احتفل حسين بيضون بزواجه من حبيبته خلال الشهر الفائت. تأجّلت الحفلة لما يقارب العام، بعدما كان مقرراً أن تكون في صيف 2020. في الرابع من آب/ أغسطس 2020، كان حسين وعروسه على مشارف الانتهاء من تجهيز منزلهما الزوجي في شارع مار مخايل المقابل لمرفأ بيروت. يذكر أن ضغطاً قوياً رفعه في الهواء ثم سقط أرضاً. كانت لحظة ضبابية استيقظ منها وجسمه ممتلئ بالشظايا، وسط الركام.
يقول كثر إنهم ناجون، لكنهم يدركون أنهم يحملون في روحهم شظايا ذلك الانفجار وإنْ نجت أجسادهم منها. ترك ما جرى إلى اليوم أثره في نفوس الناس كباراً وصغاراً. وبعد مضي سنة، لا يزال الناس عاجزين عن استيعاب ما حصل ويعيشون هول الصدمة.
عام مرّ قبل أن يتمكن حسين من الاحتفال وصديقته بحبّهما، لكن الزمن لا يعود إلى الوراء ولو بدا أن الأمور عادت لتأخذ مجراها السابق. بالنسبة إليه، لم تعد بيروت التي أراد أن يستقرّ فيها كما عهدها: "كانت المدينة تتبشّع نتيجة ما فعله النظام بها وبأملاكها العامة. لكن بعد الانفجار، ومع الأزمة الاقتصادية، يُشعرني النظر في شوارعها وإلى ناسها بأن شيئاً ما طعنني في ظهري".
لم تعد المدينة وحدها غريبة بالنسبة إلى ساكنها، إنما أيضاً التفاصيل اليومية التي تشكّل حياتهم: "أستيقظ حزيناً كل يوم، لقد قهرتني بيروت، ما زلت أرتعب من الأصوات وأرى الكوابيس كل يوم"، يقول حسين.
صُنّف انفجار بيروت من بين أعنف الانفجارات غير النووية عالمياً، ووقع نتيجة تخزين 2,750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم في أحد مستودعات مرفأ بيروت لأكثر من ست سنوات بدون اتخاذ إجراءات السلامة الوقائية اللازمة.
أدى الانفجار إلى مقتل أكثر من 217 شخصاً وإصابة حوالي 7000 آخرين بجروح. هذا وأصبح حوالي 800 شخص يعانون من إعاقة دائمة إثر الانفجار، وفق رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً سيلفانا اللقيس.
كذلك، خسر حوالي 70 ألف عامل وظائفهم. وعلى صعيد الأضرار المادية، أدى الانفجار إلى تضرر حوالي 200 ألف وحدة سكنية، وتشريد حوالي 300 ألف شخص.
هكذا، في لحظة، وجد آلاف من سكان العاصمة اللبنانية، على اختلاف ظروفهم وحتى امتيازاتهم، أنفسهم مدفوعين إلى الهامش، مجرَّدين من مقوّمات الأمان الدنيا.
الإفلات من العقاب
حتى الآن، نجح المسؤولون عن حصول الانفجار بالإفلات من العقاب. هذه مسألة ليست جديدة، هي سياسة رسّختها واعتمدتها السلطة اللبنانية منذ عشرات السنوات. هول الانفجار دفع للاعتقاد بأن العقاب هذه المرة آت لا محالة، لكن أحداً لم يمثل أمام العدالة بعد على الرغم من استدعاء كبار المسؤولين من قبل قاضي التحقيق العدلي المكلف بهذه القضية طارق بيطار.
ما يزال بيطار ينتظر أن يمثُل أمامه قادة أجهزة أمنية ووزراء سابقون ونواب يُشتبه في مسؤوليتهم عن الجريمة. لكن وحتى اللحظة لم تُمنح الأذونات لملاحقة الأمنيين ولم تُرفع الحصانة عن النواب المتهمين. وغالباً ما جعلت الحصانات، النيابية والحزبية والطائفية، المسؤولين فوق القانون والعقاب.
وتشكل هذه الحصانات العقبة الأبرز التي تعيق التحقيقات في قضية انفجار المرفأ.
"العدالة للضحايا، الانتقام من النظام"
في منزل الضحية غسان حصروتي، ما زال الحداد قائماً. تحاول عائلته التعامل مع الوجع الذي خلّفه رحيله بينما تنتظر تحقيق العدالة. ويحاول أولاده تعزية أنفسهم مع التأكيد على سعيهم لإحقاق العدالة وتحقيق رغبات والدهم بالاستمرار وتحقيق ذاتهم.
يقول ابنه إيلي، المهندس الشاب، إنه قبل الانفجار لم يكن يتوقع أن تدفع العائلة فرداً منها ثمناً للفساد. فحصروتي الأب، ذو الـ59 عاماً، كان موظفاً لما يقارب الأربعة عقود في مبنى أهراءات القمح في المرفأ. نجا من الموت خلال الحرب الأهلية وكان يحتمي أحياناً في دهاليز مبنى الأهراءات، لكن انتهى به الأمر قتيلاً في زمن السلم في ملجئه العتيق خلال عمله.
منذ اللحظة الأولى، رفعت العائلة الصوت عالياً للمطالبة بالبحث عن غسان، وانتقدت تقصير المعنيين، لكنها تُركت وحيدة وبقيت 14 يوماً تنتظر بألم تحديد مصيره.
بعد سماع النبأ، راح إيلي يبحث عن والده وكلّه أمل بأن يجده. وعلى الرغم من هول الانفجار، ظل يرجو أن يكون والده قد لجأ إلى دهاليز مبنى الأهراءات التي يحفظ تفاصيلها. وقوبلت هذه اللهفة ببرودة لدى المعنيين الذين أكدوا يومها أنهم بانتظار الخبرات الخارجية كي يبحثوا بدقة أكبر.
"أرى في هذا الانفجار كيف تبدع السلطة بأساليب قتلنا يومياً، وإنْ كنتُ لا أتخيّل جريمة أفظع بعد، إلا أنني لا أتوقع أن يتوقف إجرام النظام"
ظلت العائلة تحاول الضغط من أجل تسريع عمليات البحث، وحاول الابن التواصل مع المعنيين للضغط عليهم ودفعهم للبحث في المبنى، لكنهم كانوا يتلقّون ذرائع مختلفة. وبعد أسبوعين من الانفجار، جرى التعرف على جثة غسان حصروتي.
بعد الفاجعة، بات إيلي أكثر إدراكاً لحقيقة الأفرقاء السياسيين، هو مَن كان يعطي الفرص لأحدهم. يقول لرصيف22: "اكتشفت أن كل فريق يقدّم الناس ضحايا ويرفض أن يضحّي هو، بل يعتبر أنه أنجز ما عليه".
تعتبر تاتيانا، الابنة الصغرى لغسان حصروتي، أنها أقل حظاً من إخوتها، إذ أنها، وبحكم سنّها، قضت وقتاً أقل منهم مع والدها: "كنت أريد أن أشاركه لحظة تخرجي وزواجي وأن يتعرف إليه أطفالي. أحزن لأن والدي لن يعيش معي هذه اللحظات"، تقول لرصيف22.
وكما شقيقها، تتسلح تاتيانا بـ"الإيمان" لتخطي ألم فقدان والدها الذي بقيت 14 يوماً تصلي لنجاته. تتقبّل بإيمان رحيله، وتسعى إلى عدم تكرر مأساتها مع آخرين.
تهميش الصورة
يعتبر حسين بيضون نفسه ضحية للنظام. وعندما يصف معاناته الممتدة منذ أن هوى أرضاً لحظة الانفجار، يصبح فهم معنى أن يكون الإنسان ضحية لجريمة بحجم انفجار مرفأ بيروت أبعد بكثير من أن يندرج ضمن الإحصاءات والأرقام حصراً، إنما يبيّن مدى اتّساع حجم الأذى وتخطيه للمرئي.
يعمل بيضون مصوّراً صحافياً في جريدة العربي الجديد، وبات الشاب الثلاثيني وجهاً مألوفاً للمتظاهرين في شوارع بيروت خلال العقد الماضي. لا يخفى على عارفي حسين موقفه من النظام، فهو معارض لتفاصيله وكلّيته.
اشتهر بيضون بلقطات لسياسيين في لحظات كان يُفترض بها أن تكون جدّية، لكنه التقط الكوميديا وأعطى تلك المناسبات موقعها الفعلي مما يمكن أن يوصف بأنه سياسي.
في الرابع من آب، شعر بيضون بضغط يرفعه عن الأرض ثم ينعدم فيسقطه. استيقظ وسط الدمار، جسده ممتلئ بالشظايا. حمل الكاميرا ونزل إلى الشارع في ردة فعل عفوية، وبدأ يوثق ما يشاهده حوله. تمكّن من توثيق جزء مما حصل، لكن ذاكرته طبعت تفاصيلَ أكثر قسوة.
راح بيضون يلتقط الصور بينما كانت الدماء تسيل من يده ورأسه وبطنه. كان يصوّر المأساة ويبحث عن مستشفى تضمّد جراحه في آن. تارةً كان يحاول استيعاب هول الانفجار الذي وقع وأصابه، وطوراً توثيقه، وهناك لحظات كان يقف فيها مكانه لدقائق، يطلب سيجارة من أشخاص لا يعرفهم.
"كنت أسأل نفسي: هل هذا حقيقي؟"، يقول لرصيف22. أفلح في التقاط الصور، لكن جروحه بقيت من دون مداواة، وانتظر حتى اليوم التالي، وبعد طول بحث، لإيجاد مستشفى يستقبله ويسحب الشظايا من يده ولكن من دون استخدام المخدر والمعدات اللازمة.
يستمر بيضون حتى اليوم بتوثيق "4 آب". يرى في عدم محاسبة أحد "دليلاً حسياً على حصانة النظام وجبروته وتأكيداً على تلازم الفساد مع بقاء هذه الطبقة الحاكمة التي لن تكترث مهما حصل". مثل خسارته للأيام التي يستيقظ فيها متفائلاً، خسر حسين أيضاً آخر ذخيرة للإيمان بلبنان واحتمالات التغيير السياسي.
يقول: "ما يزيد من شعوري بالقهر ليس أنّي كدت أن أموت، بل أن أناساً أعرفهم وألتقي بهم كل يوم في مكان عملي وسكني تعرّضوا للتفجير".
"لا أتقبل رؤية أي مسؤول سياسي أو أمني، فعند رؤية أي من هؤلاء أشعر بتوعك وألم في معدتي"
يتفاقم هذا الشعور بالقهر كلما تزايد انعدام الأمل بمحاسبة جدّية، بالنسبة إلى حسين الذي لا ينتظر حكما قضائياً: "أدرك أن أحداً لن يُحاسَب، ولو حصل أن أحضروا الذين فجّرونا وأعدموهم أمامي، سأطلب مزيداً من الانتقام. أريد لهؤلاء أن يُعَذّبوا". ويكمل: "أرى في هذا الانفجار كيف تبدع السلطة بأساليب قتلنا يومياً، وإنْ كنتُ لا أتخيّل جريمة أفظع بعد، إلا أنني لا أتوقع أن يتوقف إجرام النظام".
فرض الانفجار نفسه على نظرة حسين لمهنة التصوير. "أنا من الذين يؤمنون بأن مهمة الصورة أن تعالج قضية وتظهر الحقيقة وأن تدفع بالناس للانتفاض أو اتخاذ موقف، ولكن وبعد الانفجار شعرت بأن لا فائدة لي ولكاميرتي. لم تعد أي صورة أو قضية تعنيني. شعرت بالقرف من الكاميرا ومن التصوير، ولم أستطع حتى الآن استرجاع شغفي بالتصوير نتيجة الصدمة، وربما لم أفقد فقط شغفي بالتصوير بل وأيضاً شغفي بكل شيء"، يقول.
وكونه مصوراً صحافياً يجعل ذلك تجربته أكثر تعقيداً وبصورة يومية: "لا أتقبل رؤية أي مسؤول سياسي أو أمني، فعند رؤية أي من هؤلاء أشعر بتوعك وألم في معدتي. في المرة الأولى التي طُلب فيها منّي في الجريدة التوجه إلى مقر رسمي بعد الانفجار عانيت من تشنّجات في المعدة. وأتفادى اليوم التوجه إلى أي مقر رسمي أو مهرجان يقيمه أي من الأحزاب السياسية".
يتحدث حسين عن "غياب الدولة بعد الانفجار". يتذكّر كيف "تُرك الناس لمصيرهم"، ويقول: "لقد عشنا لحظات البحث عن المفقودين والجثث".
نفس هذه المشاعر عبّرت عنها عائلة حصروتي وعائلات ضحايا آخرين لجهة تقصير السلطات الرسمية في القيام بدورها في البحث عن أحبائهم. وبالإضافة إلى ذلك، تُرك المتطوعون في الأيام الأولى يقومون هم بأعمال الإغاثة ورفع الركام بينما بدت مشاركة الجهات المعنية هزيلة، إذ اقتصر تقريباً على انتشار القوى الأمنية لضبط الشارع.
نور أيضاً، تشعر بالاغتراب في المدينة إثر الانفجار الذي شرّدها. هذا لم يكن التشرّد الأول الناتج عن العنف، فابنة الـ35 عاماً والتي تخشى الإفصاح عن كامل هويتها، لاجئة فلسطينية هربت من سوريا إلى لبنان عام 2015 وبدأت بالعمل في برامج تُعنى بالأطفال في المخيمات الفلسطينية. ولحظة وقوع الانفجار، كانت في محلّ خياطة في منطقة فرن الشباك تفكر بالفستان الذي سترتديه خلال سهرة مدعوة إليها. تقول لرصيف22: "عندما سمعت دوي الانفجار شعرت بالرعب، ظننت أنها داعش".
قبل أن تترك الشابة بيتها في سوريا، عانت تكراراً من أصوات الانفجارات التي عادةً ما كانت تسبق "اقتحام مركز ما". هذا الخوف محفور مثل الندبة في ذاكرتها. أما اليوم، فبالإضافة إلى كل هذا، يتردد في رأسها صوت الانفجار. "توجهت فوراً إلى منزلي، وجدت الزجاج المحطم في كل مكان فغادرت إلى منزل صديقة خارج بيروت، وبقيت أياماً حتى تمكّنتُ من البدء برفع الزجاج المحطم في منزلي"، تروي.
خلافاً لحسين، لم تُصَب نور بجروح خلال الانفجار، ولكنها تتجنب حتى اللحظة التوجه إلى المنطقة المحيطة بمرفأ بيروت. "لم أرَ تلك المناطق ولا أريد أن أراها. أعجز عن مشاهدة التدمير الذي لحق بها. وإنْ عاد الناس للسهر في حاناتها، إلا أن آثار الجريمة ما زالت ظاهرة. ولا أسلك الطريق المحاذي للمرفأ. فهناك أشعر بأني في فيلم رعب"، تقول.
إهمال الجرحى
800 شخص انضمّوا بفعل الانفجار إلى ذوي الاحتياجات الخاصة، الفئة التي
أما جرحى الانفجار، فعدا أنهم محرومون من حقهم بالوصول إلى العدالة وبالتعويض وجبر الضرر، فإن مَن يزالون يحتاجون إلى متابعة علاجاتهم لا أحد يتكفل بمصاريفهم.
