كانت مخاوفي، في المرحلة الابتدائية للمدرسة، تتلخص في أمرين اثنين: الأوّل، عدم الحصول على الدرجة الكاملة (أو شبه الكاملة) في مادة الرياضيات، والثاني، انكشاف حقيقة كوني أنتمي إلى طائفة تسمّى العلوية. تمخضت هذه المخاوف عن تراكم العديد من الحوادث التي وقعت أمامي، والتي جعلت، مثلاً، من الرياضيات معياراً للذكاء، وعليه فإن فشلي فيها، كان سيحتم حقيقة أني غبية، ومن طائفتي سرّاً خطيراً، وانكشاف أمرها مصيبة ستلحق بي الكثير من الأذى، أو فضيحة من طراز رفيع.
في يومي الأول في الروضة، ناداني والدي، بعد عودته إلى المنزل من عمله، وكان سؤاله الأول لي، عما إذا تحدثت باللهجة الشامية، أو الجبلية (الجبيلية كما نسميها)، مع أصدقائي الجدد؟ صمتت قليلاً، ولم أرغب حينها بالكذب، فأنا لم أكن أعرف، في ذلك الوقت، ما إذا كنت قد أتقنت اللهجة الشامية، التي دأبت أمي وأخواتي على تعليمي إياها، قبل موعد بدء الفصل الدراسي، فطمأنته قائلةً: "حكيت شامي مطرطق*".
ذهبت أنا وأخواتي اللواتي كنّ ملتحقات بمدرستي ذاتها، إلى أمي، لنطلب منها ألا تسمح لأبي بالقدوم إلى مدرستنا ثانيةً، قائلاتٍ لها بصوت واحد: "إنه يسبب لنا الإحراج بلهجته".
لم أفهم، في سني ذاك، ما معنى طائفة دينية، ولكن ما فهمته، هو أني أنتمي إلى شيء ما، يُستخدم فيه حرف القاف بكثرة، ولديه أيضاً مقامات، وأضرحة لرجال موتى، يحظون بقدسية خاصة، ويأكل ناسه البرغل بالحمص، وفطائر السلق، ومنه تنتشر الأغاني الصاخبة، وتكون أعراسه مختلطة، ولا تغطي النساء فيه رؤوسهن بأقمشة بيضاء، أو داكنة، وأن ما سبق كله، يجب أن يبقى سرّاً لا نبوح به للأغراب، اي لمن لا ينتمون إلى الطائفة العلوية، كلهم، لأنهم يريدون أن يلحقوا بنا الأذى، أو سيسخرون منا في أحسن الأحوال، إذا ما انكشف أمامهم أمر طائفتنا.
طوال سنوات دراستي في المرحلة الابتدائية، خصوصاً في الصفوف الأولى، حين كنا أطفالاً بألسنة طازجة، وعقول طرية، كنت أخشى من أن يفلت من حلقي حرف القاف، وأن يسقط في كلمة صندوق، أو فندق، مثلاً، لذا رحت أطارده في أحاديثي كمجرم، أو كندبة قد تشي للآخرين بحقيقة من أكون، كما كنت شديدة الحرص على الكسرات، والفتحات، والضمات، وأحذر من قول "سيّارة" بتسكين السين والياء، بدلاً من فتحهما، أو من قول "غرفي" بالتشديد على الكسر في نهاية كلمة غرفة، بدلاً من لفظها بخفة عند الياء، كأهل الشام.
كانت الكبوة في كلامي هي الطامة الكبرى بالنسبة إلي، فخوفي، بعد أن اختلطت بالتلاميذ، وكوّنت صداقات معهم، صار مضاعفاً. لم يعد خوفاً مبنياً على تحذيرات عائلتي فحسب، بل صار مبنيّاً على وقائع حدثت معي شخصياً. في إحدى المرات، كنت جالسة مع صديقاتي، وكنا آنذاك في الصف الرابع، وتطرقنا إلى موضوع الحجاب، فسألت إحداهن كل واحدة منا: "أنت علوية؟". نطقت صديقتي التي بالقرب مني، محتدّةً: "ما فشرتِ كون علوية؟". خفق قلبي حينها بشدة، وأصابني توتر حاولت إخفاءه بالإجابة عن السؤال الذي وصل إليّ: "لا طبعاً".
حين كنا أطفالاً بألسنة طازجة، وعقول طرية، كنت أخشى من أن يفلت من حلقي حرف القاف، وأن يسقط في كلمة صندوق، أو فندق، مثلاً، لذا رحت أطارده في أحاديثي كمجرم، أو كندبة قد تشي للآخرين بحقيقة من أكون
شعرت حينها بمدى خطورة انكشاف أمري، وكم من السيء أن يكون المرء علوياً، ورحت أُخضِع قصصي وحكاياتي الشخصية جميعها، لتعديلات غاية في الدقة، أخفي فيها حقيقة هويتي، فإذا ما سُئلت عن غداء اليوم السابق، الذي أعدّت أمي فيه البرغل بالحمص، استبدلته بالمعكرونة، وإذا ما سُئلت عن المدينة التي أنتمي إليها، استبدلت سهل الغاب في حماة، بالشام، وإذا ما سألوني مَن مِن نساء عائلتي يرتدين الحجاب، أجبت أن عمتي وخالاتي يفعلن ذلك، ولم يكن في الوارد أن أقول إن أمي ترتدي الحجاب، فهي كانت تصطحبني من المدرسة في بعض الأحيان، وكان ذلك سيكشف كذبتي للجميع. كما أني، وبعد كل عطلة صيفية أقضيها في قرية والدتي الساحلية، كنت أجاهد نفسي لكتم بعض التفاصيل المثيرة التي قد تفضحني، كالذهاب إلى مقام، وذبح خروف للوفاء بنذر ما، أو السباحة في النهر الذي كان يمر بالقرب من بيت جدي، فأنا لم أرغب بأن يعرفوا أني أنتمي إلى قرية أيضاً، لأني كنت أظن أن القرى للعلويين فحسب، وأن أبناء الطوائف والأديان الأخرى ليس لهم من موطن سوى المدن الأنيقة، والمرتبة.
وفي يوم عادي من أيام المدرسة، حدث ما كنت أخاف منه، والحكاية التي غزلتها بعناية، تمزقت، وكشفت كذبي أمام الآخرين، فقدوم والدي لاصطحابي من صفي، كان بمثابة ورطة لم أتمكن من الخروج منها بشكل كامل، منذ ذلك الحين. إذ إن السنوات الطويلة التي عاشها والدي في دمشق، لم تنل من لهجته الجبلية الأصيلة، البتة. دخل يومها إلى الصف، وكان يتحدث مع المعلمة، ومن ثمّ وجه كلامه إلي، ولم تكن لهجته حتى شامية مكسرة، بل كانت لهجة جبلية متقنة، لا تصدر إلا عمّن تربى في قرية. وفي اليوم التالي، تجمعت حولي بعض فتيات الصف ضاحكاتٍ، ليسألنني: "ليش أبوكِ بيحكي هيك؟"، وسرعان ما انطلقت الكذبة الجديدة من بين شفتيّ: "أصل جدتي أم والدي من قرى مدينة حماة، ولكن هو من الشام، ولأن الأبناء يتحدثون بلهجة والداتهم، فهو يتحدث مثلها، مع أنه ابن الشام، تخيلوا!".
مرت الحادثة بسلام، ولكني شعرت بأن شكوكاً بدأت تدور حولي، وعند عودتي إلى المنزل، ذهبت أنا وأخواتي اللواتي كنّ ملتحقات بمدرستي ذاتها، إلى أمي، لنطلب منها ألا تسمح لأبي بالقدوم إلى مدرستنا ثانيةً، قائلاتٍ لها بصوت واحد: "إنه يسبب لنا الإحراج بلهجته".
في إحدى المرات، كنت جالسة مع صديقاتي، وتطرقنا إلى موضوع الحجاب، فسألت إحداهن كل واحدة منا: "أنت علوية؟". نطقت إحداهن محتدّةً: "ما فشرتِ كون علوية؟". خفق قلبي حينها بشدة، وأصابني توتر حاولت إخفاءه بالإجابة عن السؤال الذي وصل إليّ: "لا طبعاً"
كانت الأحاديث عن الطائفة، والأصول، تتناقص كلما تقدمنا في الصفوف، وأذكر أني كنت قد بدأت أعقد سلاماً داخلياً مع هويتي السرية، حين قالت إحدى المدرسات، في حصتها، بينما كانت توبخنا بسبب قذارة الصف، ووجود الكثير من الأوراق تحت المقاعد: "غرفة الصف تبدو كالكراجات". استخدمت الكراجات المتسخة كمثال، فالكراجات يكثر فيها أبناء القرى غير المتحضرين، حسب تعبيرها، لذلك نجدها قذرة على الدوام. كانت تلك الجملة تذكيراً جديداً لي بأن هويتي، وما يرتبط بها كله، يجب أن تبقى سرّاً أحمله معي طوال فترة سنواتي الدراسية، لأبقى آمنة من السخرية، أو الإقصاء.
وعندما كبرت، فهمت أن المشكلة لم تكن مشكلة زميلاتي في الصفوف الدراسية، أو مشكلة تلك المعلّمة، بل كانت مشكلة مجتمع بأكمله، لا يمكن أن يجتمع فيه الحديث عن الاختلاف والتنوع، من دون أن يكون الاقتتال ثالثهما. بالإضافة إلى افتقار الحديث عن أبناء المحافظات الأخرى، ولهجاتهم، وثقافاتهم، في الإعلام، واعتماد العاصمة دمشق، واللهجة الشامية، كمركز لسوريا، وللمجتمع السوري. فحكايتي، إذا ما عزلنا عامل الطائفة منها، ستجدها تتشابه مع حكايات العديد من القادمين من دير الزور، أو البوكمال، أو درعا.
تجربتي كفتاة أصولها من القرى، وتنتمي إلى الطائفة العلوية، وُلدت وعاشت طوال حياتها، في مدينة دمشق، سببت لي الكثير من التعقيدات في علاقتي مع هويتي. فأنا، وحتى فترة قريبة، كنت أعتقد أن سكان المدن أرقى وأفضل من سكان القرى، وأن لهجة أهل دمشق أكثر أناقة من لهجتي القروية، وما زلت حتى هذه اللحظة عاجزةً تماماً عن الحديث بلهجتي الأصلية التي أتحدث فيها مع عائلتي، عند التواصل مع الغرباء.
سأبلغ السابعة والعشرين عما قريب، وأكتب الآن لأكسر جليداً عمره سنوات، وأحاول أن أفتت أسطورة "الطائفة السرية"، وأن أجد متسعاً لأفراد الطائفة العلوية في النسيج السوري، وفي المشهد الاجتماعي، لا كأبناء قرى ساذجين، ومعتقداتهم الغريبة هي ما يميزهم، كما تظهرهم الدراما السورية فحسب، ولا كأفراد لديهم طقوس وحياة سرية، كما يعتقد كثيرون ممن لا ينتمون إلى هذه الطائفة، أكتب وكلّي أمل، بألا تضطر فتاة في المستقبل إلى تزييف أصولها، لكي تسلم من الإقصاء، أو السخرية، سواء أكانت من مدن الساحل، أو من حماة، أو من الجزيرة، وأن يصبح التنوع الطائفي والديني والثقافي، جزءاً حيوياً ومهماً من الوعي السوري الجماعي.
*مطرطق: كلمة تستخدم في بعض القرى في الساحل السوري، ومعناها متهالك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم