قديماً، ذهبت فتاة تسمّى دورا (اسم مستعار) إلى الطبيب النفسي الشهير سيغموند فرويد، لتتهم صديق والدها السيد "كيه" بالتحرش بها. اتهمها فرويد بأنها مصابة بالهستيريا، وهو مرض نفسي خُصص للنساء فحسب، وبأنها تريد أن تكون مكان زوجته؛ السيدة "كيه". التصرف الذي أقدم عليه فرويد منذ مئة عام، ما زال يحدث حتى الآن؛ فما إن تخرج امرأة لتتهم رجلاً بالتحرش، خاصةً بعد حركة "أنا أيضاً" (me too)، حتى تُتهم بالكذب، وتُسأل: لماذا تأخرت في الإبلاغ عن الحادث؟ وهو ما دفع بعض الحركات النسوية إلى رفع شعار "نصدّق الناجيات". والحقيقة أنك لن تجد فتاة لم تتعرض للتحرش في حياتها، سواء في صغرها، أو من مديرها، أو من أفراد أسرتها. تخاف النساء من البوح بسبب عدم تصديق الناس لهن، وقد يلمن أنفسهن في أحيان كثيرة، فيظننّ أن الحادث صار بسببهن، ويبقين حاملات للذكرى الأليمة، والتي تثيرها كل قصة أخرى يقرأنها، أو يسمعن عنها. عندما قرأت عن هذه الحملة في فيسبوك، تذكرت حادثاً وقع لي عندما كنت مصابة بقرحة في المعدة. ذهبت إلى طبيب باطني، فقام بالتحرش بي؛ قام بتحسس جسدي كله. لم أصدق نفسي حينها. انصرفت، ولم أخبر أحداً. أتذكر أيضاً تعرضي للاعتداء بالضرب من شريكي السابق، وتورم وجهي، وعدم قدرتي على الأكل مدة أسبوع. لم أخبر أحداً، حتى أمي. احتجت إلى ثماني سنوات، حتى أكشف عن ذلك لطبيبي النفسي. ذلك بسبب حالة الإنكار، وعدم رغبتي في التصديق، ولأنني لم أرغب في أن يرثي الناس لحالي. فقد اعتدت الظهور كامرأة قوية. أتذكر أيضاً المثقف الخمسيني الذي بدأ الحديث معي حول الكتابة والشعر، ثم تطرق إلى مفاتن جسدي، ثم دعاني للذهاب معه إلى الفندق. كان يقوم بجذب يدي بالقوة لأذهب معه، مع الكثير من الإلحاح. "نفدت" منه بمعجزة، لأقرر ألا أتواصل مع أي كاتب تعجبني كتابته في المستقبل أبداً، آخذةً بالنصيحة الشهيرة: "لا تضف كاتبك المفضل إلى فيسبوك". لذلك أصدق من تخرج على الملأ، لتتهم شخصاً بالتحرش، أو الاعتداء، لأنني أعلم أن الحكي صعب، صعب جداً، خاصةً في مجتمع يكذّب الضحية، ويلومها.
ذهبت إلى طبيب باطني، فقام بالتحرش بي؛ قام بتحسس جسدي كله. لم أصدق نفسي حينها. انصرفت، ولم أخبر أحداً
ليست النائحة الثكلى، كالنائحة المستأجرة. وشعار نصدّق الناجيات، لن يرضي الرجال بالطبع، فقد قابله كثيرون بالسخرية، بل خرجت صفحات تقول إنها ضد "الإرهاب النسوي"، وشعر كثيرون منهم بالتهديد، "فماذا لو أشارت إليّ امرأة كذباً؟ لكنه لا يعرف التكلفة النفسية لفتاة تخرج إلى العلن لتحكي عن حادثة تحرش، وعن صدمتها، وعن الأذى النفسي الذي تعرضت له، وهي تعلم تماماً أنه لن يتم تصديقها من دون دليل، أو لأنها تأخرت في الإبلاغ. حتى الرجال، الذين يتصدون للمتحرشين، يطلبون من النسويات أن يخففن اللهجة الشرسة، أو أن يرفضن شعار "ندعم الناجيات"، مطالبين إياهن أن يدعمن النساء بوجود دليل فحسب. لكن معظم حالات التحرش تكون بلا دلائل. إنه دعم مشروط، كأن تدعم المقاومة، شرط ألا تطلق صواريخ على إسرائيل. أعلم أن دعم معظم الرجال سيكون غالباً مشروطاً، ولن يستمر للنهاية. إذ سيشعر الرجل عند نقطة ما، أن النسوية تهدده. هو يريد النسوية الناعمة، لا النسوية الشرسة. إذا كنت تدّعي حقاً أنك تدعم النساء، والنسوية، فلا تفرض شروطك عليهن. افسح لهن الطريق كي يمررن، ويعبّرن، ويتكلمن. قروناً مديدة، كان الرجل هو الذي يتحدث، وهو من يسن القوانين، حتى تلك التي تتحكم بأجساد النساء. فلماذا لا تصمت قليلاً، وتترك للمرأة الكلام؟
هل النساء معصومات من الخطأ؟ ألن تدعي فتاة على رجل بالكذب أبداً؟ الإجابة المختصرة هي لا. لكن كم نسبة هؤلاء مقابل نسبة الرجال المتحرشين؟ ما تريده النساء هو متنفس، ومساحة للتعبير والشكوى. أما دعم الرجال المشروط، فلن يفيدهن كثيراً. لا تريد النساء منكم التصديق، بل يردن أن تتركوهنّ يتحدثن عن الصدمة النفسية التي حملنها أعواماً، وعن الخوف الذي يسكنهنّ، وهن يتمشين ليلاً، وعن الألم الذي يملأ أجسادهنّ بسبب التحرش من الأصدقاء والغرباء. لطالما اتُهمت النساء بالمبالغة والجنون، فاسمحوا لهن الآن أن يتكلمن.
هو يريد النسوية الناعمة، لا النسوية الشرسة. إذا كنت تدّعي حقاً أنك تدعم النساء، والنسوية، فلا تفرض شروطك عليهن
أصدّق الناجيات لأنني امرأة تربيت على الخوف من جسدي، وعليه، من أن أركب في التاكسي ليلاً، فتكون يدي دائماً على المقبض، ولأنني تعرضت للتحرش مثل النساء كلهن، ولأن جسدي تحمّل سخافات الغرباء والأصدقاء، ولأنني ظللت صامتة أعواماً، والألم يعتصرني. أتذكر حينما تعرضت للتحرش قبيل تولي الرئيس مرسي الحكم. صرخ فيّ المتحرش في الشارع: "مرسي هيلمّكو". ثم قام بسبّي بلا سبب. كنت خائفة من تمترس الرجال ضدنا. لكن الوضع الآن لم يتغير كثيراً، ففي حادثة مثل حادثة "بسنت"، التي تعرضت للتحرش الجماعي في ميت غمر، وكانت الحادثة مصورة، تمت تبرئة المتحرشين. أصدّق الناجيات لأنني أعرف مقدار الصعوبة في أن أتعقب متحرشاً، وأذهب إلى قسم الشرطة. إذ يمكن أن يتم إلقاء اللوم عليّ بسبب ملابسي. أصدّق الناجيات لأن هذا البلد يكره النساء، ويحاسبهن على وجودهن، وهذه الحملة من النساء وللنساء، ولا نريد دعم الرجال المشروط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.