الطابور، مصطلح اقتحم فجأة حياة اللبنانيين، بعد أن كان كثيرون يجهلون معنى الكلمة في الماضي. بالنسبة إلى العسكر، الطابور هو الجماعة المؤلفة من عدد كبير من العناصر، أما بالنسبة إلى عامة الناس، فهو اجتماع الأفراد وانتظارهم للحصول على خدمة أو سلعة معيّنة.
الطابور ليس عيباً، ففي أي زاوية في العالم، حين يزيد حجم الطلب عن حجم العرض، يصطف الأشخاص في طوابير... ولكنها عادةً تكون بسيطة، ولا تشبه بتاتاً ما يحصل في لبنان.
في عالم الرياضيات والحساب، ثمة نظرية تُدعى "نظرية الطابور" Queuing theory، تقوم بدراسة ديناميكية خطوط الانتظار، وكيفية عملها بشكل أفضل، نظراً لعدة عوامل ومؤشرات. وُظّفت هذه النظرية في مختلف مجالات العمل، من المصانع، إلى المصارف، وغيرها، حتى يتمكن الزبائن والعملاء من الحصول على الخدمة بأسرع طريقة ممكنة.
ما يهمنا اليوم هو شرح هذه النظرية على الطوابير الممتدة على محطات البنزين في لبنان.
خصائص الطوابير
"لا تنظروا إلى طول الطابور أو قصره، لكن انتبهوا إلى عدد الخراطيم الشغالة". هذه فكرة ضرورية للمواطن اللبناني، فمعرفة عدد الخطوط، وعدد الخراطيم العاملة، تجعل احتساب المدة الزمنية لملء خزان السيارة بالوقود أمر ممكناً، نظرياً!
1ـ خط واحد وخرطوم واحد
هذا ما يُسمّى بـ"الطابور الكلاسيكي". في هذه الحالة، قد يطول وقوفك في الطابور، وقد تحتاجـ(ين) إلى أكثر من يوم حتى يصلك الدور. ما عليك فعله هو عدّ السيارات أمامك، واحتسبـ(ي) معدّل المدة الزمنية التي تقتربـ(ين) فيها كلما تحركت سيارتك.
2ـ خط واحد، وخراطيم متعددة
في حال كانت عدة خراطيم تعمل، تصير فرص النجاح بإتمام مهمة التزود بالوقود أعلى من الحالة الأولى.
3ـ خطوط متعددة، خرطوم واحد
تُعتبر هذه الحالة الأصعب والأسوأ، لأن الانتظار قد يمتد إلى أيام، كما أن اختيار الصف الأسرع والأفضل ليس مضمون النتائج، لعدة أسباب نتحدث عنها في القسم التالي. لذا إنْ كنت في أحد هذه الطوابير ولست مضطراً(ة) للتعبئة، اهربـ(ي) فحسب.
4ـ خطوط متعددة، خراطيم متعددة
في هذه الوضعية، إذا أصبت في اختيار الطابور الأسرع، ستنجز(ين) مهمتك خلال وقت مثالي، وقد تقيم(ين) حفلة في ذلك النهار للاحتفال بالنجاح.
طول الطابور
في الحالات العادية، يكون طول الطابور محدوداً بالمساحة الجغرافية المحيطة بالمحطة، أو بعرض الشارع وإمكانية تعدد الصفوف، لكن المواطن اللبناني لا يكترث بالمسافات والوقائع الوضعية. فمثلاً لو كان الطريق يتسع لإقامة طابور واحد فقط، قد نرى طابورين يغلقان جهة من الشارع. هكذا يصبح واجباً على السيارات المارّة تنظيم سيرها إما ذهاباً، أو إياباً، وفي بعض الحالات يُقطع الطريق كلياً، وعلى المركبات الأخرى أن تجد طريقاً جديداً.