"حالياً، هذا الحدث ليس من الماضي، لأن أغلبية الناس تعيشه كأنه حدث اليوم لأننا لم نفهم ماذا حصل ومَن المسؤول وهو ما يضع الجميع في حالة انتظار للإجابات لمعرفة كيف سيكملون حياتهم"
جرى التكفل بكلفة علاج الجرحى لدى دخولهم إلى المستشفى فوراً بعد الانفجار. ولكن بعد ذلك، تركت السلطة مَن عادوا لإجراء عمليات ومَن تطلبت حالاتهم علاجات لفترة طويلة يتكبدون الأكلاف المادية لاستكمالها وتحمل الفروقات التي لا تدفعها الجهات الضامنة، إنْ وُجدت.
في يوم عيدها الـ28، والذي يصادف تاريخ الانفجار، ستحيي
حنان مع عائلتها في المطعم قبل لحظات من التفجير.
تروي حنان لرصيف22: "خضعتُ لعملية جراحية لكنّي وقعت
حتى اليوم، وبعد مرور سنة على الانفجار، لا تزال الشابة تعجز عن السير على قدمها بشكل طبيعي، وهي تحتاج إلى مزيد من العلاج.
أما عن المعاناة النفسية، فتسرد حنان كيف يستمر ألمها حتى اليوم نتيجة مشاهدة أختها وهي تحتضر أمامها. تقول إنه "على الصعيد النفسي وخلال الفترة الأولى كانت الأمور أسهل، اليوم بدأتُ أشعر بالصدمة وبدأتُ أدرك ما حصل. الأمور باتت أصعب".
تكره الشابة السياسة لكنها تؤكد أن جريمة انفجار بيروت وما تبعه "مسألة سياسية". وتتهم "الدولة والأحزاب والقضاة" بالتسبب بالانفجار. "كلهم مسؤولون، ولدينا أسئلة لا نملك الإجابة عنها"، تقول وتضيف: "أتمنى لو أعرف الحقيقة، لكنتُ ارتحت نفسياً. لكنتُ عرفت مَن قتل شقيقتي ويتَّم طفليها وتسبب بأذيتي. أتمنى أن أعرف المجرمين بالأسماء".
إضافة إلى كل الأذى الذي لحق بها، غيّر الانفجار في مخططات حنان وتحكم بقراراتها. "فرض عليّ حياةً لم اخترها. أحلامي انهارت ودُمّرت. كنت أحلم بإكمال دراستي وبالعمل والسفر، لكن حياتي انقلبت. لم أستطع إكمال دراستي ولا العمل. لازمتُ المنزل سبعة أشهر أجريتُ خلالها عمليتين. كذلك فُرضت عليّ مسؤوليات جديدة، فقد تركَت شقيقتي طفلين يعيشان معنا في منزل العائلة. يهتم أهلي بهما لكن باتت لديّ مسؤولية تجاههما"، تقول.
التفرّغ للثّأر
مئات مثل حنان سرق الانفجار منهم حقهم في استكمال حياتهم بشكل طبيعي ومَنَعهم من اختيار الحياة التي يريدونها.
قبل وقوع الانفجار، كان إبراهيم حطيط (53 عاماً) يعمل في مجال الإعلانات. لكنه توقف عن العمل منذ وقع الانفجار وقُتل شقيقه ثروت. منذ ذلك الوقت، تفرّغ للمطالبة بالعدالة والضغط للدفع باتجاه التحقيق في الجريمة وتحصيل حقوق الجرحى وذوي الضحايا، وترأس لجنة أهالي شهداء المرفأ.
هذه الحقوق التي تبدو بديهية في وطن يحترم حقوق الإنسان لا يمكن الوصول إليها إلا بمعركة في وطن مثل لبنان.
بعد جهد وتحركات كثيرة، أقرّ في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020 قانون يساوي ضحايا انفجار المرفأ بشهداء الجيش اللبناني، ويمنح ذويهم الذين خسروا معيلهم راتب جندي.
ويشير حطيط إلى أن الدولة ترفض إلى الآن منح الجرحى الذين أصيبوا بإعاقات تمنعهم من العودة إلى أعمالهم أي راتب أو تعويض. بينما لم يبدأ ذوو الضحايا بتقاضي الرواتب والتعويضات التي أقرها القانون إلا بعد عدة أشهر من إقرار القانون المذكور.
لحظة علم إبراهيم بوقوع انفجار في مرفأ بيروت، توجه إلى المكان للبحث عن شقيقه ثروت، العنصر في الدفاع المدني. لكن البحث لم يكن سهلاً وكذلك التواصل مع الجهات المعنية. على بوابات المرفأ الذي مُنع الدخول إليه، التقى بذوي الضحايا.
"البعض كان يبحث عن أب، آخرون يبحثون عن أخ، عن زوج، عن ابن. هناك تبادلنا أرقام هواتفنا كي نبلغ بعضنا بأي معلومة ترد لأحدنا. وبقيتُ 11 يوماً حتى تمكنتُ من إيجاد جثة أخي. خلال هذا الوقت تطورت العلاقة بيننا كأهالي ضحايا. وبعد حوالي 40 يوماً من الانفجار تداعينا إلى اجتماع واتفقنا على القيام بتحركنا الأول عند البوابة رقم 3 أمام المرفأ، نظراً لرمزية المكان الذي خرج منه شهداؤنا"، يروي لرصيف22.
هكذا إذاً، التقى أهالي الضحايا وبدأت اللجنة تتأسس. ويتابع حطيط: "يومها أعلنّا عن أنفسنا وكان عددنا قليلاً وبدأ يزداد وأسسنا لجنة أهالي شهداء مرفأ بيروت. توحّدنا تحت عنوان المطالبة بالوصول إلى الحقيقة وحول أن كل هذه المنظومة الفاسدة مسؤولة عن قتل ذوينا. بالنسبة إلينا، الكل متهم حتى تثبت براءته".
اللاعدالة إمعان في الإجرام
يشكل مرور الوقت من دون بدء عملية المحاسبة سبباً لتفاقم الضرر والألم للجرحى وذوي الضحايا.
يؤكد الدكتور ربيع الشماعي، رئيس البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة العامة اللبنانية أن عملية الشفاء من التداعيات النفسية للانفجار تبدأ عندما تُكشَف الحقيقة ويتم إحقاق العدالة، وأن ذلك ما يساعد الأشخاص على تضميد جراحهم لتشفى تدريجياً وينتهي الألم الذي يشعرون به.
ويضيف لرصيف22: "بالتأكيد، يجب أن تكون هناك تدخلات على صعيد الدعم النفسي للتخفيف من وجع هؤلاء، لكن من المهم جداً عدم تحويل قضية مجتمعية وإنسانية وحقوقية إلى مجرد قضية طبية أو نفسية".
وعن علاقة العدالة بالصحة النفسية، يشرح الشماعي: "لم نعرف ماذا حصل، وهذا ما يترك شعوراً بالغضب وبالضعف لدى مَن فقد عزيزاً أو جزءاً من جسده. ولكي يستطيع الناس لملمة تداعيات هذا الحدث وتقبل الخسارة والبدء بمرحلة الحداد والاستمرار بحياتهم يجب أن يكون هناك نوع من خاتمة لهذا الحدث ليصبح من الماضي. حالياً، هذا الحدث ليس من الماضي، لأن أغلبية الناس تعيشه كأنه حدث اليوم لأننا لم نفهم ماذا حصل ومَن المسؤول وهو ما يضع الجميع في حالة انتظار للإجابات لمعرفة كيف سيكملون حياتهم".
يظهر تحليل الشماعي كيف يشكل الإصرار على التهرب من العدالة إمعاناً مقصوداً في أذية ضحايا الانفجار على اختلاف أشكال الضرر التي أصابتهم.
وتزيد الأزمة الاقتصادية من صعوبة الوصول إلى العلاج النفسي وهو ما يزيد من تهميش هذه الفئة التي خلّفها الانفجار.
أثر الجريمة في وجه شابة
في وجه بشرى صعب، الشابة الثلاثينية، خلّف الانفجار ندوباً، وغيّر في معالم وجهها وجعلها عرضة للتمييز والتهميش. "أصبح شكلي غريباً"، تقول لرصيف22.
لحظة وقوع الانفجار كانت الأستاذة في التعليم الثانوي في منزلها في منطقة الأشرفية. لم تدرِ سوى أنها استيقظت في المستشفى من دون أن تتذكر أية تفاصيل عن الحادث.
ترى بشرى أن ردة فعلها مختلفة عن ردة فعل جرحى آخرين. تقول: "منذ البداية، منذ الأسابيع الأولى التي تلت إصابتي ونتيجة انشغالي بالتحضير للعمليات التي اضطررت لإجرائها ومن ثم التحضير للسفر تنقّلت كثيراً في الشوارع،
خلال تجوّلها في الطرقات، كانت تستغرب نظرات الناس إليها. تقول: "بدا كأنهم لم يشاهدوا من قبل أيّ من المصابين رغم أن الانفجار خلف الكثير من الجرحى".
بعد فترة قصيرة من إصابتها، تعرّضت الشابة لموقف مؤلم خلال تواجدها في أحد المتاجر حيث جرى الاشتباه بها وتفتيش أغراضها من دون أن تقترف أي ذنب. تعتبر صعب أن هكذا أمور تحصل بسبب نظرة الناس إليها والتي اختلفت بعد تشوّه وجهها بسبب الإصابة: "عند رؤية شكل غريب يتم التشكيك أكثر بالشخص ويُعتقد بأن لديه نوايا سيئة أو أنه قد يسرق".
رغم التمييز الذي تعرضت له، تعتبر بشرى أن ما جرى لوجهها تفصيل أمام ما تخوفت من حدوثه لحظة استيقظت في المستشفى وقرأت كلمة "Brain" (دماغ) مكتوبة على يدها. تقول: "يومها
بشرى صعب، أثناء تلقّيها العلاج في المستشفى.
عانت صعب أيضاً من مشاكل في النظر نتيجة إصابتها في عينها. تقول إنه تبعاً لما باتت تعانيه، "صرت أفهم ما يعانيه ذوو الإعاقات البصرية، وانتبهت إلى خلوّ الإدارات من أيّ تجهيز يمكن أن يساعد هذه الفئة، وكان من الصعب عليّ خلال البحث عن مساعدة في أي مكان تبرير عدم قدرتي على الرؤية بوضوح بسبب الإصابة بالانفجار".
اليوم، ما زالت بشرى تعاني من مشاكل في التنفس، كما بقيت آثار الانفجار على وجهها وغيّرت في ملامحها. "لديّ عين زاحت عن الأخرى. مَن يراني سيعتقد أن شكلي غريب ولن يعرف أني أصبت جراء الانفجار".
وبالإضافة إلى كل ما عانته، اضطرّت الشابة كما الكثير من الجرحى إلى تحمل الأعباء المالية اللازمة لاستكمال علاجها والتي زادت كثيراً جراء الأزمة المالية وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية.
تتهرّب بشرى من متابعة الأخبار، "لأني أدرك أن الأمور ذاهبة باتجاه سيئ وليس لديّ أمل. أريد أن يحاكَم ويُعدم المتورطون لكنّي أدرك أن ذلك لن يحصل الآن. حالياً أحاول ألا أدع الأمر يؤثر على مستقبلي. لكن وعلى المدى البعيد لي ثأر شخصي سآخذه ولو بعد مليون سنة. سآخذ حقي وحق غيري. فأنا وإياهم والزمن طويل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون