في حوار قديم للمطرب عمرو دياب، مع الإعلامي الرسمي الأشهر وقتها، مفيد فوزي، يرد دياب بسخرية مكتومة ونفاد صبر على محاوره، الذي ينقل له تصريح الموسيقار محمد عبد الوهاب، بأن أغانيه وأبناء جيله لا تصلح سوى للملاهي الليلية.
"وجهة نظر"، يقول دياب مشيحاً بوجهه، وعندما يمعن المحاور في استفزازه، يستشهد بالجمهور الذي جعله يتصدر مبيعات سوق الكاسيت، فيباغته ـــــ على لسان عبد الوهاب أيضاً ـــــ بأن الجمهور قد مات، فيسأله عمرو: لمن إذن غنى عبد الوهاب "من غير ليه"!
في ذلك العام نافس دياب، محمد عبد الوهاب على المركز الأول في مبيعات سوق الكاسيت، الذي ظل محتفظاً به حتى قرر موسيقار الأجيال غناء "من غير ليه"، آخر أغنياته، التي ترك بعدها المركز الأول لعمرو حتى الآن، وهذه الأيام يستدعى هذا المشهد كثيراً ضمن أزمة الحرب الرسمية في مصر على أغاني المهرجانات، والتي يسعي نقيب الموسيقيين، الفنان هاني شاكر، إلى محاصرتها حتى داخل الملاهي الليلية. وإن كان قرار النقيب غير مستغرب ومتسق مع نظرته المحافظة للفن ودوره، فإن المدهش هو موقف عبد الوهاب نفسه، صاحب النظرة التقدمية للإبداع، حتى أنه لم يتردد في إعلان إعجابه بالمطرب الشعبي أحمد عدوية، ولم يذكر أنه انزعج ممن أعادوا تقديم أغنياته في إطار ساخر، وهو الذي دخل ساحات القضاء أواخر حياته مدافعاً عن فنه، بعدما لاحقه المتشددون على المنابر وفي ساحات المحاكم.
عام 1989 كان عبد الوهاب يقترب من نهاية عقده الثامن، عندما وجد نفسه يواجه دعوى حسبة للتفريق بينه وبين زوجته، بعد اتهامه بالكفر والإلحاد إثر أغنيته الشهيرة "من غير ليه"، والتي كان مقرراً أن يغنيها عبد الحليم حافظ بحفل عيد الربيع عام 1977، لولا اشتداد مرضه ورحيله المفاجئ.
بعد تلحين وغناء عبد الوهاب لأغنية "لست أدري" المنتخبة أبياتها من قصيدة "الطلاسم"، اقتسم مع الشاعر لعنتها، حتى أن بعضهم اعتبرها دليلاً واضحاً على انتمائه للمذهب اللا أدري
بعد رحيل العندليب ولأكثر من عشر سنوات، ظلت الأغنية حبيسة أدراج مكتب عبد الوهاب، الذي رفض منحها لأي من مطربي ذلك الوقت، حتى قرر هو غناءها، وحققت نجاحاً كبيراً أكد أن تقدم العمر لم ينل من صوت الموسيقار الكبير. لكن الأغنية اصطدمت بتربص بعض التيارات الإسلامية ورموزها، فشنوا حرباً ضده على منابر المساجد والزوايا، وعبأوا فتاواهم التكفيرية في شرائط كاسيت، قبل أن ينقلوا معركتهم معه لساحات القضاء.
لم يمر وقت طويل حتى رفضت المحكمة الدعوى لافتقادها لأية سند، مع الإشادة بالمنزلة الفنية والتاريخية لموسيقار الأجيال، لكن لم تنته الحرب التي كانت بدأت بين هذه التيارات والموسيقار منذ عقود، وكان أبرز معاركها الهجوم الشديد عليه من قبل الشيخ عبد الحميد كشك في السبعينيات، واتهام الأخير له بالكفر بسبب أغنيته الشهيرة "لست أدري" المأخوذة من قصيدة "الطلاسم" للشاعر اللبناني الراحل إيليا أبي ماضي، وهي إحدى أغنيات فيلم عبد الوهاب "رصاصة في القلب" الذي أُنتج عام 1944، وعاود عبد الحليم حافظ غناءها ضمن فيلم "الخطايا" عام 1962.
