يبدو أن ليس للانحطاط والانحدار الذي نعيشه في المشرق العربي قاع، الانسداد السياسي والضيق المعيشي على جميع المستويات، وصل إلى حدود لم تعد محتملة. لم تظهر إلى الآن علامات تبشّر بحلّ ما، وما يزيد الأمر بؤساً أن التفكّر في آلامنا وعذاباتنا اليومية صار جزءاً من الروتين اليومي الذي خلّفته لنا هزائمنا المتلاحقة.
الهزيمة هي المشترك المرير في مصائرنا، كأننا محكومون بالهزائم، أو كأن قدرنا الخاص أن نتلقّى جملة من الهزائم والخيبات المتلاحقة. ما تخلّفه الهزيمة مدمر وجدير بالبحث والتفكّر، ولعل أخطر ما فيه أنه قد يصيب المهزوم بحقد عميق، وقد يوهم المنتصر بنوع من "التفوق الأخلاقي" على ضحاياه. بالإضافة إلى ذلك، فالهزيمة تسبب نوعاً من العذاب، وفي حالات معيّنة تسبب الألم أو الوجع.
عن العذاب والألم
العذابات والآلام هي أيضاً مشكلة سياسية في جانب منها، تُضاف إلى المشاكل السياسية الأخرى، ولكن علينا أن نقيم تفريقاً هنا بين العذاب والألم. يقول المفكر التونسي محمد محجوب في محاضرة عن "تأويلية العذاب": "كما لو أن اللغة قد أقرت، أو قد تكون أقرت، إسكان الوجع في العظام وإخفاء الألم في الأحشاء، وأما العذاب فمفهوم أقل ما نقول عنه إنه غامض مبثوث في النفس الإنسانية، وكأنما هو المناوب النفسي الذي يضطلع لدى مرحلة عدم الاحتمال، بالوجع الذي لا يهدأ أو بالألم الذي لا يسكن، كأنما العذاب لا يتعلق بعضو من الأعضاء بل يتعلق بالكيان بأكلمه".
نعيش الكثير من الهزائم والعذابات بشكل معمم، لا تخصيص فيه لجهة دون أخرى. الجميع دون استثناء يعيشون ضرباً من ضروب العذاب، عذابات يومية نكابدها في العيش في أفق من أكثر الآفاق السياسية انحطاطاً وفي ظروف معيشية من الأكثر قسوة. جميعنا نختبر الطابع التكراري للعذاب، ذلك الذي يُفقد النفس قدرتها على الانفعال، لكننا "نجرب العذاب والموت في وحدة تامة، وربما لا نستطيع أن نقول شيئاً عنهما"، كما يشير محمد محجوب.
أما مصادر العذاب، فلا تُعَدّ ولا تحصى، لكن الأسباب السياسية الاجتماعية الاقتصادية، أو المعيشية اليومية على وجه الخصوص، هي بشكل خاص التي تدع الناس يرزحون تحت أثقال لا تُحتمل، وذلك يفتح الناس بالحد الأدنى على اشمئزاز يومي يغلق النفس، ويدعوها لئلا ترى أو يجعلها لا تريد أن ترى، والحق أن الناس مفتوحون على كل ما يخالج النفس من السلوب.
"ما يزيد الأمر بؤساً أن التفكّر في آلامنا وعذاباتنا اليومية صار جزءاً من الروتين اليومي الذي خلّفته لنا هزائمنا المتلاحقة"
ربما نعيش هزائمنا وعذاباتنا اليومية متفرجين، بعيون وآمال متوجهة إلى "خارج ما" أو بآمال متعلقة بأهداب الحياة في حدودها الدنيا. ما نفكر فيه وما نقصّه على أنفسنا يحتاج إلى إعادة تقييم وتفسير وتفكر متجدد. "ما نحن عليه" ليس ما نقصّه على أنفسنا بالضبط، وما نسمّيه "النحن" الثورية التي ننتمي إليها، فهي أيضاً "نحن" سردية مثقلة بالهزائم والخيبات والعذابات.
عن السموم اليومية
لا نحتاج هنا للإشارة إلى ما يحصل على وجه الدقة في الراهن السياسي والاقتصادي والاجتماعي. الانهيار واضح بالنسبة للجميع. المشهد الحياتي مليء بالسموم، وما يُسمّى "السلم الأهلي" (وهذا مصطلح فضفاض على منطقتنا) ليس إلا وهماً قد يتداعى قريباً، أو هو تداعى في مناطق عديدة لكن هذا التداعي لم يكتمل ولم يشمل كامل الخريطة الشرق أوسطية بعد.
ما وصل إليه الوضع المعيشي من استحالة وضيق، يسلب الإرادة، والحال أننا غير قادرين على تكرار هزائمنا أو تجاربنا المريرة إلى ما لا نهاية، ولا رغبة لدى أحد في أن يستمر بخوض معارك خاسرة. الناس مقيمون في يأس ورثاء للنفس، وهذا من القليل الذي أبقته لهم الأنظمة الحاكمة، ولكن لا تثريب على الناس حتى إذا غرقوا في الحزن بعد كل محاولاتهم، ولو علموا أنّ الحزن أعتى وأفظع "الشرور".
هذا الذي يُكابَد في بلادنا القبيحة، يبث السم في أجساد ونفوس الناس بطرق مهولة، ويغرز أرجلهم في اليأس أكثر فأكثر. بالإضافة إلى ذلك، ثمة حالة من العداء لدى الناس بسبب كم السموم المبثوثة داخلهم تجعل الوضع يبدو كأنه على وشك الانفجار في أي لحظة.
"ما وصل إليه الوضع المعيشي من استحالة وضيق يسلب الإرادة، والحال أننا غير قادرين على تكرار هزائمنا أو تجاربنا المريرة إلى ما لا نهاية، ولا رغبة لدى أحد في أن يستمر بخوض معارك خاسرة"
الأنظمة السياسية هي المسؤولة بطبيعة الحال عن بث السموم اليومية في نفوس الناس، وهي في كل مكان، وفي منطقتنا تحديداً، بحاجة دائمة لوجود أعداء، والحال أن الشعوب نفسها هي الأعداء الصميمة لهذه الأنظمة، ورغم كل شيء وبسببه، فإن الناس لا تتوقف عن البحث عن ترياق لكل هذه السموم.
هذا زمان مسموم، ساء الناس وأمعن في إذلالهم، لا أسف عليه إذا انقضى، وما هذا النص في أحد وجوهه إلا محاولة لإخراج بعض السموم.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.