"لا أحب أن أكون مراقَباً"، "أخاف من العيون المسلّطة عليّ عندما أتحدث"، "لا أرغب في أن أكون في دائرة الضوء"، هذه عيّنة مما يقوله الأفراد الذين يعانون من رهاب التحدث أمام الجمهور أو الغلوسوفوبيا، وهو مصطلح يأتي من الكلمة اليونانية glossa والتي تعني اللسان.
في الحقيقة، إن فكرة الوقوف في غرفة مزدحمة وإلقاء خطاب أمام الناس أو تقديم عرض وظيفي أمام الزملاء في العمل تملأ قلوب الكثير منّا بفزع شديد، وعندما نقف للتحدث، نتجنب تقريباً التواصل بالعين مع الآخرين، الأمر الذي من شأنه أن "يزيد الطين بلّة".
ففي حين أن تجنّب الاتصال المباشر بالعين قد يبدو، بالنسبة للبعض، استراتيجية فعّالة للتعامل مع قلق التحدّث، إلا أنه في الواقع يجعلنا أكثر توتراً.
تهديد وجودي
لطالما شعر سامر (اسم مستعار) في مرحلة الطفولة بالإحراج عندما كان الأساتذة يطلبون منه الوقوف أمام سائر التلامذة لإعادة شرح الدرس، وبمجرد أن يسمع اسمه في العلن، كان يشعر بالإرباك، فيتقدم بخجل إلى وسط الصف وتتسارع دقات قلبه ويتلعثم، مع العلم بأنه حفظ الدرس عن ظهر قلب.
إن فكرة الوقوف في غرفة مزدحمة وإلقاء خطاب أمام الناس أو تقديم عرض وظيفي أمام الزملاء في العمل تملأ قلوب الكثير منّا بفزع شديد، وعندما نقف للتحدث، نتجنب تقريباً التواصل بالعين مع الآخرين، الأمر الذي من شأنه أن "يزيد الطين بلّة"
مشكلة التحدّث في العلن استمرت مع سامر إلى مرحلة الجامعة، ومن ثم واجه هذا الشاب الثلاثيني صعوبة بالغة في العمل، لدرجة أنه كان يخلق دوماً الأعذار لعدم التفوّه بأي كلمة أثناء الاجتماعات: "لفترة طويلة، كنت أتظاهر بالمرض حين يُطلب مني إبداء رأيي أمام زملائي في العمل، وكنت أهرب دوماً إلى الحلّ الأفضل بالنسبة إلي وهو شرح موقفي عبر الإيميلات والرسائل المكتوبة، غير أن ذلك أثّر سلباً على تقدمي في العمل، وجعلني أعمل دوماً low profile بخلاف زملائي الذين كانوا يحققون النجاح لمجرد أنهم في الطليعة وتحت الأضواء".
وأوضح لرصيف22، أن أسوأ "كابوس" بالنسبة إليه هو عندما كان يكلّفه المدير في تقديم عرض عمل معيّن في غرفة الاجتماعات: "وقوفي أمام زملائي في العمل يصيبني بالهلع، الوضع أشبه بوقوف شخص عار في غرفة مزدحمة حيث تكون العيون كلها مسلّطة عليه، في الواقع أخشى من نظرات الآخرين ومن حكمهم القاسي في حال أخطأت أو تلعثمت، والمفارقة أن توتري هذا يجعلني دوماً عاجزاً عن إيصال أفكاري بتسلسل منطقي".
هذا وكشف سامر أن جائحة كورونا ساعدته نوعاً ما في تبديد هذا القلق: "الاجتماعات التي تكون عبر المنصات الإلكترونية تناسبني وذلك لوجود حاجز بيني وبين الآخرين، فمن خلال الشاشة لن يلاحظ أحد حركاتي العصبية أو خوفي"، وختم بالقول: "بالطبع لا أتمنى أن يستمر هذا الوباء لفترة طويلة، ولكن بصراحة أخشى من عودة الاجتماعات واللقاءات المباشرة في المكتب".
كشف استطلاع أجرته مؤسسة غالوب أن 40% من الناس يخشون التحدث أمام الجمهور، وقد تبيّن أن البعض يخشى التحدث في اللقاءات العامة أكثر من الخشية من الموت.
واللافت أن الخوف من التحدث أمام الجمهور هو شكل شائع من أشكال القلق، والذي يمكن أن يتراوح من العصبية الطفيفة إلى الخوف والذعر الذي يصل لحدّ الشلل، أما بالنسبة للأعراض الجسدية، فتشمل: تسارع معدل ضربات القلب، التعرق، جفاف الفم والغثيان، هذا وقد يشعر المصاب بالرغبة الملحة في الخروج بسرعة من الغرفة أو الابتعاد عن الموقف الذي يسبب له التوتر.
وبهدف فهم الأسباب الكامنة وراء الغلوسوفوبيا، يجب العودة إلى العصور القديمة، حيث كان البشر ينظرون إلى عيون الحيوانات المفترسة التي تراقبهم على أنها تهديد وجودي، خوفاً من أن يتم التهامهم وهم أحياء.
والمفارقة أن الأدمغة البشرية نقلت هذا الخوف القديم من مسألة المراقبة إلى الخطابة والمحادثات، حيث يزداد القلق بشأن ما يفكر فيه الناس عنّا، أو خشية التفوه بكلمة خاطئة أو نسيان ما كنّا ننوي قوله، وكلها أمور تكفي لإثارة رد الفعل الطبيعي أو الغريزي للهروب.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن القلق من التحدث أمام الجمهور موجود في حمضنا النووي، إذ ننظر إلى التحدث أمام الجمهور على أنه مصدر تهديد ونقوم بردّ فعل مماثل لما كان يقوم به أسلافنا مع الحيوانات المفترسة.
وعليه، تصبح الاستجابات الجسدية أثناء التحدث مماثلة لكيفية التفاعل مع علامات الخطر: ضيق التنفس، احمرار الوجه والرعشة.
لذلك عندما نتحدث اليوم أمام مجموعة من الناس ونلاحظ بأن هناك عيوناً مسلّطة علينا وتراقبنا بدقة، نشعر بنوع من الإحراج والانزعاج، كخروج رجل الكهف في وضح النهار إلى العلن، ولأن دماغنا يخبرنا بأننا نتعرض للهجوم، فإننا نفعل كل ما هو ضروري لحماية أنفسنا، وبالتالي نبني جدراناً بيننا وبين مصدر الخطر (في هذه الحالة، الجمهور) لصدّ الهجوم وإزالة أي خطر.
الخوف من آراء الآخرين
في الواقع، يخشى الكثير من الأشخاص الذين لديهم خوف شديد من التحدث أمام الجمهور أن يتم الحكم عليهم أو إحراجهم أو رفضهم، والسبب قد يعود إلى تجربة غير سارة قد مروا بها في السابق، مثل عرض عمل غير موفق، أو التحدث أمام الآخرين دون أي استعداد، مما سبب لهم الإحراج والإرباك.
وعلى الرغم من أن الرهاب الاجتماعي غالباً ما ينتشر في العائلات، إلا أن العلم وراء ذلك غير مفهوم.
فقد أفادت دراسة أجريت في العام 2002 أن تربية الفئران التي تظهر خوفاً وقلقاً أقل نتج عنها نسل أقل قلقاً، لكن هناك حاجة إلى مزيد من البحث لتقييم ما إذا كان الرهاب الاجتماعي وراثياً.
وفي السياق نفسه، وجد الاختبار الذي أجراه المعهد الوطني للصحة العقلية أن أدمغة الأشخاص الذين يعانون من القلق الاجتماعي لديها استجابة عالية عند قراءة التعليقات السلبية عنهم. كانت المناطق المتضررة هي المسؤولة عن التقييم الذاتي والمعالجة العاطفية. لم يتم رؤية هذه الاستجابة المتزايدة لدى الأشخاص غير المصابين بهذا الاضطراب.
إدارة القلق
على الرغم من أن استجابة القتال أو الهروب نجحت بشكل جيّد عندما كان يخاف البشر من هجمات الأعداء والحيوانات البرية المفترسة، إلا أن هذه الاستجابة غير فعالة مثلاً في غرفة الاجتماعات.
في الحقيقة، لقد عانى العديد من المشاهير من رهاب التحدث أمام الجمهور، على غرار نيكول كيدمان، ابراهام لينكولن وسيغموند فرويد. وقد ذكروا جميعاً أنهم بذلوا جهداً كبيراً لتجنب التحدث في الأماكن العامة، وكان عليهم وضع استراتيجيات للتغلب على هذا الخوف الذي شكل أحياناً حجر عثرة في طريقهم لإيصال أفكارهم.
كشف استطلاع أجرته مؤسسة غالوب أن 40% من الناس يخشون التحدث أمام الجمهور، وقد تبيّن أن البعض يخشى التحدث في اللقاءات العامة أكثر من الخشية من الموت
ولعلّ غاندي أحد الأمثلة المتطرفة، فبحسب مقال ورد في The Atlantic، كان من المقرر أن يتحدث الزعيم الروحي في المحكمة، إلا أنه تمكن فقط من نطق الجملة الأولى من خطابه قبل أن يدخل مساعد له وينهي الخطاب نيابة عنه.
لا شك أن التعرف على جذور المخاوف الكامنة وراء التحدث أمام الناس يساعد في اتخاذ خطوات فعّالة لإدارة هذا القلق.
صحيح أن هذا النوع من الرهاب شائع، إلا أنه يمكن علاجه أيضاً، وبالتالي ليس هناك من حاجة لترك الذعر من الكلام يعيق المرء ويؤثر سلباً على جوانب عديدة من حياته، بما في ذلك النجاح في العمل.
مع التحضير والمثابرة، يمكن أن يصبح الشخص المعني أكثر راحة مع فكرة التحدث في العلن.
التركيز على المحادثة نفسها
يجب الاستعداد جيداً قبل تقديم أي عرض. هذا لا يعني بأنه يجب حفظ العرض التقديمي، وإنما يجب أن نعرف ما نريد قولـه وأن يكون لدينا مخطط للنقاط الرئيسية، هذا بالإضافة لضرورة التركيز بشكل خاص على المقدمة، لأن هذا هو الوقت الذي من المحتمل أن نكون فيه أكثر توتراً.
الممارسة
"أهم نصيحة للخطابة هي الممارسة"، وفق ما أكد مات إيفنتوف، مؤسس princetonpublicspeaking.com لصحيفة الإندبندنت، موضحاً أنه كلما تحدثنا أكثر، كلما قلّ شعورنا بعدم الراحة مع مرور الوقت.
إذا لم تكن لدينا فرص منتظمة للتحدث في العمل، فمن المفيد الانضمام إلى نادٍ محلي للكتاب لبناء الثقة في مشاركة الأفكار، أو حتى إجراء العروض التقديمية مع الأصدقاء والعائلة.
يبدو أن تسجيل فيديو لأنفسنا أثناء إلقاء خطاب يبدو مزعجاً في البداية، ولكنه يمكن أن يكون مفيداً لتعزيز الثقة بالنفس.
اللجوء إلى بعض تقنيات الاسترخاء
يعاني الأشخاص من مستويات متفاوتة من القلق، ولكن هناك بعض الطرق التي من شأنها تخفيف عبء التحدث أمام الجمهور.
في هذا الصدد، ينصح بول راسل، الدكتور في علم النفس والمدير الإداري لشركة التدريب على المهارات، أن نقوم بتذكير أنفسنا أن الأشخاص في الغرفة يريدون الاستماع إلينا، مضيفاً بأنه يمكن رسم صورة لشخص في ذهننا والتخيّل بأننا نتحدث معه بغية المساعدة على الشعور بالهدوء على المنصة.
هذا ويمكن اختيار شخصين من الجمهور، على جانبين متقابلين من الصف، باتجاه منتصف الغرفة، والتحدث إليهما مباشرةً، مما يجعل الأمر يبدو كما لو كنا نتحدث إلى الغرفة بأكملها.
التنفس
التنفس السليم هو أداة قوية يمكن أن تعزّز التحدث أمام الجمهور.
عندما نشعر بالتوتر، نميل إلى أخذ أنفاس قصيرة وغير عميقة، ولهذا السبب يوصي بول وينغفيلد، رئيس الدراسات الصوتية والتشغيلية في معهد برمنغهام الملكي بإبطاء الأمور.
واعتبر بول أن التنفس البطيء هو صديق المرء على خشبة المسرح: "لن يساعدكم ذلك فقط في ضبط الأعصاب، ولكنه سيساعدكم أيضاً على دعم صوتكم لإنتاج صوتي صحي، وهو أمر مفيد إذا كنتم ستعتادون التحدث إلى مجموعات كبيرة من الناس".
ومع زيادة معدل ضربات القلب لدينا، تزداد سرعة إيقاع التحدث، وهو أمر يدركه المتحدثون المتمرسون، لذا فهم يأخذون الوقت الكافي قبل التفوه بأي كلمة.
في الختام، يجب أن نضع في اعتبارنا أن 40% من الجمهور يخشون التحدث أمام الجمهور، وانطلاقاً مما قاله مارك توين: "هناك نوعان من المتحدثين. أولئك الذين يتوترون والذين هم كذابون"، يجب أن نعي بأن التوتر في العلن هو أمر طبيعي، ومع القليل من الممارسة، قد نتعلم الاستمتاع بفن التحدث أمام الناس".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع