شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
روتيني اليومي في بلد الطوابير

روتيني اليومي في بلد الطوابير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 14 أكتوبر 202010:22 ص

استيقظت باكراً كي أهيئ نفسي جسدياً ونفسياً قبل الذهاب إلى عملي في الشركة التي أسمّيها "مقبرة الأحلام"، في مدينة اللاذقية السورية. فتحت حنفية المياه كي أغسل وجهي من أملاح دموع ما قبل النوم، فارتطمت بوجهي بضع نسمات من الهواء العليل. تباً! لا يوجد مياه! استنتجت أن أبي الذي ترعرع في حضن الاشتراكية أفرغ مخزوننا من المياه البارحة ليلاً أثناء استحمامه.

صعدت إلى منزل جيراننا كي أقترض زجاجة مياه أغسل بها وجهي وأنظف أسناني، فكما تعلمون نظافة الأسنان مهمة جداً، وخصوصاً إنْ كنت تُكثر من تناول الحلويات العربية المليئة بالقشطة، أو البرغل المليء بالحصى. أنا طبعاً من جماعة القشطة، فأنا موظف محترم كما تعلمون.

وصلت إلى منزل جيراننا فوجدت جارنا العجوز ضعيف السمع. قلت له صارخاً: "كيفك يا عمي مع بلد الطوابير؟". ضحك وأجابني ساخراً: "لك إي منيح إنو لِسّا في حمار عم يقول عنها بلد". قلت له: "الله يعزّك"، وانسحبت وأنا أتمتم: "أنا شو كان بدي لأسمع هالكلمتين؟".

عدت إلى المنزل. قضيت حاجياتي، وضّبت أغراضي، تجادلت مع أهلي قليلاً بشأن مستقبلي الفاشل وكسلي المعتاد، فأنا مجرد فاشل آخر يعمل 14 ساعة في اليوم دون تحقيق أي تقدم أو إنجاز يُذكر.

خرجت من المنزل، وتوجهت نحو موقف الباص متأملاً ألا يطول الانتظار كي لا أتأخر وتوبخني مديرتي، عشيقة مالك الشركة التي تحمل شهادةً مرموقةً من إحدى المدارس الإعدادية العريقة.

كما تعلمون، الوقت المتوقع لانتظار الباص هو ساعة أو سنتين.

أثناء انتظاري، سمعت صراخاً وأصوات جدال. نظرت إلى الخلف وإذ بي أرى طابوراً على باب إحدى المنظمات الإنسانية التي توزع معونات وسلال غذائية على المهجرين.

ـ مهجر فقير: "يا أخي أنا شخص فقير معتّر ومتزوج أربعة. لازم يطلعلي أكتر من حصة".

ـ سيادة البواب الموظف المرموق ذو المكانة الاجتماعية العالية: "(يا حبيبي يا أخي المواطن ذا المكانة المتدنية اجتماعياً)، أنت معك دفتر عيلة واحد ما بيطلعلك غير حصة واحدة. روح انقلع من هون ولا بقى تفرجيني وجهك".

وصل الباص أخيراً. صعدت ووجدت مساحة فارغة تقدر بـ30 سم * 30 سم لأقف فيها.

"وصلت إلى منزل جيراننا فوجدت جارنا العجوز ضعيف السمع. قلت له صارخاً: كيفك يا عمي مع بلد الطوابير؟. ضحك وأجابني ساخراً: لك إي منيح إنو لِسّا في حمار عم يقول عنها بلد. قلت له: الله يعزّك"

أثناء هذه الرحلة الهادئة، طبعاً هي هادئة فهنالك أزمة بنزين والطرقات فارغة وخالية من السيارات، كانت المذيعة الخمسينية الحسناء تتحدث عبر الراديو بصوت جهوري لتزودنا بطاقة التحدي والصمود وتشحننا بزخم الانتصار.

سمحت لنفسي بتجاهل حديثها وبدأت أفكر: هنالك عشرات المنظمات الإنسانية في بلد الطوابير، فيها آلاف الموظفين الذين تتعدى رواتبهم في بعض الأحيان 1500 دولار شهرياً، إضافة إلى المصروفات المتفرقة، كسيارات وإيجار عقارات ومستهلكات بمجموع تكاليف تقدَّر بملايين الدولارات، وكل هذا من أجل تحقيق غاية سامية ونبيلة، ألا وهي تقديم مساعدة أو معونة للعائلة الواحدة بقيمة لا تتعدى العشرة دولارات كل ثلاثة أو ستة أشهر، ولا تشمل سوى نسبة ضئيلة من العائلات الفقيرة!

وصلت إلى العمل أخيراً، وبعد مرور 14 ساعة مليئة بالبهجة والسرور أنهيت عملي وخرجت أتمشى عائداً، فالمشي مفيدٌ جداً، وخصوصاً أنه لم يعد هنالك مواصلات عامة بعد هذا الوقت المتأخر.

بعد مرور نصف ساعة، وصلت إلى فرن الخبز، ووقفت في الطابور أنتظر دوري بانتظام مثل بقية التسعين في المئة من المواطنين. وإذ بها أمامي امرأة مسنّة تبكي بقهر شديد. لا أعلم إنْ كانت تبكي من الضجيج أم من الإرهاق. أظنها كانت تبكي من الفرح لأن دورها اقترب.

"وصلت إلى فرن الخبز، ووقفت في الطابور أنتظر دوري بانتظام مثل بقية الـ90% من المواطنين. وإذ بها أمامي امرأة مسنّة تبكي بقهر شديد... تلك العجوز أرادت الانفجار لكن فتيلها كان عتيقاً رطباً فبكت"

نعم يا أصدقائي. آلاف المبادرات والجمعيات الخيرية والتنموية التي انطلقت خلال سنين الحرب، والتي تحوَّل بعضها إلى مؤسسات فيها آلاف المتطوعين ومليارات الليرات المصروفة على الدورات التدريبية والعقارات والسيارات وهرطقات التنمية والسلام والخدمات... واليوم بكت أمامي امرأة مسنّة على طابور الخبز... ومتطوعٌ واحدٌ يعطيها خبزها ينوب عن كل ما سبق!

تلك العجوز أرادت الانفجار لكن فتيلها كان عتيقاً رطباً فبكت.

أخيراً، وبعد طول انتظار وصل دوري. نفد الخبز وموظف الفرن أغلق النافذة.

يا للفرحة! اليوم أيضاً سنتناول التوست المحمص مع القليل من الماء والزعتر.

عدت أدراجي منهكاً متعباً مثقلاً بالكثير من الأمور التي لا ذنب لي فيها، أبحث عن حبة القمح المنتظرة من هذه البلاد وفيرة الخيرات، متذكراً ذلك "الرجل المعطاء"، فاعل الخير الذي تصدّق عليّ بربطة خبز مقابل ثمن زهيد وهو أن أتملقه قليلاً على فيسبوك، أو كما نقول "أطبّل له".

عدت وأنا أفكر وأتأمل وأتخيل اليوم الذي ستأتيني فيه فرصة تقلب حياتي رأساً على عقب، على مبدأ "كل قمحة مسوسة وإلها كيال".

وصلت إلى المنزل. استقبلني أبي:

ـ أين الخبز؟

ـ لم ألحق الفرن.

ـ طبعاً، إذا بتروح عالبحر بتلاقيه ناشف، لأنك فاشل.

دخلت إلى غرفتي بهدوء دون إثارة أي اهتمام للموجودين. خلدت إلى فراشي. ذرفت الدموع. غفوت متأملاً ألا أستيقظ من هذه الراحة.

استيقظت... وتكرر ما حدث أعلاه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image