في الطريق إلى منطقة سفح المقطم بالقاهرة، تقودنا الخطوات حتماً إلى تفاصيل غارقة في الشعبية وربما العشوائية لأناس ارتضوا منذ زمن طويل أن تبقى حياتهم حاضرة وسط الأبنية العتيقة التي وقفت صامدة في وجه الزمن، في مواجهة مبانٍ أخرى حديثة شُيّدت في غفلة من الجميع.
في الطريق لا عجب إن صادفنا أناساً يتشح أغلبهم بالسواد، فهؤلاء جاءوا إلى المكان قاصدين المقابر المنتشرة في المكان، بحثاً عن لقاء حبيب غيبه الموت. وحدهم فقط مريدو "سلطان العاشقين" من جاءوا بالملابس العادية، التي تنطق بالألوان المبهجة، فهؤلاء لم يأتو زحفاً وراء الموت وإنما بحثاً عن الحياة.
هنا وتحت سفح الجبل وبين عدد من المساجد القديمة التي يحفظ أهل المنطقة تفاصيلها عن ظهر قلب، يقع مقام "سلطان العاشقين"، عمر بن الفارض أبي حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، الذي يعدّ من أشهر الشعراء المتصوفّين، والذي برع بشكل لافت في تسجيل أشعاره في العشق الإلهي، حتى استحقّ عن جدارة لقبَه الأشهر، "سلطان العاشقين".
هاجر بن الفارض مع أسرته من سوريا، إلى مصر، التي استقرّ فيها لفترة من الوقت، حتى قرر أن يسافر إلى مكة، وهناك اتخذ قراره المهم باعتزال الناس، ولم يخرج من خلوته لنحو 15 عاماً أنجز فيها أشعاره في الحب الإلهي، ليعود بعدها إلى مصر التي شهدت الفصل الأخير من حياته.
على الأبواب الخارجية للمسجد الذي يحتضن المقام، صادفتُ امرأة عجوزاً، أنهكها الزمن ورغم ذلك لمحتُ في عينيها سعادة غريبة وهى تستقبل زوّار المكان على أمل الحصول على بعض من العطايا.
اسمها "سعدية"، وهي من سكان المقابر المجاورة للمسجد، الذي تعيش فيه وحيدة، بعد أن توفي ابنها الوحيد، ومن قبله زوجها. لا تعرف الحاجة سعدية كم تبلغ من العمر، وإن كانت ملامحها تشير إلى السبعين.
أغلبية زوار المكان أضافوا على لقب "سلطان العاشقين" تفسيراً جديداً، فهم من العشاق الذين يؤمون المقام بحثاً عن تحقيق أمنيات الغرام
تستقبلنا الحاجة بجملة واحدة مكررة يبدو أنها حفظتها على مدار العقود السابقة، فما أن ترى الزائرين باتجاه المقام حتى تباغتهم قائلة: "ادخل ادعي ومشاكلك كلها هتتحل، وهمومك كلها هتتزاح، سيدنا عمر ده بركة، محدش دعى عنده وخرج مكسور الجناح".
جلست إلى جوار سعدية أحاول أن أعرف منها المزيد. ورغم أنها قليلة الكلام إلا أن كل ما تقوله يبدأ وينتهى بكرامات "سلطان العاشقين". حكت لي كيف جاءت جارتها في المقابر تدعو بفكّ كربها، وهو ما تحقق في اليوم التالي بحسب تأكيدها.
وفي مناسبة أخرى تروي كيف أن جارة أخرى جاءت بعد أن تأزمت حياة ابنتها وكانت على وشك الطلاق، وبعد أن جاءت إلى المقام عادت السعادة إلى بيت ابنتها.
على بعد خطوات وما أن نصل إلى الضريح حتى يستقبلنا خادمه، العم "عبد الله" (66 عاماً)، والذي لا تغيب الابتسامة عن وجهه. يتبادل عبدالله الأحاديث مع زوار الضريح من كلّ مكان من مصر وخارجها. يعرف طبيعة أهل الصعيد (جنوب مصر) وأهل بحري (شمال مصر) كما يقول، ويجيد الحديث مع كل منهم بلهجته، فقد عاصر الكثير من الناس الذين جاءوا إلى هنا لتلبية طلباتهم.
يقول عبد الله لرصيف22: "المقام يقع في غرفة مربعة، حوائطها حديدية، وذلك حتى تسمح للزوار برؤية المقام بسهولة، وستلاحظ دائماً أن هناك روائح مِسك طيبة تفوح في كافة الأرجاء، والمكان مفتوح يرحب بكل زواره من التاسعة صباحاً وحتى انتهاء صلاة العشاء."
أي وافد إلى هنا نستقبله بطبق من الحلوى
ويكمل: "الناس تأتى إلى هنا من كل المحافظات، رغم أن الوصول إلى المكان صعب. وأغلب من يأتى إلى هنا من الرجال فوق سن الثلاثين. يقفون لبضع دقائق ومنهم من يبقى لساعات، جالسين إلى جوار المقام، يشعلون الشموع، ويقرأون القرآن، ويرددون الدعوات التي جاءوا لأجلها، وقبل أن يرحلوا يضعون ما تيسر في صندوق النذور أو يتركون أزهاراً."
وعن كواليس الزيارات تابع: "أي وافد إلى هنا نستقبله بطبق من الحلوى، وبعض الكتب والملصقات الدينية. وطبعاً في تلك الأجواء الحارة والتي يصعب تحملها نقدم لكل زائر زجاجة مياه مثلجة، وبعد الاستقبال نتركه في خلوته يطلب ما يشاء وما جاء من أجله. وطبعاً الزوار موجودون كلّ يوم، لكن الأغلبية تأتي يوم الجمعة بما إنه إجازة."
تختلف طلبات الزوار من المال حتى العمل وسداد الدين وما شابه، بينما أغلبية زوار المكان أضافوا على لقب "سلطان العاشقين" تفسيراً جديداً، فهم من العشاق والمحبين الذين يؤمون المقام بحثاً عن تحقيق أمنياتهم، والتي غالباً ما تكون لها علاقة بالحبّ والأحبة والغرام.
تحكى "هدى" (30 عاماً)، من سكّان المرج بمحافظة القاهرة، وهي ربة منزل، أنها جاءت مرة إلى المكان بعد أن وجدت أسرتها مصرّة على أن تزوِّجَها من رجل كبير في السن لمجرد أنه غنى، فعزلت نفسها عن الجميع، وظلت في غرفتها منقطعة عن التعامل مع أي إنسان، ولم يكن لها سوى دموعها التي تذرفها ليل نهار، حتى رأت في يوم من الأيام مقام ابن الفارض في نومها ليتغير حالها تماماً، بحسب وصفها.
تحكي هدى لرصيف22: "في اليوم التالى خرجت من البيت وسألت عن مكان المقام حتى وصلت إليه، ووجدته كما شاهدته في منامي تحديداً، وكأني كنت هنا لسِنين. يومها لم أتمالك نفسي من البكاء وتحدثت إلى سيدي عمر بكلام كثير ودعيت، ولن تصدقني إن قلت لك إن معاملة أمي وأبي تغيرت تماماً بعد ذلك اليوم. رفضا العريس، وبعد مرور فترة قصيرة تزوّجت من أحبّ، وأصبحنا نأتي أنا وهو إلى المقام بين فترة وأخرى.
أما رضا يوسف (31 عاماً)، ويعمل في مجال المعمار، فجاء من محافظة المنوفية شمال القاهرة، بعد أن أصيبت حبيبته وابنة عمه، بمرض فشل الجميع في علاجه، حتى أن أسرتها لجأت إلى الشيوخ والقساوسة، وفي النهاية نصحه أحد أصدقائه من العاملين بالقاهرة بزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين وتحديداً مقام ابن الفارض.
"بصراحة لم أكن متحمساً في البداية لأمر كهذا، خصوصاً وأنني أسمع طول عمرى من كثيرين أن زيارة الأولياء حرام، لكنني أمام العذاب الذي كنت أراها عليه جئت إلى هنا"؛ هكذا فتح لنا رضا قلبه ليكشف ما جرى معه. ويضيف رضا: "جئت ودعوت كثيراً، وتحققت المعجزة، وشُفيت حبيبتي وتزوجنا."
"ادخل ادعي ومشاكلك كلها هتتحل، وهمومك كلها هتتزاح، سيدنا عمر ده بركة، محدش دعى عنده وخرج مكسور الجناح"
يحكي لنا أحمد مصطفى (25 عاماً)، من محافظة قنا، والذي يعمل في القاهرة بأحد المطاعم، أنه تقدم إلى فتاة ارتبط بها منذ فترة غير أن أسرتها رفضت، ولذلك جاء إلى هنا اليوم ليدعو بأن يتحقق حلمه بالزواج منها وإلا فسوف يمتنع عن الزواج حتى آخر العمر.
على مسافة قريبة من الضريح كان صوت بكاء "نادية" يجتاح الهدوء الذي يغلف المكان. تسكن نادية القاهرةَ، وهي حاصلة على دبلوم صنايع، وتعمل في مجال الخياطة. بعد أن هدأت سألتها عن سبب كل هذا البكاء فصمتت قليلاً قبل أن تقول إنها "نحس بشهادة كلّ من حولها".
وفسرت نادية ذلك بقولها: "كل مرة أُخطب فيها وأقترب من الزواج يحصل أمرٌ ما؛ في المرة الأولى مات خطيبي قبل العُرس بشهرين، وبعدها بثلاث سنوات، تعرفت إلى شاب آخر وشعرت بأنه قادر على أن ينسيني ما جرى، غير أنه حين اقترب موعد الزفاف، تمّ فصله من عمله، وبقي لفترة يبحث عن عمل. وفي تلك الفترة زادت المشكلات بينه وبين والدي بسبب عدم التزامه بموعد الزفاف، وفي النهاية تم فسخ الخطبة."
"أما الثالث، فقد ورطه شقيقه في قضية لا دخل له فيها، ودخل السجن، ومنذ ذلك الوقت صرتُ أُعرَف في كل الأماكن التي أتردد عليها بأنني (نحس) ويخاف من يريد التقدّم إلي أن يحصل له أمر سيء."
في كتاب "موسوعة الفِرق المنتسبة للإسلام" يؤكد القائمون على الكتاب من الباحثين أن عدد الأضرحة في مصر يصل إلى حوالى 6 آلاف ضريح يزورها كثيرون من فترة لأخرى، وهناك من يؤكد أن زيارتها حرام، وأغلبهم من شيوخ السلفية، وآخر يؤكد على أنها حلال، مثلما أكد شوقي علام مفتي الديار المصرية بأنه لا مانع من التبرّك بالأضرحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...