقاء والكلمات التي يجب أن تسفح على بلاط النهاية، أن نقول للمحتضر وعبره للموت نفسه: سنلتقي في الجهة الأخرى أيها الجبان. كلنا نستحق موتاً سينمائياً بالكثير من الكومبارس والمظاهر الجنائزية والموسيقا المناسبة.

الموت البركة فيه لن يترك أحداً منا

عملت الحكومة جاهدة على توزيع التسميات على الأحياء الجديدة الناشئة في شمال المدينة، وزعت كلمات/ مفاهيم ممنوعة على غيرها كـ"النصر، الحرية، الاستقلال" وأسماء تاريخية كـ"أوغاريت، القدس، إيبلا"، إلا اسم حيوان بعينه كان له نصيب كبير من المنشآت الأخرى، كان كل شيء باسم "الأسد"، واستتبعت المقابر بالأحياء فكان لكل حي مقبرته، مقبرة "الأزهري"، مقبرة "الشيخ عبد الرزاق"، لحسن الحظ لم يجرؤ أحد على استتباع المقبرة بالاسم الدموي، لأن الدلالات كانت لتبدو مضحكة فيما لو كان لدينا "مقبرة الأسد".

تقع مقبرة "الشيخ عبد الرزاق" في منتصف حارة "الزيحطة"، الاسم الذي تعرف به تلك الحارة المكتظة بالسكان "الزاحطين" من رحمة الحكومة والرب معاً، وتقع في منتصف طريق "تزحط" باتجاه البحر، وكنا نتندر أنها يوماً ما ستجد نفسها على شاطئ المتوسط، بعد سكرة طويلة و"زحطة" أطول.

كانت المقبرة في ما مضى أقل ازدحاماً وكانت "الزيحطة" كذلك، ثم بدأت المقتلة السورية فاتسع الاثنان، وكأنهما يتسابقان في ضم الجثامين، الحية والميتة. اتسعت العمارات: البيت ذو الطبقة الواحدة هُدم وبُني مكانه عمارة بستة أدوار، والذي استثقل الهدم، دعّم بنايته ذات الدورين والثلاث وألحق بها ثلاثة آخرين، ليستوعبوا النزوح المستمرّ من المدن المشتعلة، أما مقبرة الشيخ عبد الرزاق فبقيت تقضم الأجساد بصمت وتوسع مكاناً للجثث القادمة من مطار جبلة، والتي لا تجد مكاناً لها في مقبرة الشهداء.

لم يشعر السكان الذين يجاورون الموتى، لا بالرهبة ولا بالخوف أو حتى التشاؤم، كان الأمر اعتيادياً، بل إن الانتقال الفجائي من مرتبة الأحياء إلى مرتبة الموتى، أو الانتقال الجغرافي من بيت بطبقة أو نافذة مشرقة إلى قبر ضيق ومعتم، لم يبدُ أنه يشغل بالهم كثيراً، كان يشبه تغيير مقعد في حافلة مزدحمة، انتقال فقط من كرسي قرب النافذة إلى كرسي قرب الممر.

أما الآن، فلدي الكثير لأخسره، وهذا ما يجعل الموت وحشاً غريباً، موتاً فرنسياً لا أستطيع قراءته بالعربية، كيف سيقبض روحي ملاك الموت باللغة الفرنسية؟ كيف سيقول لي: باقي لك ثلاثة أنفاس، نفسان، نفس واحد... لم يتبق لك شيء

الموت على يد الميت

مات والد زوجتي وحيداً. كان رجلاً غريباً وذا طباع هيستيرية، بعيد عن عائلته نتيجة أوهامه وأمراضه النفسية. مات في دكان ذي باب معدني سحّاب، وتم اكتشاف جثته بعد أكثر من شهر على موته. اتصل الجيران بالشرطة يشتكون من رائحة بشعة تنبعث من الدكان المقفل. كسروا الباب وفوجئوا بوجود جثة منتفخة. استعانوا بتريكس صغير لينقلوها إلى المقبرة. بدون غسل ولا تكفين دفنوه.

الموت حدث لا مستقبل فيه. أعلم. لكن الموت بهذه الطريقة البشعة شكّل واحداً من هواجسي. وازداد هذا الهاجس تغولاً وبشاعة عندما غادرت مدينتي على فرنسا. صار غولاً بحجم بيت أو بحجم كابوس. أحسد والدي على ميتته. ليست عبارة طريفة ولا معنى لها ربما. لكنه مات برفقة أكثر من عشرين ابناً وصهراً وحفيداً، بينما سأموت هنا، محاطاً بعمال الدفاع المدني وبجارة فضولية، إذا حالفني الحظ.

