شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
خيمة وقناع... حين تشاغب الأنثى رداً على منظومة فاسدة

خيمة وقناع... حين تشاغب الأنثى رداً على منظومة فاسدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 13 سبتمبر 202102:17 م

التقيت بسهى بشارة للمرة الأولى وجهاً لوجه، في بيروت، خلال مؤتمر بعنوان "أدب السجون بين المشرق والمغرب"، نظمته الجامعة اللبنانية في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2013. قدمت سهى (مواليد 1967) شهادة عن تجربتها في معتقل "الخيام" الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، وقد قضت فيه عقداً من الزمن قبل أن يفرج عنها في عام 1998.

تقول عن معنى الكتابة إنها أرادت أن تكتب للذاكرة ولأجل الحياة، كي تترك أثراً؛ فمن لا ذاكرة له لا حياة لديه. وتشبّه "الخيام" بخيمة الوقت، حيث لا يوجد إلا الصمت والصراخ.

   كان لسهى كتاب السيرة الذاتية "مقاومة" (2002)، وكتاب "أحلم بزنزانة من كرز" (2011) المصوّر، بالاشتراك مع الصحفية كوزيت إبراهيم (التي اعتقلت بدورها عام 1999 وأمضت عاماً في سجن الخيام، قبل الإفراج عنها يوم التحرير في 22 أيار 2000). كثيرة هي كتب السير الذاتية والغيرية، والروايات العربيّة التي تحكي تجربة السجن والتعذيب.

تقول سهى بشارة عن معنى الكتابة إنها أرادت أن تكتب للذاكرة ولأجل الحياة، كي تترك أثراً؛ فمن لا ذاكرة له لا حياة لديه. وتشبّه "الخيام" بخيمة الوقت، حيث لا يوجد إلا الصمت والصراخ

لئن استعادت سهى بشارة تجربة اعتقالها من قبل عدوّ محتلّ، فإنّ أحمد علي الزين توسّل التخييل السردي، فروى على لسان سجين ناجٍ من أحد السجون العربيّة في ثلاثيّته "عبدالجليل الغزال"، واصفاً الندوب النفسية التي تحفر عميقاً في الذاكرة كما في الزمان والمكان. الوحشية واحدة، وقد تبدو أشرس مع سجناء الرأي والمعارضين السياسيّين للنظام/الأنظمة العربيّة الحاكمة.

رسائل السجن، متنفس فكري ورجاء

موضوعة المقاومة والسجن، وبالمثل العلاقة بين المثقف والسلطة في الأدب السردي -لا سيما إذا كان النشاط النضالي السياسي عنوانه امرأة- ما زالت تغويني وأرجئ الكلام عنها، إلى أن قرأت الرسائل المتبادلة بين إحدى المعتقلات المؤسِّسات لفرقة البانك الروسية "بوسي رايوت" Pussy Riot الفنانة المفاهيميّة نادشيتدا تولوكونيكوفا/ ناديا (مواليد 1989)، والحائزة جائزة حنا آرندت للفكر السياسي، وبين الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك (1949)؛ وقد جمعت في كتاب صدر مؤخراً في ترجمته العربية (دار الرافدين،2021).

لقاء استثنائي بين قائد من قادة المعارضة العالمية وفنانة تتمتع بقدر من الفكر الفلسفي الجدلي، وتوصف بأنها رمز للمضطهدين، وبأن فرقتها "تمظهر لروح العالم"، بوصف جيجك. ناديا من تلاميذ نيكولاي برديائيف، رسول الحرية المعاصرة وداعية التجديد الديني بوصفه ثورة ضد القوانين الأرضية (اعتقل بدوره بتهمة التخطيط للإطاحة بالحكومة والكنيسة في عام 1898 ونفي عام 1922).

ترى فرقتها أنها من سلالة ديونيس (أو باخوس إله الخمر والخصوبة والموسيقى في الميثولوجيا الإغريقيّة، ورب الحرية لدى الرومان، إزاء أبولو، إله النور والنحت، ممثل الاتزان العقلي)، ممّن يزرعون الفوضى في النظام المستتب، وينجرفون لكل ما هو مختلف، بحثاً عن الإلهام عوضاً عن التشريعات الثابتة. إنما فضّل كل من ناديا وجيجك أن تبقى رسائلهما في حدود النقاش الفكري، لمعرفتهما بأنّ سلطات السجن كانت تقرأ هذه الرسائل.