وإذا "كانت من غير ليه" في جوهرها أغنية عاطفية، يقتصر الجدل فيها على مطلعها الذي يناوش بشكل عابر، فكرة سبب الخلق ومنتهاه، كما في: "جايين الدنيا ما نعرف ليه.. ولا رايحين فين.. ولا عايزين إيه.. مشاوير مكتوبة لخطاوينا.. نمشيها في غربة ليالينا.. واحنا ولا احنا عارفين ليه"، إلا أن أغنية "لست أدري" المنتخبة أبياتها من قصيدة "الطلاسم"، كانت نزعتها الفلسفية الوجودية أكثر وضوحاً، وفكرتها تكاد لا تقبل التأويل. والقصيدة منذ ظهورها كانت مثار جدل شديد وعرضة لهجوم متشددي التيارات الإسلامية والمسيحية على حد سواء، إذ كان كلاهما يراها قصيدة إلحادية تنتمي للفكر "اللا أدري" الذي يحاربانه، وبعد تلحين وغناء عبد الوهاب لها، اقتسم مع الشاعر لعنتها، حتى أن بعضهم اعتبرها دليلاً واضحاً على انتمائه للمذهب اللا أدري.
على الإنترنت وبمجرد كتابة كلمة "الطلاسم" يحيلك محرك البحث لعدد كبير من القصائد التي هي في مجملها معارضات ــــ أو هكذا يعتبرها أصحابها ـــــ لقصيدة أبي ماضي. أحدث هذه المعارضات منشورة في صحيفة مصرية بتاريخ 17 سبتمبر 2017، فيما تتوزع بقية المعارضات على العقود التسعة الفائتة منذ نشر القصيدة الأصلية.
وتشترك مجمل هذه المعارضات الموقعة باسم شعراء وكتاب ورجال دين إسلامي ومسيحي، في أن دوافعها ليست فنية أو إبداعية، وإنما عقائدية، هدفها الرد على ما اعتبروه إلحاداً وتشكيكاً في وجود الخالق والغاية من الخلق، فيما تتباين من حيث مستواها الفني واقترابها من فكرتها، بين التعمق الفلسفي والمعالجة الساذجة المشبعة باليقين والخطابية، ما يتبدى في لوازم مثل "أنا أدري" أو "ليت يدري" رداً على "لست أدري" عند أبي ماضي.
الحرب مع عبد الوهاب
على اختلافهم، لم يكن كل مهاجمي أبي ماضي بسبب قصيدته سوى إحدى أهون الجبهات التي كان يواجهها، ربما لأن فتاوى التكفير لم تكن ستنال منه في مهجره، وربما لأنه رحل قبل تمدد التيارات المتشددة وانتقالها من حيز القول للفعل، ما كان يشغله أكثر في ذلك الوقت هو التعدي على حقوقه ككاتب، وقيام بعض دور النشر بلبنان والعراق بطباعة وتوزيع ديوان "الجداول" المتضمن لهذه القصيدة، دون استئذانه أو منحه حقوقه المادية. أما أكثر ما أثاره فكان قيام الموسيقار محمد عبد الوهاب بتلحين بعض أبيات القصيدة وغنائها ضمن أحد أفلامه دون الرجوع إليه، فراح يهاجمه في مجلته "السمير"، وفي أغلب حواراته الصحفية واصفاً ما فعله بالسرقة والاستيلاء على الحقوق، ويبدو أن عبد الوهاب لم يحاول التفاهم معه أو استرضاءه، كما لم ينصفه القضاء عندما لجأ إليه ضد الناشرين الذي انتهكوا حقوقه المادية، إذ لم يكن قد سُنّ بعد قانون لحماية حقوق الكتاب والمبدعين:
"إنني أعرف أن عبد الوهاب يغني لي ويكتب اسمي في الإعلانات وكأنني نجم سينمائي، وأنا لم أقبض شيئاً من هذا كله، بل إن عبد الوهاب لم يكتب إليّ يطلب مني الموافقة على تلحين قصيدتي، ولا أعتقد أن حقوق التأليف مباحة في مصر إلى هذا الحد!"..
هذه الكلمات الغاضبة نقلتها الكاتبة خيرية خيري عن أبي ماضي، في مقالها المنشور بمجلة الجيل عام 1955، كما ذكر الكاتب الصحفي محمد رفعت، الذي أجرى حواراً صحفياً مع أبي ماضي بنيويورك قبيل رحيله، أن الأخير ما إن أعطاه اسطوانة أغنية لست "أدري" حتى قام بإلقائها على الأرض وتكسيرها، متهماً عبد الوهاب بسرقه شعره.
الغريب أن عبد الوهاب ذاته شكا في تسجيل إذاعي له من أن عدم تواصله مع الشاعر اضطره إلى أحداث كسر في الوزن في مطلع القصيدة، بعدما استبدل كلمة "قدامي" في البيت الثاني بكلمة "أمامي"، لأنه استشعر أن الأولى رغم فصحاتها كلمة دارجة، "جئتُ لا أعلمُ من أين ولكني أتيت/ ولقد أبصرتُ قدّامي طريقاً فمشيتُ". في هذا اللقاء قال عبد الوهاب إنه كان يعرف قصيدة "الطلاسم" قبل أن يقرر غناءها بالفيلم، وأنه عاشها وأحبها، لكنه عندما قرر تلحينها صادفته "عقبة نفسية لا فنية"، وهي كلمة "قدامي" إذ لم يستطع هضمها على حد وصفه، وفشلت كل محاولاته لغنائها بهذا الشكل. واعترف الموسيقار آسفاً أن كلمة "أمامي" مكسورة، لكنه اختار أن يلحنها ويسجلها هكذا.
وأوضح أن الملحن يصادفه في كثير من الأحيان كلام يحتاج معه أن يجلس مع المؤلف، وإذا لم يكن الاثنان واحد، واللحن والكلام متفاهمان ومتصادقان، لا يكون هذا فناً: "لا بد أن يكون هناك تداخل بين صاحب الكلمة وصاحب اللحن والمؤدي.. لا بد أن يكون ثلاثتهم حاجة واحدة"..
هكذا وشى اعتراف عبد الوهاب – ضمنياً - بالأسف أو الندم على عدم التواصل مع الشاعر إيليا أبي ماضي، معترفاً بأنه أثر على الشكل الذي خرجت به الأغنية، لكن شيئاً لم يثبت أنه حاول التواصل معه فيما بعد، ورغم ذلك ظل يبدي إعجابه بالقصيدة حتى آخر سنوات حياته، لأنها حملت في رأيه "السؤال الأزلي الأبدي، احنا جينا ليه وهنروح ليه؟ وعشان نعمل إيه؟ وأن هذا قدم بلا شك لمحة جديدة على الغناء".
عام 1962 عندما اقترح عبد الحليم غناء قصيدة "لست أدري"، تم استبدال كلمة أمامي "المكسورة" بكلمة "للدنيا"، لتصبح "ولقد أبصرت للدنيا طريقاً فمشيت"، لكن هذا كان أهون ما جرى للقصيدة، فقد سبق الفنانان إسماعيل ياسين ومحمود شكوكو، أشهر مونولوجيستات القاهرة في ذلك الحين، بتقديم معارضات أو استعراضات كوميدية للأغنية، فقدمها شكوكو مع زينات صدقي ضمن محاكاة ساخرة لأوبريت ليلى مراد "قلبي دليلي"، بنفس لحن عبد الوهاب مع استبدال الكلمات على النحو التالي:
جئتُ.. لا أعلم من أين ولكني أتيتُ/ ولقيت واحد بتاع ترمس أمامي فاشتريتُ/ واللي ياخدني من محبوبي أنا أخرب بيته"..
أما إسماعيل ياسين فقدم الأغنية ضمن فيلم "بيت النتاش" مع شادية وزينات صدقي، مستبدلًا كلماتها على النحو التالي: لست أدري../ بدي أدري.. نفسي أدري.. بكره يجري/ بعده يجري/ لست أدري؟
لست أدرى أهو حلم أم خيال؟ ورجال نحن.. أم نحن عيال؟ وكيف سابنى مثل الشوال؟ وتركنى/ لست أدرى!
والأغنيتان من كلمات الشاعر الغنائي فتحي قورة، الذي اشتهر بتقديم الأغاني المرحة ذات الطابع الفكاهي، وكوّن مع الملحن منير مراد ثنائياً فنياً قدم الكثير من الأعمال ضمن هذا اللون الغنائي، الذي يمكن اعتباره مهرجانات تلك الفترة، مع حظ أوفر من الحرية والقبول.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...