يا للسخافة. كيف يمكن أن يؤثر وجود آخرين على الميتة فتوصف بالسهلة أو المريحة أو حتى السعيدة. لا أعلم. لكن الموت يمتلك ذلك الوجه الموشك على الهزيمة، عندما نستعد له برفقة الأحباء. مرة أخرى أبدو رومانسياً وسخيفاً. لكن لا أريد أن أموت في مدينة غريبة. لا أريد أن تتفسّخ جثتي ثم يستعينوا برجال الدفاع المدني لإخراجها من النافذة. أريد أن أجد معنى لموتي في عيني من أحب. أن ألمس نفسي في حزنهم. أن أتواجد في نعوة على جدار مدينتي التي عشت فيها وأحببتها. أريد أن يبكي علي من يحبني. أن يتدبروا دموعاً في أعينهم الجافة ويسفحوها علي وليأكلوا بعدها ويشربوا، على شرف ميتتي، ما يرغبون.

لكن أي معنى سيكون للموت، سواء أكنا في "ساحات الوغى" أو على فراش حقير، في ماخور أو في سدة الرئاسة؟

لا أعلم أي شيء عن الموت، أقرأ الفلاسفة الذين كتبوا فيه وعنه وأستغرب: لماذا يبدو الموت موتاً زهرياً ذا طعم يشبه طعم غزل البنات، في كتاباتهم، بينما أجده مخيفاً، قارصاً، يشبه الوحوش المفزعة في الأفلام الأميركية؟

كيف أموت بالفرنسية وأنا كنت، طوال حياتي أعدّ نفسي للموت بالعربية؟

ستكون الحياة الأخرى بعد الموت أمراً مضحكاً، بل وسينمائياً، لا أعتقد بوجوده، ولا أعتقد بوجود ما يشبهه حتى، ولا فكرة لدي عن مصدر رغبتي بعدم الموت وحيداً، في مدينة بعيدة. أظنه خوف من الوحدة لا أكثر. كنت على الدوام محاطاً بأصدقاء جيدين وعاشقات جميلات حتى، وكنت بدوري في بعض الأحيان عاشقاً جيداً وصديقاً مخلصاً، ومرات عاشقاً سافلاً وصديقاً رديئاً، لكني تواجدت، بقدر ما أوتيت من قوة وصلابة ورغبة بالاحتضان والحب، تواجدت في حيواتهم بكل معرفتي بالتواجد، مرّات لأرهق حياتهم وأجعّدها ككرة من الورق، كما تقول "مرح"، ومرات أخرى لتصبح أكثر دفئاً وضحكاً، ومرات أخرى لأنسى كأني لم أكن أبداً فيها.

أجد نفسي مرهقاً الآن في بلد بعيد بفكرة الموت وحيداً. ماذا أفعل بجثتي؟ هل أوصي بحرقها؟ بدفنها في مقابر الغرباء؟ هل أتبرع بهذا الجسد المشبع بالكحول والنيكوتين والخشخاش للمشافي أو للجامعات؟ هل يسعدني أن "تبعبص" بي أيدي طلاب الطب في جامعة ما، أم أربي دوداً ليأكلني، فأصادقه قبل أن يفعل؟

تطمئنني نيكول الفرنسية التي تكبرني بخمسة وعشرين عاماً، تقول إنها ستحرص على زيارة قبري كل عيد موتى، أضحك وأقول لها إنني غالباً من سيقوم بفعل ذلك. أما مرح، صديقتي السورية، والتي يبلغ عمرها نصف عمري، فتستغرب، لماذا أفكر بالموت في هذا الوقت بالذات وفي هذا المكان الجميل، فرنسا؟

ربما لو بقيت في سوريا لما كان لوقع هذا الهاجس رسوخه، ربما صادقنا الموت في سوريا لدرجة أنه لم يعد مخيفاً، ككلب شرس لكنه "كلبنا"، يقعي على عتبة بابنا ونضربه ونصرخ به أحياناً، لكنه غير مخيف بالنسبة لنا. ربما أيضاً أن ما نمتلكه في سوريا من شبه حياة وشبه بيوت وشبه أعمار يجعلنا لا نأسف كثيراً على فقدان أي منها، أما الآن، فلدي الكثير لأخسره، وهذا ما يجعل الموت وحشاً غريباً، موتاً فرنسياً لا أستطيع قراءته بالعربية، كيف سيقبض روحي ملاك الموت باللغة الفرنسية؟ كيف سيقول لي: باقي لك ثلاثة أنفاس، نفسان، نفس واحد... لم يتبق لك شيء.

ربما لو استطعت تعلّم لغة الموت لاستحوذت عليه، كما يقول عبد الفتاح كيليطو، لكن كيف أستحوذ على موت فرنسي؟ كيف أفقد هويتي وأن أتحول إلى ضائع بالفرنسية؟ كيف أتألم بالفرنسية على أشياء لا يتألم لها الفرنسيون؟ كيف أموت بالفرنسية وأنا كنت، طوال حياتي أعدّ نفسي للموت بالعربية؟

هل أوصي بحرقها؟ بدفنها في مقابر الغرباء؟ هل أتبرع بهذا الجسد المشبع بالكحول والنيكوتين والخشخاش للمشافي أو للجامعات؟ هل يسعدني أن "تبعبص" بي أيدي طلاب الطب في جامعة ما، أم أربي دوداً ليأكلني، فأصادقه قبل أن يفعل؟

احتفالاً بالموت اللذيذ

ثمة عنصر احتفالي بالموت في بلادنا، يُقاس موت الشخص بكمية الناس الذين كانوا شهوداً عليه وساهموا بدفن الجثة السعيدة. ربما تأتي تلك الاحتفالية من عصور الإيمان بالحياة بعد الموت. لكن أي حياة أحلم بامتلاكها بعد الموت الفقير هذا، في مدينة بعيدة لا أتكلم لغتها؟

في الحقيقة لا تعزيني مسألة أن أتواجد في شجرة أو نهر أو نبات، ولا أعلم متى اصطدمت مع حقيقة الموت. ربما عندما فقدت أول قطة كنت أمتلكها، وماتت تحت عجلات الصهريج العسكري الذي كان يقوده جارنا، "صاحب أكبر سيارة في البلد".

ما الذي سأفتقده عندما أموت؟

أستطيع أن أتذكر الكثير من الأمكنة، الأشخاص، الجلسات، المقاعد المكسورة والحدائق غير المنسقة، القصائد التي صرخت بعد قراءتها، اللوحات التي أرّقتني، كل المشاهد التي حصلت معي وقلت بعدها: واو، لن أكون نفس الشخص الذي كنته قبل هذا. لكن هل هذا فعلاً عكس الموت؟ هل هذا ما يساعدني على البقاء حياً أطول وقت ممكن؟

لا الأمكنة ولا الأشخاص، إنما بهجتي في أن أكون في ذكريات أحدهم، في حياته، أفسدها أو أجمّلها، أزينها أو أحطم أركانها، تبدو فكرة تقليدية وأنا أريد أن أستحضر فكرة غير مسبوقة عن الموت، سأعيد صياغة فكرتي: ربما من الجيد أن أحيا في آخرين، في كلامهم وأحلامهم وذكرياتهم، السيئة والجيدة، أكتب عن حياتي كما لو أنها حلم يمرّ في بال أحد، ألا تكون حياتي نتاج تاريخي الشخصي فحسب، ليست الأفعال التي قمت بها والكلمات التي تفوهت بها، بل ما تبقى مني في "تأريخ" أحدهم/ن، تأثيري على مصيره.

بعد تفكير... ماذا يعني الاستمرار أصلاً؟ ولماذا ينبغي لي أن أستمرّ؟ لا اختراع عظيماً قمت به لأسهّل على الناس حياتهم، لا قطيعاً قمت بحمايته ولا أصلحت حتى كرسياً مكسوراً. عشت حياتي كأن لا أحد فيها غيري، حياة نبتة صبّار على شرفة، لا ترغب بالمصافحة ولا تعانق غير الصبارات أمثالها. فلم أرغب بشدة بالبقاء على قيد الحياة، في الواقع وفي ذكريات البشر؟ لم يجدر بي أن أبقى على أي صيغة وفي أي احتمال؟ أليست "نعمة الزوال" فكرة أجدى بالعشق؟

ثم من أنا لئلا أزول؟ لئلا أتلاشى كرائحة، كدخان، كبهجة، كصوت سهم يهسّ في الهواء؟ أمن المهم حقاً معرفة اسم الأنبياء والعلماء والمفكرين على سبيل المثال؟

لا يمكن أن يكون الموت إلا انحرافاً، خطأ لا تراجع عنه، انحراف عن خط الوجود نفسه، قطع له، وهو ليس تحرراً فردانياً، كما يقول شوبنهور، هو ارتباك فحسب، ارتباك الله الخالد أمام عظمة وسحر "الزائل":

"غيوم، يا غيوم

يا صعداء الحالمين وراء النوافذ

غيوم، يا غيوم

باركي الملعونَ السائرَ حتّى النهاية

باركينيِ

علِّميني فَرَحَ الزوال". 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image