لئن استعادت سهى بشارة تجربة اعتقالها من قبل عدوّ محتلّ، فإنّ أحمد علي الزين توسّل التخييل السردي، فروى على لسان سجين ناجٍ من أحد السجون العربيّة في ثلاثيّته "عبدالجليل الغزال"، واصفاً الندوب النفسية التي تحفر عميقاً في الذاكرة كما في الزمان والمكان

لم تكن القراءة مسموح بها في معتقل سهى إلا بعد تدخّل الصليب الأحمر الدولي. أما الكتابة فكانت سريّة وبتناوب السجينات على المراقبة. وفي مقابلة مصوّرة معها بعد تحريرها (متاحة على موقع "فيميو") أجراها دجيس سلوم بعنوان: "كل شيء ولا شيء" (2001،everything and nothing) تقول سهى إنها وافقت على إجراء المقابلة لتتحدث عن التاريخ الذي ينبغي ألا ينسى، لا لكي تعيش في الماضي، بل ليكون التاريخ عبرة للمستقبل.

فهو ما زال يعاد لدى أمم كثيرة في صورة قضايا انتهاك حقوق الإنسان. المقاومة، كما الحديث عنها، هي رسالة وواجب. هذا ما وجدته من تقاطع في الرؤية المتّسعة بين سهى وناديا، لتشمل قضايا إنسانية تتخطى حدود الخريطة السياسيّة الوطنيّة وإن انطلقت منها.

قناع ديوجين الكلبي في مواجهة الكلبية

كتب نيتشه عن هاملت، متسائلاً: "ما الذي يمكن أن يكون قد قاساه المرء حتى يرغب في أن يكون مهرّجاً إلى هذا الحد؟"؛ اقتباس أدرجه جيجك في إحدى رسائله لناديا. وهي تكتب في رسالة له، مستحضرة أفكار ملهمها برديائيف: "عندما تلمسك روح العالم، لا تعتقد أنك ستمضي سالماً".

اقتباس يحيلني إلى ما استلهمه الزين في ثلاثيته من النّفري، المتصوّف العربي، بما يذهب في المعنى نفسه، معنى البحث عن مكان يليق بالإنسان، وإنسان يستحق المكان: "إذا ضاقت بك الدنيا، فسرْ". وآخر هو: "القلب يتغيّر، وقلب القلب لا يتغيّر؛ والحزن هو قلب القلب". فعن أي حزن في سياقاته التاريخية بإمكاننا التحدّث؟

   اختلف المفكرون حول تفسير سلوك ديوجين وفلسفته "الكلبية" cynicism. فيرى نيتشه أنّ ديوجين هو حامل المصباح في شوارع أثينا يبحث عن إنسان واحد صادق دون جدوى. وتوصف الكلبية بأنها تمظهر للانحطاط وفلسفة هدّامة تؤسّس لإلغاء التعاطف بين البشر والثقة بمبادئهم، والارتياب بأجندتهم.

لم تكن القراءة مسموح بها في معتقل سهى بشارة إلا بعد تدخّل الصليب الأحمر الدولي. أما الكتابة فكانت سريّة وبتناوب السجينات على المراقبة

لذا جاءت الإشارة إلى الكلبية في الرسائل بوجهيها: قناع لفرقة "بوسي رايوت" في مواجهة كلبية السلطة. فيدافع جيجك عن "المظهر البهلواني المفتقر للوقار" لأفعال "بوسي رايوت" بوصفها رد الفعل الوحيد المناسب للأحداث العنيفة والمؤلمة.

تأسّست الفرقة سنة 2011، ومن ضمن المؤسسات -علاوة على ناديا- ياكترينا ساموتسيفيتش (كاتيا) وماريا أليوخينا (ماشا) اللواتي اعتقلن إثر تأدية أغنيتين على التوالي: "بوتين بلّل نفسه" (يناير 2012)، تهزأ بترشّح بوتين للسلطة في وسط الساحة الحمراء، و"صلاة البانك" (فبراير من العام نفسه) في كاتدرائية المسيح المخلص قرب الكرملين.

فاستهدفت الفرقة بهذه الأغنية التابو المطلق، لتسخر من الدعم المنافق من الكنيسة الروسية لسياسة الكرملين. وتُعدّ فرقة البانك امتداداً لموجة الحركية actionism في فن الأداء، وقد بدأت في فيينا في الستينيات، وكانت تعتمد على رفض التقاليد والقوانين، كما أنّها اتسمت بممارسات صادمة؛ إذ تقوم على رفض اعتبار الجسد وفعالياته الطبيعية ورغباته أمراً مرتبطاً بالأخلاق.

العلاقة المثلثة: السجن، السجين والسجّان

يستعيد عبدالجليل العلاقة بين كل من السجين والسجّان بالسجن، قائلاً: "كل من جاء إلى هنا، سجّاناً وسجيناً، هو مفقود مبدئيّاً. أمل السجّان بالعودة كأمل السجين بالعفو. فرصة السجّان الوحيدة لمزاولة حضوره في الحياة، هي الانتقام من مسبّبي وجوده في هذا المكان". وتصف ناديا السجن بأنه كيان ذو وجهين، كلبي ومنافق؛ ينجو منه المرء بقانون الزواحف: "مت أنت اليوم، أنا سأنتظر حتى الغد".

"القلب يتغيّر، وقلب القلب لا يتغيّر؛ والحزن هو قلب القلب" النفري

فقد خبرت هدف السجن الرئيس المتمثل في قولبة السجينات والحط من مكانتهنّ. وتتساءل عن إمكانية إعادة تأهيل شخص بينما تتم مواجهة كل عمل احتجاجي بالانتقام الشيطاني من قبل السلطة، في مجتمع تجاهد فيه لتصنع أي نخبة غير مرتبطة بالسلطة.

حكم على كل من ناديا وماشا بالسجن لمدة عامين، بتهمة التخريب والتحريض على الكراهية الدينية، وأطلق سراح كاتيا. أرسلت ناديا إلى موردوفيا وهو المقر التقليدي "للغولاغ" (معسكر العمل الإجباري المتبقّي من العهد السوفياتي)، ووضعت في الإصلاحية رقم 14. تصف "بوسي رايوت" بأنّها قناع مبسّط وحديث: "عندما تضع قناعاً، فأنت تغادر زمنك، تجرّد العالم القائم على السخرية من أي صدق".

وتكتب رسالة توضح فيها أسباب إضرابها عن الطعام (سبتمبر 2013)، واصفة العنف والقسوة التي تعاني منهما السجينات. وقد اعتمدت هذه الرسالة لصناعة فيلم قصير (24 دقيقة) مؤثّر، بعنوان: "The Penal Colony" (أستراليا، 2017).

العدالة للسجناء

دمّرت قوات الكيان الصهيوني معتقل "الخيام" في تموز 2006، لأنه شاهد على حقبة من تاريخه الأسود. ولعل ذلك ما تسعى إليه ناشطات منظمة زونا برافا الروسية Zona Prava، في القضاء على بقايا الغولاغ. السجن الروسي، بوصف ناديا، جزيرة شمولية مؤسّساتية قائمة على الكراهية غير المبررة.

وتستعين بقصيدة "الشراع" لميخائيل ليرمنتوف، لتعبّر عن عدم افتقارها للعزم رغم محاولات السلطة إذلالها كي ترجع عن موقفها؛ وقد جاء فيها: "المتمرد يسعى خلف العاصفة، كما لو أنك في العاصفة قد تلقى السلام". أما عبدالجليل فلا يكره سجّانه ولا يريد الانتقام، بل يدين الكراهية والتلذّذ بالتعذيب، طارحاً علامات استفهام حول العنف التأسيسي.

يستعيد عبدالجليل العلاقة بين كل من السجين والسجّان بالسجن، قائلاً: "كل من جاء إلى هنا، سجّاناً وسجيناً، هو مفقود مبدئيّاً. أمل السجّان بالعودة كأمل السجين بالعفو. فرصة السجّان الوحيدة لمزاولة حضوره في الحياة، هي الانتقام من مسبّبي وجوده في هذا المكان"

تعني زونا برافا منطقة العدالة/ الحق. و"زونا" هي وصف للسجن. حالما خرجت من السجن، أنشأت ناديا مع ماشا حركة هدفها إعادة تأهيل حراس السجن، وإقامة برنامج تدريبي احتجاجي داخل المخيمات. وتوضح بأنّهم بدأوا بمعسكرات النساء بحكم أنّهن الأكثر حرماناً من الصوت. وقصة سهى مثل قصة أي معتقل مرّ في الخيام، أو غيره من المعتقلات: "راح، وهو يحملق في الجدار، يتعلّم الغناء".

وتجيب عن معنى المسافة من الظلم، بأنّها في داخل المعتقل وخارجه لم تتغيّر المسافة بينها وبين المعتقلين. فترى أن القرار هو الأساس، وليست المسافة، للاستمرار نحو الأمام من أجل أي قضية في الحياة، بغية التطور، للتمكن من الوصول إلى ترجمة الذات بغير الاعتداء على الآخرين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard