شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ليس في وسعي سوى أن أغضب، وأنا أنظر في عيون النساء الأفغانيات

ليس في وسعي سوى أن أغضب، وأنا أنظر في عيون النساء الأفغانيات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 23 أغسطس 202111:14 ص


كنت مولعة بقراءة الكتب التي تتحدث عن ثقافات متنوعة من مختلف أنحاء العالم، وما تسرده من مرويات عن الحياة، والحب، والنساء، تلك الحكايات التي تشدنا إليها، بأحداثها الواقعية والفانتازية، وهي تفرد أشرعة الخيال، فنصبح أكثر قرباً إليها، وأكثر تحليقاً معها. كنت أقرأ بشغف عن تفاصيل حياة النساء، الصغيرة منها قبل الكبيرة، لأن تلك التفاصيل مرآة تعكس مشهد الحياة في أي مكان.

أتذكر أني قرأت عن الأفغانيات اللواتي يعشن صنوف العنف والقهر والحرمان كلها، ويرزحن تحت حكم تشريعات يسنها مجتمع مغموس بالقيم الذكورية، والسلطة الأبوية المطلقة، لتدعمها الجهات كلها، التي حكمت وتتحكم بالبلاد تناوباً. ها هن يستنجدن الآن عبر شاشات التواصل الاجتماعية: "صلّوا من أجل نساء أفغانستان".

كانت أفغانستان واحدة من تلك البلدان التي جذبني إليها الكاتب الأفغاني الأصل خالد الحسيني، عبر رواياته التي قرأتها، ومن بينها "ألف شمس مشرقة"، و"ورددت الجبال الصدى"، وغيرها. حاول الحسيني، في هذه الروايات، أن يشعل قناديلَ ليقرأ العالم عن ظلمات بلاده، التي صُنفت كأسوأ البلدان في العالم، خاصةً بالنسبة إلى الفتيات، حسب الأمم المتحدة، التي تتتبّع شكل الحياة، وصنوف العنف في بلدان الخراب، عبر الأرقام والتقارير. نعم، حينها يتحول الإنسان إلى مجرد رقم في قائمة. يقول الأفغاني خالد الحسيني في روايته "عداء الطائرة الورقية": "مخطئون في ما قالوه عن الماضي، لقد تعلمتُ كيف أدفنه، إلا أنه دائماً يجد طريق عودته". لم ترد هذه العبارة سهواً، بهدف الجذب، وبث الدهشة في نفوس القراء. بل إنه تنبؤ حكيم بمستقبل بلاده، يكاد يكون استنساخاً من تاريخ مندثر يأبى إلا أن ينبعث من جديد.

الحرمان من التعليم، وفرض الحجاب والبرقع، حوّلاهن إلى أشكال مستنسخة، يرتدين الزي ذاته في تنقلاتهن، بفتحة لا تكاد تروي حاجتهن إلى نورٍ يرشدهن إلى طريق أوله وآخره جهنم، التي استبدت بهن على أيدي الحركات الإرهابية

لا تكاد أفغانستان ترى بصيصاً من النور، لتسقط مجدداً في نفق مظلم. ما يحدث مؤخراً هناك، هو لعنة أيديولوجيا تلاحق الحياة المنهكة تماماً، وعقود طويلة من النزاعات، والتبعية، والجهل، والتخلف، والقمع، وشروط كافية لتكون بيئة يستبد فيها هؤلاء. وها هي تيسر لطالبان الطريق، وتقدم لها الولاء، وتمنحها مفاتيح الحكم على طبق من ذهب.

قد يتسائل البعض لماذا هذا الاهتمام كله في وسائل التواصل الاجتماعية، والقنوات التلفزيونية، بما يحدث في أفغانستان، بعد أن قررت الولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتها العسكرية من كابول، فهناك لبنان، وهناك سوريا، وهناك كوارث طبيعية؟ لأنها أفغانستان التي انطلقت منها شراراة التفجيرات الكبرى التي تبناها تنظيم القاعدة، والتي غيرت مسارات كثيرة في العالم، حين نالت تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، من شموخ الأبراج الشاهقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وعظمتها، فأردتها رماداً، وتحولت إلى تاريخ فاصل. عشرون سنة مضت، وها هي طالبان تعود منتصرةً، وتُفتح لها أبواب القصر الرئاسي، وتعلو رايتها التي أثارت الرعب والهلع في نفوس الناس عامة، والنساء خاصة.

مثيرةً مخاوف الدول العظمى والمجاورة والبعيدة والقريبة، وقلقها، لما يمكن أن يحدث. هل تتخيلون المأساة التي ستحدث؟ أنا شخصياً لا حدود لمخيلتي عن الفظاعة المحتملة. ابتُليت الأفغانيات بانتمائهن إلى تلك البقعة من العالم التي ترزح تحت لواء الجماعات الأصولية المتشددة الإسلامية، كالقاعدة، وطالبان الذي فرض قوانين القمع والإذلال الممنهجة على النساء أولاً. الحرمان من التعليم، وفرض الحجاب والبرقع، حوّلاهن إلى أشكال مستنسخة، يرتدين الزي ذاته في تنقلاتهن، بفتحة لا تكاد تروي حاجتهن إلى نورٍ يرشدهن إلى طريق أوله وآخره جهنم التي استبدت بهم على أيدي الحركات الإرهابية. ليس من السهل علينا أن نتخيل صنوف العنف التي تتعرض له الأفغانيات. هناك من تُقتل، ويمارَس عليها الحدّ، بالرجم حتى الموت، والجلد أمام الناس، أو الحرق كشجرة يابسة، أو الذبح كنعجة، أو ربما يصل بهم الأمر، من التوحش، إلى قطع الأنوف. ولن يتردد الأب، أو الأخ، أو الزوج، في أن يكسر لها ساقاً أو ذراعاً، وقد يكون الضرب المبرح من صغائر الممارسات.

قرأت مرة عن نوع غريب من الممارسات اللا إنسانية في أفغانستان، وهي عادة قديمة تسمى بلغتهم "الباشا بوش"؛ انتهاك صارخ للأنوثة، يفرضها الأهل على بناتهم الصغيرات ليعشن حياة الفتيان. فتيات كثيرات يولدن إناثاً، لكنهن يعشن حياتهن بسرية، ويمارسن أدواراً جندرية مخالفة للحقيقة، ويعشن على أنهن فتية يرتدون زيهم، ويحلقون شعرهم، ويلعبون ألعاباً هي حكر على الفتيان، حتى لا يتعرضن للاغتصاب، أو وصمة عدم إنجاب الذكور، على الرغم من أن الاغتصاب يطال الفتيان أيضاً.

مريم، وعزيزة، وباري، وباروانا، ومعصومة، أسماء لشخصيات في روايات، كتبَ عن مصائرهن المؤلمة خالد الحسيني، تحاكي الحياة المعقدة في أفغانستان. وبقدوم طالبان، ستلقى الصغيرات حتفهن مجدداً. زواج القاصرات في الانتظار، وتعدد الزوجات. لا مدارس لتعليم الإناث، ولا خروج من دون محرم، ولا لعب، ولا ترفيه، ولا ضحك، ولا حديث بصوت عال، ولا ألوان، ولا ملابس جميلة، ولا مساحيق للتجميل، ولا مساحة خاصة سوى كيس الثوب الذي اختاروه ليستروا ما يسمونه عورات النساء، ليبدو البرقع المتحرك كأنه سجن يسير على الأقدام.

الموقع الجغرافي لأفغانستان، الواقعة على تقاطع الطرق بين آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، والهند، جعل منها ساحة ملغومة بالنزاعات القبلية، وعرضة للاستعمار، ولاستبداد الحركات الأصولية المتشددة

وكنت قرأت عن أفغانستان أيضاً، في كتاب قيّم عن حركات التحرر في آسيا، أو كما أسمته الكاتبة كوماري جاياواردينا، "النسوية والقومية في العالم الثالث"، الصادر بالعربية عن دار الرحبة للنشر والتوزيع. وقد جاء في القسم المخصص في الدراسة عن أفغانستان، أن الموقع الجغرافي لأفغانستان الواقعة على تقاطع الطرق بين آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، والهند، جعل منها ساحة ملغومة بالنزاعات القبلية، وعرضة للاستعمار، ولاستبداد الحركات الأصولية المتشددة، على مدى قرون متتالية. أصبح الإسلام هو الدين السائد في أفغانستان منذ القرن العاشر الميلادي، ولم تستطع طبيعة المجتمع القبلية إلا أن تكون عائقاً أمام إثبات هويتها القومية، ودافعاً لاستغلالها من قبل كل من حاول استعمارها، من خلال استمالة القبائل، وتحريضها للاقتتال في ما بينها. حين احتلها الأتراك، وعاثوا فيها فساداً، ومن بعدهم الفرس، ولم يكونوا أفضل من غيرهم، ثم البريطانيون والروس، وحتى حين دخلت القوات الأمريكية، بقي الحال على حاله، بتحسنات خجولة، وبتراجع عشرات السنين إلى الوراء، وركل كل تطور، بقدم من حديد.

وذكر الكتاب مرحلة قصيرة كانت بمثابة نافذة هبت منها نسائم النور والحرية والتغيير على المرأة الأفغانية، حين استلم مقاليد الحكم أمان الله خان عام 1919، وأعلن استقلال أفغانستان، واستمر في حكمه القصير لغاية 1929. تأثر حينها بالإصلاحات التي حدثت في تركيا، ومصر، والإتحاد السوفياتي. وأعلن صراحة، وبشجاعة، عن رأيه الذي حرّض رجال الدين وزعماء القبائل ضده، حين قال: "حجر الأساس في بناء أفغانستان الجديدة في المستقبل هو تحرير المرأة".

فقام بإقرار قوانين في غاية الأهمية، كحظر زواج الأطفال، ورفع سن الزواج. شجع على افتتاح مدارس للبنات، وأرسل عدداً من الفتيات للتعلم في مدن خارج أفغانستان، ومنها تركيا، وحظر تعدد الزوجات على موظفي الحكومة، وحظر ارتداء الحجاب، بل وأمر بارتداء اللباس الأوروبي. وكان أول من قام بتطبيق ذلك حتى على زوجته الملكة ثريا، حين رافقته وهي حاسرة الرأس مرتدية الزي الحديث.

أثار هذا غضب ومخاوف وبغض القيادات ورجال الدين ضده. لم يكن من السهل التخلي عن العقلية السلطوية الأبوية، فهؤلاء رأوا النساء مجرد ممتلكات خاصة، وأدوات للمتعة والإنجاب ورعاية المنزل. أما هو، فحاول، بقوانينه، أن يجردهم من فكرة "امتلاك المرأة". لم يدم ذلك طويلاً، فانقلبوا على حكمه ونفوه من البلاد، وعادت أفغانستان إلى حضن الوحوش التي استبدت بالناس والنساء، تماماً كما يحدث الآن. وعلى الرغم من مرور ما يقارب مئة عام.

ليس في وسعي سوى أن أحزن، وأغضب، وأنا أسمع وأشاهد المآسي التي تحدث للإنسان في بلادي، وفي العالم، وفي أفغانستان، وما أراه من خوف ويأس في عيون النساء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image