في تقرير أصدرته مؤخراً، أثبتت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري "الهايكا" التونسية، أن الرأي العام التونسي، بعد "أحداث 25 تموز/ يوليو"، صنعته بعض وسائل الإعلام التي لم تحترم مبدأ التنوع والتعددية السياسية.
ففي تقريرها حول التعددية السياسية، في القنوات التلفزيونية والإذاعية، من تاريخ 25 إلى 31 تموز/ يوليو 2021، رصدت مدى تقيُّد أربع قنوات تلفزيونية، وست إذاعات، بمبدأ التعددية الحزبية والسياسية، بُعيد إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيّد، تفعيل الفصل 80 من الدستور، واتخاذ جملة من الإجراءات الاستثنائية.
وكشف التقرير أن القنوات التلفزيونية التي رُصدت، خصصت مدة زمنية للمواقف المناصرة لإجراءات 25 تموز/ يوليو، قُدّرت بـ79%، فيما خصصت 21% فقط، للمواقف المناهضة لها. أما القنوات الإذاعية المرصودة، فقد خصصت 66% من المدة الزمنية، لتمرير مواقف مناصرة، فيما لم تحظَ المواقف الرافضة سوى بـ34%.
ولم يقتصر الإخلال الفادح المرصود في التغطية الإعلامية للأحداث الاستثنائية، على وسائل الإعلام الخاصة فحسب، والتي عادةً ما تُتَّهم بالانحياز إلى طرف سياسي، دون آخر، بل طال أيضاً المرفق العمومي.
فقد خصصت "قناة الوطنية الأولى"، في يوم 25 تموز/ يوليو، 92.70% (ثلاث ساعات، و39 دقيقة، و39 ثانية)، للمواقف المناصرة لرئيس الجمهورية، مقابل 17 دقيقة، و18 ثانية، للمواقف الرافضة، بنسبة 7.3%، وهو ما عُدّ مؤشراً خطيراً على حرية التعبير والتعددية في تونس.
مخاوف من التراجع عن مكتسبات حرية التعبير
يرى نقيب الصحافيين مهدي الجلاصي، أن الأرقام التي صدرت عن "الهايكا"، خيالية، ولم تصدر منذ الثورة، ويُفهم منها أن رئيس الجمهورية يحظى بتغطية إعلامية كبرى، كونه يمتلك السلطات كلها، وهو مركز السياسة في تونس، وهذا مؤشر في غاية الخطورة، متسائلاً عمّا إذا كان المجتمع التونسي يخلو من التعددية والتنوع، وأصبح ذا اتجاه واحد.
وأضاف لرصيف22، أن تقرير "الهايكا" علمي، ومبني على نسب علمية، والإحصاءات التي تعلقت بالإعلام العمومي، كارثية، وتنذر بعودة الصوت الواحد، والسيطرة على الإعلام والمجتمع، وغياب التعددية والتنوع، مشدداً على أنه على وسائل الإعلام العمومية، تدارك الوضع، خاصةً أنها تُموَّل من دافعي الضرائب، وليس من جهات معيّنة، وللمواطن حق في أن يحظى بنقاش عام، ومتوازن، يمكّنه من فهم ما يدور من حوله.
كما أقرّ الجلاصي بوجود إرادة سياسية واضحة، تعمل على جعل التغطية الإعلامية خاصةً برئيس الجمهورية، وتتجه في منحى واحد، وهو ما نبّهت إليه النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، في أكثر من مناسبة، مضيفاً أن توجيه الإعلام العمومي سياسياً، متعمَّد، وذلك بغاية توجيه الرأي العام.
وأوضح نقيب الصحافيين، أن حرية الإعلام، والتعددية، يضمنان للمتلقي الإصغاء للأطراف جميعها، على اختلاف آرائهم، وإذا أصبح الإعلام بلون واحد، نعود إلى الصوت الواحد، و"هذا لا يليق بتونس"، حسب تعبيره.
طموح سياسي خطير لبعض وسائل الإعلام
لم يقتصر الخلل المرصود في التغطية الإعلامية، على تخصيص مساحة مهمة لمناصري "أحداث 25 تموز/ يوليو" فحسب، بل تعلق أيضاً بتمكين مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين، من النفاذ إلى فضاءات وسائل الإعلام، فقد "وقعت قنوات تلفزيونية وإذاعية عدة، تحت تأثير التجاذبات والحسابات السياسية، وهو ما أثر سلباً على التزاماتها بتنوع الآراء، وتعدد زوايا التناول الإعلامي"، حسب بيان "الهايكا".
"وقعت قنوات تلفزيونية وإذاعية عدة، تحت تأثير التجاذبات والحسابات السياسية، وهو ما أثّر سلباً على التزاماتها بتنوع الآراء، وتعدد زوايا التناول الإعلامي"
وعدّت "الهايكا" أن "الطموح السياسي لبعض أصحاب المؤسسات الإعلامية، أو رغبتهم في التموقع في المشهد السياسي، لتحقيق مصالح خاصة، أو الحفاظ عليها، خطر جديّ على مستقبل الإعلام في تونس".
تنفي العضوة في "الهايكا" راضية السعيدي، فرضية الرجوع إلى إعلام ما قبل الثورة، وتشير إلى أنه لا وجود لأي تهديد لحرية الإعلام في تونس، وأن ما حصل يُعزى في الأساس إلى غياب منظومة تشريعية بديلة للمرسوم 116، الذي ينظّم قطاع الإعلام في تونس، وإلى ضبابية هذه الفترة، وعليه فإن أداء الإعلام يسوده الارتباك.
وشددت السعيدي في حديثها لرصيف22، على أن هذا الارتباك، كان ولا يزال يهدد الإعلام، لكن النضال متواصل، حتى يصل الإعلام إلى برّ الأمان، ولا رجوع إلى الوراء، وإلى المربع الأول، في ظل وجود هياكل تدافع عن الإعلام، و"أهل المهنة حراس لهذا المكسب".
وفي توضيح لأسباب الإخلال المرصود، أكدت السعيدي أن القنوات التلفزيونية هي المخوَّل لها توضيح أسباب ما حدث، مبينةً أنه تم تحميل المسؤولية إلى رئاسة الجمهورية التي يجب أن تكون لديها رؤية لمستقبل الإعلام في تونس، ويجب عليها رسم سياسة اتصالية ناجعة، وتحديد جهة للتواصل معها.
وقالت السعيدي: "حسب تقديرنا، فإن الارتباك، وبعض الطموحات السياسية، هما السبب في ما حدث، ومن الضروري تفعيل القانون التشاركي الذي يحتوي على خبرة الهيئة لسنوات، وتم العمل عليه من قبل الهياكل المهنية جميعها، وهو الضامن لحرية الإعلام، واستقلاليته، من خطر لوبيات المال".
تأثر الاعلام بموازين القوى
تنامت في الفترة الأخيرة المخاوف من السيطرة على قطاع الإعلام، خاصةً في ظل التضييق الذي تشهده بعض وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ومن بينها مكتب الجزيرة في تونس، الذي أُغلق منذ 26 تموز/ يوليو، إلى اليوم، كما عُدّ الانحياز الإعلامي للسلطة، في جل وسائل الإعلام، مؤشراً خطيراً على حرية التعبير والرأي، وارتداداً على مكتسبات هذا القطاع، ما بعد الثورة.
"الطموح السياسي لبعض أصحاب المؤسسات الإعلامية، أو رغبتهم في التموقع في المشهد السياسي، لتحقيق مصالح خاصة، أو الحفاظ عليها، خطر جديّ على مستقبل الإعلام في تونس"
ويعرب الصحافي والمحلل السياسي صلاح الدين الجورشي عن ثقته في تقرير "الهايكا"، كونه مبنياً على منهجية الرصد الدقيق، وهو ما يعزز مصداقيته، مبيناً أن جانباً مهماً من التوجه الإعلامي، خاصةً في المؤسسات الإعلامية العمومية، ينحاز سياسياً، ويعطي أولوية للجهات الرسمية، على حساب المعارضين، والمجتمع المدني، كما يتناغم خطه التحريري مع التوجهات الرئاسية الحالية.
وأضاف لرصيف22، أن جزءاً آخر من وسائل الإعلام المنتمية إلى القطاع الخاص، ما زالت تحافظ على مساحة من الأحداث الأخيرة، من خلال برامجها، وصحافييها الذين ينتقدون توجهات 25 تموز/ يوليو، ويرون أنها تمثل تهديداً لمسار الديمقراطية.
ورأى الجورشي أن الإعلام يتأثر بموازين القوى، وأن المنعرج الحالي متوقَّع، ومن شأنه أن يمثل تهديداً للمكسب الوحيد الثابت للثورة، وهو حرية الإعلام، واستقلالية الصحافي، وحريته في اختيار الأخبار، مشيراً إلى وجود علاقة جدلية بين الرأي العام والإعلام، فالرأي العام بإمكانه أن يتأثر بما يُروّج في الإعلام، والإعلام يسعى إلى تلبية رغبات الجمهور، من أجل الانتشار، ومن أجل تمكين وسائل الإعلام من قدر من الأوكسجين، لكي تستمر.
وتابع: "عندما يتحرك الرأي العام في اتجاه معيّن، تستجيب وسائل الإعلام لهذا الميل، وتبحث عن كيفية إقناعه بهذا التوجه، أي أن هناك تأثراً متبادلاً بين الطرفين".
"وسائل الإعلام التونسية، أضفت هالة على إجراءات قيس سعيّد، وجعلتها بداية التاريخ، وتصحيحاً جوهرياً لمسار الثورة، فيما غضّت النظر عن العديد من المخاطر الأخرى التي يمكن أن تنجم عنها"
وختم المتحدث بالتأكيد على أن وسائل الإعلام، "أضفت هالة على الحدث، وجعلته بداية التاريخ، وتصحيحاً جوهرياً لمسار الثورة، فيما غضّت النظر عن العديد من المخاطر الأخرى التي يمكن أن تنجم عنه".
وكان قيس سعيّد قد عبّر عن احتجاجه على التعاطي الإعلامي في تونس مع أنشطته، عادّاً أن وسائل الإعلام تنتهج سياسة التعتيم تجاه المبادرات التي يقوم بها في تونس، وخارجها، سواء على مستوى مجلس الأمن، أو مع منظمة الصحة العالمية.
وقال في تصريح صحافي سبق إعلانه "الإجراءات الاستثنائية": "في شريط الأنباء، أمس الأول، يتحدثون عن جلود الأضاحي، قبل أن يتحدثوا عن مكالمات مع رؤساء دول شقيقة، وكأن قضية الجلود أهم. على الأقل، كان عليهم احترام الدول الأخرى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين