نفس عميق، وشهيق، وزفير، ورطوبة. الحرّ يلتهمنا، ويرمينا في دوامةٍ من الغضب والتعب. أنتظر الصوت الذي لطالما أصابني بالقلق. صوت مولدات الكهرباء الجهير الذي كان يملأ الحي، ويزعجني، قد أصبح الآن موسيقى لأذني… "إجت الكهربا!". زلغوطة تصدح من أحد بلاكين الحي، فنهرع كلنا إلى داخل منازلنا، ونقفل الشبابيك بقلق. إنه الموت من الحر، أو من انفجار ما أصبح يلاحقنا، كشبح يعيش معنا، ونتعايش معه، أو نموت معه، من يعلم! المروحة والمكيف معاً... "إذا بدي موت، بدي موت مبوردة"، أقول لنفسي. "إنتو كيف حالكن/م؟"، نحن هنا نعيش مع الموت.
بيروت مدينة على البحر. الزجاج جزء أساسي من جمالياتها، وبنيتها التحتية. بيروت مدينة على البحر، في الماضي القريب، كان زجاج أبنيتها ينعمنا بالضوء في النهار، ونسمات الهواء الجميلة في المساء. بيروت مدينة على البحر، وأصبح زجاج شبابيكها يرعبنا. مرّت سنة، ولا زلت كلما أُكنس منزلي، أجد القليل من الزجاج. أتذكر، وأغضب، ويمدني الغضب بالأمل. وأتذكر، وأنهزم.
"إذا بدي موت، بدي موت مبوردة"، أقول لنفسي. "إنتو كيف حالكن/م؟"، نحن هنا نعيش مع الموت.
تاريخ المحاسبة في لبنان يهزمني. أنظر إلى التكرار الممل في التعامل مع حاجتنا إلى الحياة، ولا أجد أي شيء، إلا أنه دفعنا إلى الهجرة، أو الموت. هروب المسؤولين من العقاب ليس مفاجأة، فقانون "العفو العام" الذي يحمي السياسيين، هو أحد أسس الدولة اللبنانية ما بعد الحرب الأهلية، ونهج استمراريتها.
نحن هنا نعيش مع الموت. بيننا وبين الموت انتظار. تقول الباحثة الأنثروبولوجية، مايا مكداشي، إن نظام الطائف وضعنا في وضعية توقف الزمن عند الانتظار. نحن ننتظر منذ ما قبل الحرب الأهلية، وخلالها، وبعدها، حتى أصبح الانتظار منهجية الحكم، ممأسساً مع الطائف، وأصبح التلكؤ الإستراتيجيةَ الأنجح في حفاظ النظام الحاكم على مصالحه ضد مصالح الشعب. يعظون بالعفة، ويطالبون بالمحاسبة، ثم يرمون اللوم على بعضهم البعض، ولا يتغير شيء في منهجية الحكم.
ننتظر أي نوع من أنواع المحاسبة من أولئك الذين عفوا عن أنفسهم، وتبرؤوا من مجازر الحرب الأهلية كلها، وتدرّعوا بالحصانات. ننتظر العدالة من الجاني، وننتظر، وننتظر... يشير المحامي نزار صاغية، المدير التنفيذي للـ"المفكرة القانونية" إلى أن "الحصانة كما يفهمونها، هي عفو مقنّع، وهي تهرّب من المسؤولية، وإفلات من العقاب، وسائدة في لبنان منذ الحرب، وحتى الآن". نحن ننتظر رفع الحصانة، وننتظر رفع الحصار الاقتصادي الداخلي، وننتظر عودة أموال الشعب التي اختفت من البنوك، وننتظر، وننتظر، حتى يحدث شيء ما، والأرجح أن نموت في الانتظار، مثل من سبقونا.
مارد من الجثث | مايا الحلو
جيلنا ليس أول من انتظر. فوداد حلواني لا تزال تنتظر تحرك ملف المفقودين، وأهالي المفقودين والمخطوفين خلال الحرب الأهلية لا يزالون ينتظرون معرفة مصير أولادهن/ م، ومنهن أوديت، التي سرقها الموت، وهي في حالة انتظار. إنه كابوس من التكرار المختلف. أم تحمل صورة ابنها المقتول في انفجار 4 آب/ أغسطس، في انتظار العدالة، وأم تحمل صورة ابنها المفقود في انتظار عودته، وطوابير الخبز في الماضي، وطوابير البنزين في الحاضر. هذه كلها أحداث مختلفة، يختبرها أناس مختلفون، وتنفطر قلوبهن/ م، ويُنتزع منهن/ م أولادهم، أو لقمة عيشهن/ م، أو حقهن/ م بحياةٍ كريمة، والمسؤولون هم أنفسهم، مدرعون بالحصانات، وقوانين "العفو العام"، وامتيازات السلطة، والسيطرة على القضاء.
نحن لسنا في معركة مع النظام، فحسب. ولكن مع توقيته المتلكّئ في تغيير أي شيء، أيضاً. إنه تلكّؤ مُمنهج مليء بوعود المحاسبة، والمبادرة، والعدالة
هناك بنى تحتية لنظام الحكم في لبنان تمت حياكتها لسنوات، ويواجهها جيل سُرق منه الكثير من الوقت والأمل، وجيل آخر التاع من الانتظار، ومنهم من تعلّم أن التطبيع مع النظام الزبائني، جزءٌ لا يتجزأ من لقمة العيش.
يجمعنا الانتظار والانكسار، فسياسات العلاقات الحزبية، وداعميها، مليئة بالتناقضات. هي علاقة قوة معقّدة من التفقير، والخدمات، والانهزام. الانهزام والانتظار يجمعاننا، فهم من استسلموا، وطبّعوا، وأعادوا إنتاج نظام لم يعد يمنحهم شيئاً، ولا حتى أبسط الخدمات، ولكن أصبح أيديولوجية عقائدية، إن خسروها يعني أن يخسروا كل شيء، وخاصةً الوقت، بما فيه ماضيهم، وحاضرهم، وسنين حياتهم التي هُرقت فداءً للزعيم. نحن نعيش مع الموت، وهم أيضاً. أما ما يفرقنا، فهو ما يسميه الفيلسوف/ ة، لورين برلنت، "cruel optimism"، أي التفاؤل الرذيل. نعلم أنه على الأرجح، لا يؤدي إلى شيء، ولكنه درعنا الوحيد، لتخيل احتمالات جديدة لعلاقات قوة مختلفة، ولأنواع تنظيم الحياة بشكل مختلف، أقل بطشاً واستبداداً، وعليه نقاوم، وننتظر.
تقول عالمة الاجتماع، ريما ماجد، إنه لا يمكننا غض النظر عن النظام الطائفي، وإعادة إنتاجه المستمرة، وأن هذا النظام موجود، ولكن التبسيط والتسطيح لهذه العلاقات الاجتماعية، وعلاقات القوة بين الزعماء وزبائنهم من الداعمين، يمنعاننا من فهم الكثير عن الطبقية القابعة في أساسات هذا النظام الطائفي. من المستحيل أن نقتلع نظام حكم، ما لم نفككه، أو نفهم جذوره.
من هنا، نصل إلى زبدة الجدلية، وهو خطاب اختزال المقاومة الشعبية، عبر خطابات مفادها أن الثورة فشلت، والثورة سقطت، والثورة أخطأت، وكأن الثورة هي شبح مفرد، منفصلة عن الزمان، والمكان، والانهزام، والانتظار، ومنفصلة عن واقع النظام الذي تريد إسقاطه. وكأن الثورة هي امتحان للمتفائلين منا، وللثائرات/ ين، ونتيجته السقوط لا محالة. التظاهر، والإضرابات، والاعتصامات، هزت المستنقع من أساسه، ولربما يحصل شيء آخر هذه المرة. أصبحنا نتكلم عن الثورة، وكأنها ليست في داخلنا. ونعلّق المحاكم للثورة، وكأنها عمل مجرد منّا... نحن الثورة، فلماذا يا ترى نحاكمها، ونطلق عليها تحليلات لا تشبهنا؟ هذا ما يفعله بنا الانتظار. يضعنا في دوامة من الشك والغضب، وعندما نعجز عن توجيه غضبنا نحو الجُناة، نوجهه نحو بعضنا البعض، ونحو أنفسنا.
نحن لسنا في معركة مع النظام، فحسب. ولكن مع توقيته المتلكّئ في تغيير أي شيء، أيضاً. إنه تلكّؤ مُمنهج مليء بوعود المحاسبة، والمبادرة، والعدالة. خطابات لا تترجَم على الأرض. خطابات تقودنا إلى الغضب، وتمد زبائن الزعماء بلغة الدفاع عن الزعيم... قال، وقال، وقال، ولكن لا شيء يحدث، فنبقى كلنا في الانتظار. خطابات البراءة، والعفة الفارغة من الفعل، والمليئة بمضمون الحفاظ على ماء الوجه، تجرفنا إلى مكان خطير، فيصبح الشعب معارضاً للشعب، ويصبح الانتظار مرقد الأمل حتى الانهزام، والملل، والشعور بأن لا شيء سيتغير، فنرحل.
نرحل عن الدنيا، ونهاجر. نرحل إلى فقاعات الهروب من الواقع، ونرحل من الشارع، ونعود إلى منازلنا، وننفصل عن العام، ونصبح سجناء في فقاعاتنا، وذلك إن كانت امتيازاتنا تسمح بذلك. وهذا مثال صغير عن نهج الانهزام من دوامة الانتظار.
في خضم الخطابات والمظاهرات، ينزعج السياسيون من الشتائم. يا لنا من جيل بلا أخلاق، نعيش في مدينة تمت إعادة إعمارها على مقابر جماعية. نعيش بين الأموات. نحن الأحياء الأموات، والمفروض أن نبقى مهذبات أثناء انتظارنا
أعود إلى الزجاج المبعثر. صوت الزجاج تحت قدمي يسكنني. لقد دخل عنف الدولة، وتداعيات إهمالها، إلى منازلنا، وإلى فقاعات أماننا في ذلك اليوم المشؤوم. لم نعد قادرات على الهروب إلى فقاعاتنا، ففقاعاتنا الخاصة التي كانت محصّنة بشعور بالأمان الوهمي، قد انفجرت. فجّروها، أولئك الحكام الذين عمّروا المدينة فوق جثث ضحايا الحرب الأهلية. أولئك الذين تسابقوا على شراء الأراضي المتضررة من الانفجار، قبل أن تجف عنها دماء المغدورين، فموتنا بالنسبة إليهم ليس إلّا آلة لتراكم الأموال والنفوذ. يريدون أن يعمّروا طبقة ثانية من المدينة فوق جثث ضحاياهم، ولا يسعنا إلا المقاومة حتى الانهزام. فكل معركة مع هذا النظام خاسرة، وكل معركة مع هذا النظام ضرورية، لأننا بمعركتنا نعزز قيمة البقاء على قيد الحياة، ونلقي الضوء على مشروع قتلنا البطيء في الانتظار.
في خضم الخطابات والمظاهرات، ينزعج السياسيون من الشتائم. يا لنا من جيل بلا أخلاق، نعيش في مدينة تمت إعادة إعمارها على مقابر جماعية. نعيش بين الأموات. نحن الأحياء الأموات، والمفروض أن نبقى مهذبات أثناء انتظارنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 18 ساعةلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري