في حفل نقل المومياوات الملكية من المتحف المصري بميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصرية بحيّ الفسطاط، في 3 أبريل 2021، كانت عشر دقائق إلا بضع ثوان كافية لتغيير المزاج العام، والصعود بالغناء باللغة الهيروغليفية، التي لا يعرفها إلا المتخصصون، إلى مستوى التجريد، فتلحق "ترنيمة إيزيس" بالفنون التشكيلية والمقطوعات الموسيقية.
ولعلها تكون مدخلاً إلى استعادة روح وطنية جامعة، عبر نظام تعليمي مأمول، ينسف المسافات بين بضعة أنواع ومستويات من تعليم طبقيّ، يحتاج إلى مشترك دراسي أو ثقافة مرجعية بين خرّيجيه.
احتلت "ترنيمة إيزيس" مكانة ذات طابع أيقوني، وهي دقائق تخاطب الحواسّ كلها، وتجعل المستمع يستعيدها بداية بثلاثين ثانية لعازفات الهارب يقدمن لحناً جنائزياً يمهّد للرحلة إلى العالم الآخر، فوق مركب خوفو، عابراً نهر النيل إلى الغرب، إلى اغتراب الروح ما لم ينجح المتوفى في اجتياز امتحان يؤهله للخلود، فتعثر روحه على جسد تحيطه أدواته الدنيوية.
يلي عازفات الهارب عزف منفرد على الكمان تقدمه باقتدار سلمى سرور في 117 ثانية. وتصمت الموسيقى، فيصعد صوت السوبرانو أميرة سليم في مناجاة "مهابة إيزيس".
بعد رصد شخصي تلقائي وعشوائي، لردود فعل محلية هنا، وتعليقات عابرة للقارات هناك، يمكن القول إن معظم متابعي الحفل من المصريين والعرب نسوا أغنيات أخرى باللغة العربية، وانجذبوا إلى "ترنيمة إيزيس"، خاطبت أرواحهم فاستعادوها بلغتها الهيروغليفية غير المفهومة، ومترجمة إلى العربية. لم تشغلهم الترجمة كثيراً، واعتبروا الأنشودة قطعة فنية خالصة، ربما تكون ما سيبقى من حفل استغرق نحو 130 دقيقة، وعلى خلفيته تمت عملية نقل المومياوات. أقول: "نقل"، لأن "الموكب" له اشتراطات أخرى، بمشاركة الجماهير، والانخراط المنتج لسرديات متباينة للموكب.
طه حسين افتتن بكل ما هو يوناني، ولم يخصص قسماً في كلية الآداب لعلم "المصريات"، أو للأدب المصري القديم
يبقى من الحفل أيضاً حضور السيدة ماجدة هارون، رئيسة الطائفة اليهودية المصرية. أبوها شحاتة هارون، أحد رموز اليسار، مؤسس رابطة للكفاح ضد الصهيونية، واختار البقاء بمصر ووصف إسرائيل بأنها خرافة مضادة للتاريخ، وعارض اتفاقيات كامب ديفيد، وفي كتابه "يهودي في القاهرة" قال: "لكل إنسان أكثر من هوية، وأنا إنسان مصري حين يُضطهد المصريون، أسود حين يُضطهد السود، يهودي حين يُضطهد اليهود، فلسطيني حين يُضطهد الفلسطينيون". ولما توفي عام 2001 استقدمت أسرته حاخاماً فرنسياً للصلاة عليه، ورفضت استقبال السفير الإسرائيلي بالقاهرة.
ترنيمة باللغة المصرية القديمة، وسيدة تمثّل ديانة، وبضع نساء هنّ آخر اليهود المصريين الآن. مفردات تدعو إلى إعادة النظر في مناهج التعليم، لتصير أكثر انفتاحاً على مشترك إنساني بين الأديان وميراث حضاري مصري تمّ تشويهه، عن عمد أو جهل، بواسطة جيش من مدرسين ووعاظ يتوارثون ثقافة شفاهية، وتحكمهم مرويات إسرائيليات وتصورات خارجة من العهد القديم وشروحه، وهي لا تخص مصر القديمة وحدها، وإنما تنتقل إلى بابل أيضاً، فتزعم أن الله عاقب الملك النمرود ببعوضة في أنفه، لا تسكن إلا بضرب رأسه.
أدت سياسة الانفتاح، منذ منتصف سبعينات القرن العشرين، إلى تقسيم طبقي يبدأ من مرحلة الحضانة، ويجعل خريجي كل مدرسة تعليمية شعباً مستقلاً ذهنياً عن الآخرين.
وبعد أن كان الطلاب رهائن أسوار جزيرتيْ التعليم الديني الأزهري والتعليم المدني، تفاوتت درجات القسم الثاني الذي يضم مدارس (عربي)، وتجريبي (لغات)، والمعاهد القومية (لغات). وفي السّوق الاستثمارية تتنافس مدارس مصرية وأجنبية (عربي، ولغات)، وجامعات أميركية وفرنسية وألمانية وبريطانية ويابانية وكندية. لن تتأسس قاعدة للتفاهم بين خريجي هذه الجزر، وتؤول الوظائف والمناصب السياسية للنخبة الثرية.
ما كان أنور السادات ليرفع شعار "مصر أولاً" قبل تخفّف المناهج من حمولات التعبئة الاشتراكية، والقومية العربية، وضبط الإيقاع على التوقيت الأميركي الإسرائيلي
بعد طرقات المدفعية الأسطورية السلفية، استقرت الصورة الذهنية لمصر القديمة أنها حضارة قوم كافرين، حكامها "فراعنة" يدّعون الألوهية، ويضطهدون الأنبياء والشعب على السواء، أما الشعب فهو يستحقّ أن "يتفرعن" عليه الحاكم الذي "استخفّ قومه فأطاعوه".
تصورات خرافية من ميراث إسرائيليات تخاصم المنطق، فتمنح البعوضة حياة تتناقض مع عمرها وطبيعتها، فلا تغادر رأس الرجل ولا تموت. ويهون هذا الوهم مقارنة بصراع دار بين يعقوب وربّه فغلبه يعقوب، فكافأه الله على هذه الغلبة بأن سماه إسرائيل، "لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت".
القطيعة بين المصري وتاريخه من ثمار تحيّزات تعليمية قديمة. يرجع تاريخ التقويم المصري إلى نحو عام 4200 قبل الميلاد، وينسب إلى رب الحكمة "توت، تحوت، تحوتي، جحوتي"، رسول الآلهة، مخترع الأبجدية والكتابة والحساب. واتخذته جامعة القاهرة شعارا لها. وفي حين استأثر الأجانب بعلم "المصريات"، ولا يوجد علم باسم بلد باستثناء "الإيجيبتولوجي"، فإن طه حسين افتتن بكل ما هو يوناني، ولم يخصص قسماً في كلية الآداب لعلم "المصريات"، أو للأدب المصري القديم، وقلّده طلابه في تفضيل اللاتينية واليونانية على المصرية القديمة.
القطيعة بين المصري وتاريخه من ثمار تحيّزات تعليمية قديمة
في متون الأهرام وأناشيد أخناتون ثمة نصوص تكاد تكون أصلاً لنصوص مقدسة في عصور لاحقة. وفي تدريسها وتعميمها عاصم من التعصب والاستعلاء الديني، وربما يكون من الصواب تدريسها بصحبة نصوص دينية وبشرية أنتجتها حضارات متزامنة، ويتمّ تدريب الطلاب على البحث والمقارنات، واكتشاف التنوّع الخلاق، والسياق التاريخي للتأثير والتأثر، بالحروب والمعاهدات والتجارة والارتحال بحثاً عن المعرفة والأمان وأسباب الحياة. بالدراسة المنهجية للنصوص القرآنية، لن يكون "فرعون" لقباً لحاكم مصري، بل اسم حاكم أجنبي عاصر النبي موسى، أما لقب حاكم مصر فهو "الملك".
تمهد السياسة التعليمية للسياسة العامة وتدعمها. كان التعليم أداة الغطرسة والاستعلاء في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. وما كان أنور السادات ليرفع شعار "مصر أولاً" قبل تخفّف المناهج من حمولات التعبئة الاشتراكية، والقومية العربية، وضبط الإيقاع على التوقيت الأميركي الإسرائيلي.
وما زلت أذكر نشيداً تردّد في المدرسة الابتدائية يخاطب السادات: "يا رسول السّلام". قلت في السطور الأولى إن تغيير المناهج يجب أن "ينسف" المسافات بين أنواع التعليم، فلا يجدي الإصلاح مع الوضع التعليمي الحالي الذي تلزمه ثورة. نظام جديد أو الكارثة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...