كانت مهمة شاقة أن أقوم باستبعاد منذر مصري "الشاعر" عن جلسة تخص منذر الرسام، هو ذاته من يعبر شوارع اللاذقية من المنزل إلى المرسم، يراقب البشر والواجهات ويقرأ الأسماء على أوراق النعي ويصور خربشات الجدران، أو زهرة صغيرة قد تدهس بعد قليل، ويسمع ما يصله من أحاديث المارة... يهبط الدرجات الثمانية، يفتح الباب، يجلس وحيداً... وينتظر كل الأصدقاء.
يؤمن منذر مصري بمقولة "كل عمل مكتمل هزيمة" يهرب ممّا هو ناجز وثابت ومُكرّس إلى مسودات وتجارب ناقصة تثير الإشكال، يقول "أسعى إلى أن أبدأ باستمرار كيلا أنتهي"، وهذا ينطبق أيضاً على مشروعه في الرسم. صحيح أنه انحاز كلياً إلى الشعر (في رصيده أكثر من عشرين كتاباً) لكنه تأسس كرسّام وأقام العديد من المعارض الفردية والجماعية منذ عام 1971 في اللاذقية ودمشق وحلب وحمص، كما قدّم عروضاً يمتزج فيها الشعر والرسم في عمان والمنامة وكافالا في اليونان وباريس.
يؤمن الرسام والشاعر السوري منذر مصري بمقولة "كل عمل مكتمل هزيمة" يهرب ممّا هو ناجز وثابت ومُكرّس إلى مسودات وتجارب ناقصة تثير الإشكال، يقول "أسعى إلى أن أبدأ باستمرار كيلا أنتهي"، وهذا ينطبق أيضاً على مشروعه في الرسم
مرسمه في "حي الأميركان" في اللاذقية الذي شب فيه حريق منذ ثلاث سنوات فقد أرشيفاً ضخماً من الكتب واللوحات واسطوانات الفينيل لكنه عاد ليكون محطة ضرورية لكل مثقف عابر إلى اللاذقية وللأصدقاء والصديقات، هو القائل: "ليغادر الاصدقاء، لا بأس، أما الصديقات.. فلا". هن اللواتي يستعير منهن أقلام الروج كي يضيفها إلى علبة ألوانه. الخبر الجديد انه جعل من مرسمه، الذي يسميه تندراً "الغواصة الغارقة"، مكاناً يعرض فيه لوحاته، على النحو الذي لا يتحكم ولا يشترط عليه أحد! وفي 5 سبتمبر افتتح أبوابه لمعرض "شجرة واحدة تكفيني". ولمدة عشرة أيام بما فيها أيام الجمع.
تقول: "الشعراء يصنفونني رساماً، بينما الرسامون يقولون عني شاعراً"، ماذا يعني لك هذا؟
الآن ... لا يعني لي شيئاً. ولكن ألم تعدني ألا نأتي على سيرة الشعر؟ هل أنا رسام سيء لدرجة أحتاج فيها لأن أكون شاعراً أيضاً؟
أعتقد أن جميع صالات العرض ترحب بك وتفتح لأعمالك أبوابها، ما الذي جعلك تعرض في مرسمك الضيق مساحة، هل هو كرم الضيافة والرغبة في أن يدخل الكثيرون مكانك وعالمك الرحب، هل هي مجرد خدعة بريئة لتجعلهم يسترقون النظر الى بعض مقتنياتك من كتب وتماثيل صغيرة ولوحات لك وللآخرين وكاسيتات واسطوانات نادرة، والكثير الكثير من الفوضى الغنية بالتفاصيل (علب، وعصارات ألوان مبعثرة، ولاعات غريبة الشكل، اقلام، وريش، ورق مصفر....)؟
منذر: لا أظن هذا صحيحاً، الصحيح هو أن الصالات عموماً ترحب بالرسامين ذوي الأسماء المكرسة، وربما أيضاً، الواعدة. وأنا لست رساماً مكرّساً بأي طريقة. وأظن أن رساماً في عمر 72 لا يمكن له أن يعِد بشيء. كما أنه لا يوجد خدعة بريئة أستطيع التلطي خلفها. شعرت برغبة في عرض بقايا مجموعة أشجار، كنت قد رسمتها منتصف عقد الثمانينيات في القرن الماضي، وعرضت بعضها آنذاك، ثم غرق بعضها عندما غرق مرسمي، واحترق بعضها الآخر عندما احترق مرسمي، في مكان ما.
صحيح أن منذز مصري انحاز كلياً إلى الشعر (في رصيده أكثر من عشرين كتاباً) لكنه تأسس كرسّام وأقام العديد من المعارض الفردية والجماعية منذ عام 1971 في اللاذقية ودمشق وحلب وحمص، كما قدّم عروضاً يمتزج فيها الشعر والرسم في عمان والمنامة وكافالا في اليونان وباريس
وطبعاً كنت أفضّل لو أن هناك صالة عرض ملائمة أستطيع فيها أن أقوم بهذا، إلا أن صالة "الحكمية" في حي الزراعة باللاذقية، تمر بظرف خاص، وفكرة إقامة عرض لـ 12 لوحة، تكاد تبدو لوحة واحدة، ليس بشيء مشجّع أبداً. أما بالنسبة لصالة النقابة، فإن هناك قطيعة، أو شبه قطيعة، بيني وبين كل الجهات الفنية والثقافية الرسمية.
فأنا لست عضواً في نقابة الفنانين، ولا حتى إتحاد الكتاب العرب. ثم كان هناك احتمال عرضها في "ناي كافيه". وقد رحب صاحبها صديقي أنس إسماعيل بالفكرة، فقد سبق وعرضت فيها مرتين. ولكن لا أعرف كيف جاءتني فكرة إقامة العرض في مرسمي، وهو آخر مكان صالح لشيء كهذا. فقمت بتركيب شبكة إنارة، تحولت فيها اللوحات المؤطرة بالزجاج، من شاشات معتمة لا ترى منها شيئاً، إلى مرايا تعكس وجوه الناظرين إليها!
لماذا على الناس أن يروا كل ما نجمعه حتى تلك الحصى الغريبة من الشاطئ القريب؟
سؤال وجيه. أظنهم يدفعهم الفضول. ثم، ربما يتوقعون فائدة ما، متعة ما، من ذلك.
كنت قد سمّيت معرضك "بقايا غابة"، لتعود وتسميه "شجرة واحدة تكفيني" دعنا نشاركك أسباب تحول الاسم؟
يحصل أن نتردد في اختيار العناوين. ولكني وجدت "شجرة واحدة تكفيني" العنوان المطلوب. فالعرض المكون من اثنتي عشرة لوحة، اثنتي عشرة شجرة، أضفت عليها ست لوحات جديدة ذات ألوان صريحة، خلاف ما هي عليه سابقاتها، إلا أنه كما ذكرت سابقاً، كلها تمثل شجرة واحدة، متكررة، ولو بتفاصيل مختلفة.
مرسم المصري في "حي الأميركان" في اللاذقية الذي شب فيه حريق منذ ثلاث سنوات فقد أرشيفاً ضخماً من الكتب واللوحات واسطوانات الفينيل لكنه عاد ليكون محطة ضرورية لكل مثقف عابر إلى اللاذقية وللأصدقاء والصديقات، هو القائل: "ليغادر الاصدقاء، لا بأس، أما الصديقات.. فلا"
كل يوم تزيد شجرة-لوحة إلى غابتك، لتكّون احتمالاً جديداً للون مختلف، هل تريد أن تقول إن للعب باللون لا ينتهي، إنه احتمالات مفتوحة إلى ما لا نهاية؟
قلت لك إن ما فكرت بعرضه بقايا مجموعة كبيرة من الأشجار، التي رسمتها منذ 35 سنة بمختلف الألوان والأساليب. وقد خطر لي مراراً أن أعيد رسم ما ضاع وتلف منها. ولكن، في الواقع، الأشجار التي رسمتها أثناء إعدادي للعرض، مختلفة كفاية، وأظنها تشكل إضافة ما للمجموعة.
كان يمكنك أن تجعل شكل شجرتك ممتداً إلى الأعلى بما يشبه شجر السرو أو أي شكل مخروطي، لكننا نرى شجرتك أفقية أقرب إلى الأشجار المثمرة والتي تترك ظلالاً كثيفة.
ما تراه ليس شجرة! إنه مثال لشجرة عالقة في مخيلتي، لا أستطيع الادعاء أنني ابن الطبيعة، أنا ابن حارة، أعرف الأشجار التي تنتصب على أرصفة شارع بغداد. لذا فإنها شجرة ذات شكل محدد، وأي شجرة أخرى، من نوع آخر، لها شكل آخر، لن تكون تابعة للمجموعة ذاتها. هناك تحديدات قاسية، متكررة، وربما مملة، للعمل. الجذع الذي يتوسط الجزء السفلي من اللوحة، إلا أنه ينحرف يميناً أو يساراً لغاية ما. ثم هناك القطع الذي يجعل من أطراف الورقة هي ذاتها أطراف الشجرة!
كنت أبحث في اللوحة عن عصفور، عش، سنجاب، سحلية، أو بشر يجلسون تحتها.
تلك قصة أخرى يا صديقي. هذه شجرة ذهنية! أو، ها أنا ذا بدوري أكسر اتفاقنا على ألا نأتي على ذكر الشعر. إنها شجرة شعرية، مع أن مبررها الفني الأول وربما الأخير شكليّ.
هل جاء معرض الأشجار كحاجة للقول إن النسغ لازال حياً، على الرغم من تحطيبنا بشكل جائر وبقسوة ووحشية لا مثيل لها؟
منذر المصري: "عانيت من الرقابة السورية، ومنع لي ديوان "داكن" أواخر الثمانينيات، ولكن لا أستطيع أن أصنع من هذا قضية. رغم ما شعرت وقتها من تأثيره المخرب على تجربتي بكاملها"
ثمة سؤال أعلم مسبقاً أن جوابه يحتاج ربما لمجلدات من البحث، لماذا رسم الإنسان ولازال يرسم؟
تعلم، هناك عشرات الأجوبة. ولكني، متخبطاً بجناحي الثقيلين فوقها كلها، أقول: "الفن غريزة" ولا أدري كيف لم يكتشف هذا أحد قبلي.
ما هو روح الرسم والتشكيل؟ هل يكون اللون كما اعتدنا أن نسمع؟
أحسب الجواب يتقاسمه أمران، الأول رغبة البشر بالتعبير، الثاني بالخلق. اللوحة حتى ولو كانت رسماً لشيء ما، تعبيراً عن شيء ما، بمعني الـ(محاكاة) كما عند سقراط. فهي خلق. شيء خاص بنفسه. لم يحتج معرفة هذا أكثر من أن يأتي تلميذ لسقراط (أرسطو) ويكتشفه.
ما السر الذي يجعلنا ننجذب للوحة ونقول عنها عظيمة بغض النظر عن شهرة الرسام؟
رسمت إحدى لوحاتك التي تعود الى السبعينيات بقلم الروج الذي كان لصبية. ربما سقط من حقيبتها سهوا في مكان ما لتجده أنت مصادفة، أو نسيته عندك. ما قيمة هذه اللوحة أليست مجرد خربشة بسيطة لبورتريه؟
لدي عدة رسوم بأقلام حمرة الشفاه، بدأت فيها بقلم لا أدري من أين تحصلت عليه، ولكن بعدها ابتاعت لي صديقة عدداً من أقلام الحمرة! ما زلت بعد كل هذا الزمن أحتفظ ببعضها. لا أدري، في الواقع، قيمتها الفنية، إلا بكونها مرسومة بطريقة جيدة لحد ما، وثانياً لأنها مرسومة من قبلي! والذي لا أدريه أكثر هو ماذا يمكن أن يعني للآخرين هذا اليوم أو غداً.
ما الذي يجعل منذر مصري يقول هذه اللوحة جميلة، أو هامة، أو تعجبني؟
الجواب المباشر، هو كونها مرسومة جيداً. خطوطها، وألوانها، جيدة. لا يوجد فيها ما هو سقيم أو معمم. مختلفة، لها خصوصية. رغم أن الخصوصية، على أهميتها فنياً في سياق التشابهات ووحدة المواصفات التي تعم كل مجالات الفن والحياة هذه الأيام، ليست معيار قيمة بحد ذاتها. أعرف رسامين يتميزون بأساليب خاصة، تعرف أن هذه اللوحة لهم، ولو أنك تراها لأول مرة. ولكن هذا لا يعني أنها لوحة جيدة.
هل يجب أن يمتلك الرسام مقدرة عالية بالخطوط والتشريح ومقدرة على رسم لوحات تطابق الواقع تماماً؟
إذا كان عمله رسم الجسم البشري، أو الحيواني، أو أي شيء يراه أمامه، على نحو متطابق مع طبيعة ما يرسم، أو كما عبرت، لوحات تطابق الواقع تماماً، أي إذا كانت غايته إقامة هذه المحاكاة الدقيقة، فإنه، نعم، يجب أن يكون لديه مقدرة عالية في كل هذا. يجب عليه أن يدرس ويتعلم ويتدرب ليكون كذلك. أما إذا كان رساماً يأخذ بأساليب الفن الحديثة، فالأمر مختلف. الحديث يطول في هذا، وخاصة إذا رغبنا بإيراد أمثلة من فنانين ولوحات. باختصار، في الفن الحديث لا يوجد شروط مسبقة، المهم هم سوية النتاج.
هل الرقابة أقل تشدداً في التشكيل منه في الأدب، مُزّقت الورقة التي كانت تحمل قصديتك "ساقا الشهوة" من بين صفحات مجلة الناقد، هل يحصل هذا في التعامل مع اللوحة؟
لا أعرف في تاريخ التشكيل السوري، أو العربي عموماً، شيئاً يشبه "ساقا الشهوة" ولا طبعاً "البولونيزات". وكلا العملين قد صدرا وتوفرا في المكتبات. ولكن لن أخفيك أني لليوم أخاف من يكتشف أحد ما كل هذا الذي هرفت وجدفت به في عدد غير قليل من قصائدي.
مثلا قصيدتي عن علي الجندي "مت الآن وسأكتب عنك قصيدة" التي نشرت أكثر من مرة، وضمنتها في مجموعتي "سير مشبوهة" التي صدرت عام 2017. جميل ألا يستطيع تكملة قراءتها سوى القلة التي تشاركني طريقة تفكيري.
عانيت من الرقابة السورية، ومنع لي ديوان "داكن" أواخر الثمانينيات، ولكن لا أستطيع أن أصنع من هذا قضية. رغم ما شعرت وقتها من تأثيره المخرب على تجربتي بكاملها. تضمنت مجموعتي "مزهرية على هيئة قبضة يد" 1997 دار الريس، قصيدة "ساقا الشهوة" التي كانت سبب مصادرة "داكن" كما تضمنت قصائد من "بولونيزات" ودخلت سوريا وبيعت في المكتبات ومعارض الكتب.
لو أنك قابلت بيكاسو ماذا كان ليخطر ببالك أن تسأله، سؤال واحد فقط.
قابلته مرات في أحلامي. تعلم أنا رجل كثير الأحلام، ولم أسأله شيئاً! ولكن في أحدها كنت أحاول سرقة رسم ورقي له (في دردشة سابقة أجاب منذر على ذات السؤال هنا بعد أن صمت قليلاً: ما كنت لأسأله أي سؤال، فقط كنت سأضمه)
تقول في إحدى قصائدك: "تباً لقد صار لي أسلوب" هل قلتها في التشكيل؟
ج: في الرسم، أخشى أني أرسم ليس بأسلوب واحد فقط، بل رسماً واحداً لا غير. مجموعتي "طيور ليلية" و"قبلك كان العالم وحيداً" و"ساقا الشهوة" و"زجاجات لا أحد غير الله يعلم ماذا تحتوي" و "شجرة واحدة تكفيني" جميعها تقوم على بناء متشابه، إن لم أقل متطابق، واحد!
أين تصنف لوحة منذر مصري بين مدارس التشكيل الشهيرة، أم استطاع منذر أن يكون عصياً عن التصنيف؟
أرسم بمفهوم حديث، أستطيع القول. ولكن لا أستطيع تحديد مدرسة فنية يمكن لتجربتي التشكيلية أن تنضوي تحتها. أرسم واقعي، أنا رسام خط، بالأساس. وأرسم تجريدي.. لا أرسم شيئاً أرسم الزمن!
في الكتابة وفي الشعر خاصة، الشعراء يكتبون لبعضهم البعض تقريباً، هل هذا يحصل في عالم الرسم والتشكيل؟
على نحو ما يحصل هذا، ولكن الفنانين التشكيليين السوريين، المكرسين منهم، لديهم سوق ليفكروا بها. هناك سوق للوحات التشكيلية في سوريا، هناك جامعو لوحات، وسماسرة وتجار. بالنسبة لي، لطالما كتبت وأنا لا أعرف لمن أكتب. نعم يخطر على بالي خلال كتابة قصيدة ما، قريني، مصطفى عنتابلي، مثلاً، وآخرين. لكني بعد أن أنهيها، ألوح بها بعيداً ما أمكنني. كأن عندما ترمي حصاة وتنجح في أن تجعلها تلمس سطح الماء ثلاث مرات، قبل أن تستقر في قاعه.
وأخيراً ماذا؟
ماذا!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...