شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن الهزائم والعذابات اليومية... محاولة لإخراج بعض السموم

عن الهزائم والعذابات اليومية... محاولة لإخراج بعض السموم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 29 أغسطس 202110:38 ص

يبدو أن ليس للانحطاط والانحدار الذي نعيشه في المشرق العربي قاع، الانسداد السياسي والضيق المعيشي على جميع المستويات، وصل إلى حدود لم تعد محتملة. لم تظهر إلى الآن علامات تبشّر بحلّ ما، وما يزيد الأمر بؤساً أن التفكّر في آلامنا وعذاباتنا اليومية صار جزءاً من الروتين اليومي الذي خلّفته لنا هزائمنا المتلاحقة.

الهزيمة هي المشترك المرير في مصائرنا، كأننا محكومون بالهزائم، أو كأن قدرنا الخاص أن نتلقّى جملة من الهزائم والخيبات المتلاحقة. ما تخلّفه الهزيمة مدمر وجدير بالبحث والتفكّر، ولعل أخطر ما فيه أنه قد يصيب المهزوم بحقد عميق، وقد يوهم المنتصر بنوع من "التفوق الأخلاقي" على ضحاياه. بالإضافة إلى ذلك، فالهزيمة تسبب نوعاً من العذاب، وفي حالات معيّنة تسبب الألم أو الوجع.

عن العذاب والألم

العذابات والآلام هي أيضاً مشكلة سياسية في جانب منها، تُضاف إلى المشاكل السياسية الأخرى، ولكن علينا أن نقيم تفريقاً هنا بين العذاب والألم. يقول المفكر التونسي محمد محجوب في محاضرة عن "تأويلية العذاب": "كما لو أن اللغة قد أقرت، أو قد تكون أقرت، إسكان الوجع في العظام وإخفاء الألم في الأحشاء، وأما العذاب فمفهوم أقل ما نقول عنه إنه غامض مبثوث في النفس الإنسانية، وكأنما هو المناوب النفسي الذي يضطلع لدى مرحلة عدم الاحتمال، بالوجع الذي لا يهدأ أو بالألم الذي لا يسكن، كأنما العذاب لا يتعلق بعضو من الأعضاء بل يتعلق بالكيان بأكلمه".

نعيش الكثير من الهزائم والعذابات بشكل معمم، لا تخصيص فيه لجهة دون أخرى. الجميع دون استثناء يعيشون ضرباً من ضروب العذاب، عذابات يومية نكابدها في العيش في أفق من أكثر الآفاق السياسية انحطاطاً وفي ظروف معيشية من الأكثر قسوة. جميعنا نختبر الطابع التكراري للعذاب، ذلك الذي يُفقد النفس قدرتها على الانفعال، لكننا "نجرب العذاب والموت في وحدة تامة، وربما لا نستطيع أن نقول شيئاً عنهما"، كما يشير محمد محجوب.

أما مصادر العذاب، فلا تُعَدّ ولا تحصى، لكن الأسباب السياسية الاجتماعية الاقتصادية، أو المعيشية اليومية على وجه الخصوص، هي بشكل خاص التي تدع الناس يرزحون تحت أثقال لا تُحتمل، وذلك يفتح الناس بالحد الأدنى على اشمئزاز يومي يغلق النفس، ويدعوها لئلا ترى أو يجعلها لا تريد أن ترى، والحق أن الناس مفتوحون على كل ما يخالج النفس من السلوب.

"ما يزيد الأمر بؤساً أن التفكّر في آلامنا وعذاباتنا اليومية صار جزءاً من الروتين اليومي الذي خلّفته لنا هزائمنا المتلاحقة"

ربما نعيش هزائمنا وعذاباتنا اليومية متفرجين، بعيون وآمال متوجهة إلى "خارج ما" أو بآمال متعلقة بأهداب الحياة في حدودها الدنيا. ما نفكر فيه وما نقصّه على أنفسنا يحتاج إلى إعادة تقييم وتفسير وتفكر متجدد. "ما نحن عليه" ليس ما نقصّه على أنفسنا بالضبط، وما نسمّيه "النحن" الثورية التي ننتمي إليها، فهي أيضاً "نحن" سردية مثقلة بالهزائم والخيبات والعذابات.

عن السموم اليومية

لا نحتاج هنا للإشارة إلى ما يحصل على وجه الدقة في الراهن السياسي والاقتصادي والاجتماعي. الانهيار واضح بالنسبة للجميع. المشهد الحياتي مليء بالسموم، وما يُسمّى "السلم الأهلي" (وهذا مصطلح فضفاض على منطقتنا) ليس إلا وهماً قد يتداعى قريباً، أو هو تداعى في مناطق عديدة لكن هذا التداعي لم يكتمل ولم يشمل كامل الخريطة الشرق أوسطية بعد.

ما وصل إليه الوضع المعيشي من استحالة وضيق، يسلب الإرادة، والحال أننا غير قادرين على تكرار هزائمنا أو تجاربنا المريرة إلى ما لا نهاية، ولا رغبة لدى أحد في أن يستمر بخوض معارك خاسرة. الناس مقيمون في يأس ورثاء للنفس، وهذا من القليل الذي أبقته لهم الأنظمة الحاكمة، ولكن لا تثريب على الناس حتى إذا غرقوا في الحزن بعد كل محاولاتهم، ولو علموا أنّ الحزن أعتى وأفظع "الشرور".

هذا الذي يُكابَد في بلادنا القبيحة، يبث السم في أجساد ونفوس الناس بطرق مهولة، ويغرز أرجلهم في اليأس أكثر فأكثر. بالإضافة إلى ذلك، ثمة حالة من العداء لدى الناس بسبب كم السموم المبثوثة داخلهم تجعل الوضع يبدو كأنه على وشك الانفجار في أي لحظة.

"ما وصل إليه الوضع المعيشي من استحالة وضيق يسلب الإرادة، والحال أننا غير قادرين على تكرار هزائمنا أو تجاربنا المريرة إلى ما لا نهاية، ولا رغبة لدى أحد في أن يستمر بخوض معارك خاسرة"

الأنظمة السياسية هي المسؤولة بطبيعة الحال عن بث السموم اليومية في نفوس الناس، وهي في كل مكان، وفي منطقتنا تحديداً، بحاجة دائمة لوجود أعداء، والحال أن الشعوب نفسها هي الأعداء الصميمة لهذه الأنظمة، ورغم كل شيء وبسببه، فإن الناس لا تتوقف عن البحث عن ترياق لكل هذه السموم.

هذا زمان مسموم، ساء الناس وأمعن في إذلالهم، لا أسف عليه إذا انقضى، وما هذا النص في أحد وجوهه إلا محاولة لإخراج بعض السموم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image