شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
انفجار بيروت الذي لا

انفجار بيروت الذي لا "فنّ" فيه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 4 أغسطس 202112:37 م

انتشرت صور الأحياء المدمّرة لبيروت بعد انفجار المرفأ، وتمّ اكتشاف العديد من الصور بعيون "الضحايا"، قبل وبعد وأثناء العصف المميت.

"عيون" الضحايا أو المتفرجين تقترح مئات أو آلاف المعالجات البصرية لمشهد واحد هو الخراب، كل زوج من العيون يختار زاوية الرؤية الخاصة به، مداها، موقعه كمتفرج وموقع الخراب "الجمالي"، وبالتالي يطرح تساؤلاً عن الوقت والذاكرة كما عن الدمار والغياب، عن تواجد المكان كما عن نفيه وتشريده، فيما يشبه البحث عن الطبقات الجمالية في المدمّر والمنفي، أو إذا صحّ التعبير "نموذج جمالي للكارثة".

العبقري الذي باع الفراغ

في 18 إيار/مايو الماضي، تحدثت الصحف الإيطالية عن الفنان المعاصر سالفاتور جارو، 67 عاماً، مولود في سردينيا، عندما باع "تمثالاً" غير مرئي، بمبلغ 15 ألف يورو، معتبرين أنه عبقري "تسويق" أكثر من كونه "عبقرياً مفاهيمياً"، باعتباره "الحذق" الذي باع "الفراغ"، فيماثل، من وجهة نظر الإعلام، من يبيع آيس كريم، في القطب الجنوبي.

"الفراغ ليس أكثر من مساحة مليئة بالطاقة، والفراغ له وزن أيضاً. لديه طاقة تتكثّف وتتحول إلى جزيئات، بعد كل شيء ألسنا نعبد إلهاً لم نره مطلقاً؟". يقول سالفاتوري، مستجلباً الله إلى خضم النقاش الفني أصلاً.

"الفراغ ليس أكثر من مساحة مليئة بالطاقة، والفراغ له وزن أيضاً. لديه طاقة تتكثّف وتتحول إلى جزيئات، بعد كل شيء ألسنا نعبد إلهاً لم نره مطلقاً؟"

لإن سؤال "الفني" وغير الفني لا يزال موضوعاً قابلاً للنقاش ولمّا يحسم بعد، إذ إن مفهوم الفنّ بكليته حديث للغاية وغير متجذّر في التاريخ برغم حضور "الكلمة" في اللغة، لكنها كانت تشير إلى ممارسات أخرى مختلفة، صناعة الأدوات الخزفية، نحت تماثيل الآلهة، القصص الدينية، وجاء الفن الحديث في القرن العشرين ليخلط الأمور ويشوّش التعريف الذي كان قد اتفق عليه الجميع حول ارتباط الفن بالجمال، أو بعدم وجود عيوب، أما في حالتنا هذه ففي اللااكتمال، أو في كمال الأنقاض.

فتتحوّل، والحال كذلك، الصور المتداولة عن انفجار مرفأ بيروت، صور الانفجارات العديدة التي طالت مدناً وقرى في غير مكان، العروض التي تستحضر "البقايا"، أيضاً إلى عبقرية في تسويق الخراب على أنه "مشهد" جمالي، يشير ويدلّ ويحضّر المكان في الذاكرة.

الأشباح الهائمة

"... انفجار تحوّلت بعده بيروت إلى مدينة أشباح"، يتم الربط غالباً بين الشبح والمدائن الخربة، الخرابات التي تطوّف بها أشباح من ماتوا فيها قبلاً، واعتبر الشبح كإشارة إلى كائنات خارقة للطبيعة، أرواح علوية، لا تمتثل للقوانين البشرية المعروفة، فالطبيعة الغامضة للشبح تقاوم الوصف والمعرفة واليقين، هي تعطّل الوقت، كما يعطله الانفجار بإيقاف الزمن الخطي، والشبح يستدعي بحضوره أو "لاحضوره" كلّ الخارج والمستبعد من الإدراك، غير الإدراك الذي تلتقطه الصورة بعد الفناء، أو في حالتنا هذه، الانفجار.

"عيون" الضحايا أو المتفرجين تقترح مئات أو آلاف المعالجات البصرية لمشهد واحد هو الخراب، كل زوج من العيون يختار زاوية الرؤية الخاصة به، مداها، موقعه كمتفرج وموقع الخراب "الجمالي"، وبالتالي يطرح تساؤلاً عن الوقت والذاكرة كما عن الدمار والغياب

الشبح هذا، حسب المفكر الفرنسي جاك دريدا، خطاب أخلاقي في جوهره، يشير لنا، للمشاهد والساعي إلى الفرجة، إلى مسؤوليتنا تجاه الغائبين، تجاه من ليسوا أشباحاً، وبدل أن نجاهد لطرد الشبح من المدينة الفارغة، يجب أن نسعى لرؤيته وللتعايش معه، وهذه النظرة الجمالية للذاكرة تصنعها تلك الصور الفارغة من الأحياء، الجامدة على مصيرها المتبدل في الزمن والثابت في الصورة، كخرائب مدينة كانت عامرة والآن أصبحت مدينة أشباح.

الأشباح في صور بيروت بعد الانفجار ناقصة، إذ لا إشارة لوجودها حتى، ولا لإمكانية حضورها، لأن الصور نفسها ما تزال مرتجّة، في حالة هيجان، لم ترقد ولم تعطى المساحة ولا الزمن لاستحضار شبح هائم، هي تدلل على انتفاء الحضور أكثر من حضور ناقص حتى.

الهيمنة والأثر الزائل

تمثّل صور الأنقاض الحديثة أداة الهيمنة التي أنتجها الإنسان، فإذا كانت الأنقاض الكلاسيكية تنضوي على جمالية كلاسيكية أيضاً، القلاع والتماثيل القديمة ورسوم الكهوف وأدوات الطعام والصيد والحرب، وتحيل إلى "نوستالجيا" ما، وماض يضمّ بعداً رمزياً واستعارة للرحلة التي خاضها البشر إلى يومهم هذا، رومانسية تثير في الذهن حتمية الزوال والاضمحلال تلقائياً، فإن الأنقاض الجديدة أيضاً نوع من "الآلات" المستعاض عنها بنتائجها، قوة اختراعات الإنسان وسيطرته على الطبيعة. الأنقاض المدينية، رغم أنها نتيجة، إلا أنها أيضاً وسيلة وأداة أيضاً.

الآثار المعاصرة، المدينية هذه، تحيل إلى ماض، لكنه قريب، لا يحتوي الصيغة النقية التي يعرفها المشاهد بدقة، إذ إنه كان هنا قبل عشر، عشرين أو ثلاثين سنة، أي أن ذاكرته لمّا تبرأ بعد من "بشاعة" الماضي لتتنقّى تماماً وتصبح جمالية بحتة.

الآثار المعاصرة، المدينية هذه، تحيل إلى ماض، لكنه قريب، لا يحتوي الصيغة النقية التي يعرفها المشاهد بدقة، إذ إنه كان هنا قبل عشر، عشرين أو ثلاثين سنة، أي أن ذاكرته لمّا تبرأ بعد من "بشاعة" الماضي لتتنقّى تماماً وتصبح جمالية بحتة

يمثل الخراب المديني هنا فائضاً عديم القيمة، لا يمنح نظرة رومانسية ولا يحيل إلى فكرة الزوال بالضبط، بل إلى فكرة "الإبادة"، تدعو الأنقاض هذه إلى التفكّر بالانمحاء واستمراره، ولا تعطي أي بارقة أمل بإمكانية النهوض، بل ولا تشير إلى المستقبل عبر إظهار الماضي، هي تشير إلى الحاضر والحاضر فقط مع عدم إمكانية استخلاص عبرة أو حكمة، هي تختلف عن الصور المأخوذة من مدينة تشيرنوبل على سبيل المثال بعد الكارثة، هناك نشاهد الحيوات اليومية لأشخاص فرّوا على عجل، تركوا أطباقهم على مائدة الطعام، ثيابهم في الغسالات، كؤوسهم في الأحواض، تركوا ذكرياتهم تطوف كالأشباح بين الغرف، لكن صور انفجار بيروت لا تستحضر هذه الحياة المفقودة لفارين سيعودن ربما لاحقاً، ويستعيدون حياتهم من النقطة التي توقفت عندها. صور بيروت وصور المدن والقرى السورية المدمّرة لا تمنح مثل هذا الترف. هي تستحضر عمليات الإبادة والنفي الكلّي بلا أثر، كأنها جرائم كاملة، "لا دليل على وجود قتيل وبالتالي لا دليل على وجود قاتل".

انبهار بالقتامة

 يقول الروائي الياباني جونتشيرو تانيزاكي للتدليل على الموقف النفسي للشرقيين من مشاهد الخراب وانبهار الغربيين بالأنقاض التي نمتلكها: "إن الحضارة الغربية والحضارة الشرقية موضوعتان تحت إشارتين متعاكستين، الأولى تحت علامة الضوء والثانية تحت علامة الظل. يحبّ الغربيون كل ما يلمع، البلّورات المتلألئة والمباني في حالة الكمال، عندما استورد اليابانيون الأواني الفضية الغربية لم يقوموا بتلميعها، احتفظوا بها تحت حالة من التدهور بتأثير الزمن".

هل هذا يعني أننا مغرومون بحالة القتامة والركود وبالألوان الداكنة التي تطبع حياتنا كشرقيين؟ هل نميل تلقائياً لمشاهد النقائض والمباني غير المكتملة؟

ربما، في مشهد متخيل لمايكل أنجلو وهو يرسم قصة الخلق على سقف كنيسة السيستين، كان أنجلو غير راض عن أشكال الملائكة والأنبياء السعداء والورديين، "ثمة شيء ناقص"، كان يقول.

عندما انتزع فرشاته وأضاف بضعة ضربات بالأحمر القاني، ثم جرّح السقف بطرف سكين حادة وأضاف بضعة كيلوغرامات إلى "كرش" كل ملاك، نظر إلى الرسومات راضياً وقال: الآن اكتملت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image