هذه بعض النصائح والمعلومات عن سيكولوجيا الانتظار، نتمنى أن تحقق بعض الراحة والسعادة لكم أثناء الانضمام إلى طابور ما
التوزيع الاحتمالي لزمن التعبئة
نظرية الطوابير تعتمد على التوزيع الأسي Exponential Distribution، وفي بعض الحالات تستخدم المحاكاة عبر الكمبيوتر. ونظراً إلى وضع لبنان الكارثي، هو من الحالات الخاصة التي يجب دراستها جيداً قبل استخلاص النتائج.
يطمع المواطن العادي بالعدالة، وبتطبيق نظام الخدمة بأسبقية الحضورFirst Come First Served، وبالتالي تراه يركن السيارة منذ ساعات المساء الأولى، حتى يتمكن من تعبئتها في صباح اليوم التالي، حين تفتح المحطة أبوابها.
لكن من الجيّد الانتباه إلى عدة أمور:
ـ قد تتعرض السيارة للسرقة، لذلك يجب اختيار محيط مأهول قبل الركن.
ـ قد لا تفتح المحطة في اليوم التالي، ذلك أن البنزين لا يوزَّع يومياً، أو لأن صاحب المحطة استطاع تصريف البضاعة في السوق السوداء، وحصل على ربح أكبر بكثير. هذا النوع من الطوابير اسمه "طابور بلا معنى".
ـ لكل شخص أحباب وأصدقاء، لهذا سترى بعض السيارات تدخل من الخلف، أو تلتف للتزود بالوقود قبلك. من الجيّد ذِكر أن صداقة صاحب المحطة سهلة، وقابلة للشراء بثمن زهيد، لكنها تحتاج إلى وسيط أحياناً.
ـ ساعات الانتظار الطويلة لا تتوافق مع كمية البنزين التي ستحصل عليها. قد تنتظر ساعتين وتحصل على عشرة ليترات فقط، وقد تنتظر ساعة فقط وتملأ خزان سيارتك بالكامل. "الطوابير حظوظ".
ـ تتفاوت الطوابير في سرعتها، فبعضها TGV (Tabour à Grande Vitesse)، وبعضها بطيء وممل. يلعب نشاط العامل في المحطة دوراً في السرعة، وتلعب دوراً سعة خزان الوقود في السيارة، وهامش الاختلاف الكبير بين السيارات الصغيرة، والسيارات الضخمة رباعية الدفع.
تتفاوت الطوابير في سرعتها، فبعضها TGV: Tabour à Grande Vitesse، وبعضها بطيء وممل
ـ "لا تقول Full ليصير بالمكيول". حاول ترداد هذه الجملة قدر المستطاع أثناء الانتظار في الطابور، لأنه في أي لحظة قد تغلق المحطة، وتطلب منك الانتظار ليوم آخر، نتيجة انتهاء المخزون، أو بسبب إشكال وتضارب وإطلاق نار بين الناس، ولغيرها من الأسباب.
بين الحقيقة والإدراك
ليست الحقيقة هي ما ندركه دائماً. النسبية تنطبق على زمن الانتظار أيضاً، وتتعلق بإدراك الزبون في الطابور للزمن. فالبعض قد يمضي ساعات من الانتظار بلا غضب، والبعض يبدأ بالصراخ بعد عدة دقائق.
عادةً، يحرص مدير المؤسسة أو المصلحة على تأمين الخدمة للزبون بأقل وقت ممكن، ذلك لأن رضا العميل أو الزبون يتأثر بفترة الانتظار. هذه القاعدة غير مطبّقة في لبنان، حيث تسود حالة من المازوشية عند الناس، يتلذذون بطول فترة انتظارهم، يتعارفون على بعضهم البعض، ينجزون بعض الأعمال، يقرأون لـ"طاغور" في الطابور، يتحدثون عن مأساتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، يتعاركون، يضربون عمال المحطة، يضربون بعضهم بعضاً، ويمارسون الكثير من النشاطات الأخرى.
ثمة عدة عوامل تفسّر اختلاف الشعور عند المنتظرين:
ـ خبرة الطوابير: تلعب الخبرة دوراً مهماً في شعور المواطن بالراحة. فمثلاً بعد أن يعتاد الشخص على البقاء في الطابور ست ساعات، سيكون جاهزاً للوقوف في أي طابور آخر، ذلك أن الإحساس بالوقت يصير معدوماً لديه. طبعاً الأمر بحاجة إلى التدريب، والبدء بطوابير قصيرة قبل بلوغ مرحلة اللاشعور.
ـ أهمية الوقت وقيمته: في الظروف العادية، حين يعيش الناس في بلد مستقر يقدّم الخدمات لشعبه، يكون الوقت كالسيف، إنما في بلد نسبة البطالة فيه وصلت إلى أرقام قياسية، على وقع انهيار اقتصادي صُنّف من أقسى ثلاثة انهيارات على امتداد قرن من الزمن، يصير الطابور تسلية، هواية يمارسها الناس مجاناً، توفّرها السلطة الحاكمة بلا مقابل، كالحدائق والبحيرات والأماكن العامة التي تتغنى بها البلاد المتقدمة. يا لبؤسهم، لا يملكون طوابير!
ـ وسائل الترفيه: ليس الطابور مكاناً يستطيع الشخص أن يصمد فيه أو يتماسك من دون مقوّمات تحفظ له كرامته وتنسيه الوقت. لذلك قبل الخروج إلى الطابور، يجب التأكد من بطارية الهاتف، حمل سندويشات، قنينة مياه، علكة، وغيرها.
الحالة النفسية
تشكّل الافتراضات التي وضعها دايفيد مايستر Maister عام 1985 عن الحالة النفسية للانتظار، مرجعاً مهماً لنا. عبر السنين، أثبتت فرضياته صحتها بشكل ملحوظ. ومن هذه الفرضيات:
ـ تحويل الأوقات الفارغة إلى أوقات مشغولة حتى يمر الوقت بسرعة.
ـ القلق عدوك اللدود (بالتكافل والتضامن مع السلطة اللبنانية).
ـ الانتظار المحدد يمرّ أسرع بكثير من الانتظار غير المحدد والمجهول، لذلك من المهم اختيار طوابير متوازية، يمكن احتساب وقت تقديري للوصول إلى خرطوم السعادة فيها.
ـ الانتظار العادل يمرّ أسرع من الانتظار غير العادل، فإذا رأيت الكثير من "أصدقاء" صاحب المحطة، غادر(ي) فوراً.
ـ يزداد تقبّل الانتظار كلما شعر الزبون بقيمة الخدمة. وماذا أغلى قيمةً من البنزين في هذه الأيام ليتمكن الفرد من التحرك؟!
ـ الانتظار في جماعة يمرّ أسرع من الانتظار المنفرد، لذا لا تبقوا أسرى المقود. انزلوا وتحدثوا مع الآخرين، اشتموا المسؤولين لكن من دون تعيين اسم، لأن هوية "المسؤول" تختلف من شخص إلى آخر.
ـ الراحة تخفف من الإحساس بالوقت، لذلك ابحثـ(ي) عن شجرة تجلسـ(ين) تحتها مع زملائك في الطابور، أو عن محطة لا تصلها الشمس كثيراً.
هذه بعض النصائح والمعلومات عن سيكولوجيا الانتظار، نتمنى أن تحقق بعض الراحة والسعادة لكم أثناء الانضمام إلى طابور ما.
ولا ننسى أن الطوابير خلقت آلاف فرص العمل، وحققت العدالة الاجتماعية، إذ صار الطبيب والمهندس ورجل الأعمال يعملون سوياً مع الشباب من مختلف الطبقات، في تعبئة الوقود في السيارة، وأحياناً كثيرة في تفريغه في غالونات ثم بيعه في السوق السوداء بأسعار مضاعَفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...