لا تلبث منطقة شرق السودان في هدوئها طويلاً، حتى تدخل في دوامة جديدة من العنف، والاقتتال الأهليَين.
منذ سقوط نظام المخلوع عمر البشير في 11 أبريل/ نيسان 2019، ظل الشرق السوداني فوق صفيح ساخن، تشعل نيرانه ملابساتٌ، وتدخلاتٌ متعددة الأطراف، مستغلةً تعقيدات الواقع الاجتماعي في أكثر مناطق السودان فقراً وتخلفاً.
هذا وقد شهدت منطقه شرق السودان خلال الأسبوع الماضي أحداثاً متنوعة دقت ناقوس الخطر في شأن إمكانية العصف، ليس بالفترة الانتقالية ذات التركيبة الهشة فحسب، بل أيضاً بوحدة السودان، وأمنه، واستقراره، ومن ثم باستقرار المنطقة بأسرها.
الاشتباكات تظهر في بورتسودان من جديد
عادت مدينة بورتسودان، الميناء الرئيس للسودان على البحر الأحمر، إلى واجهة الأحداث مجدداً بوقوع اشتباكات في حي دار النعيم، بين سكانه المنتمين إلى إثنية "التقرايت"، بقبيلتيها البني عامر والحباب، وقوات الجيش، والقوات النظامية الأخرى، وعصابات "النيقروز"، وذلك عقب خلافات وقعت بين أبناء البني عامر، ومجموعة من اللاجئين من دولة جنوب السودان، الذين يسكنون في أطراف الحي، لتستمر حالة الانفلات الأمني في المدينة، وتتطور بصورة نوعية لم يعهدها السودانيون من قبل، ازدادت حدتها حينما ألقى مجهولون قنبلة يدوية على نادي الأمير الرياضي في حي سلبونا، تلاها إطلاق للرصاص بصورة عشوائية، ما أسفر عن مقتل ستة أشخاص، وإصابة آخرين.
الصورة نقلاً عن صفحة المجلس الأعلى لنظارات البجا
تزامنت أحداث العنف في بورتسودان مع تحركات المجلس الأعلى لنظارات البجا، بقيادة ناظر عموم قبائل الهدندوة سيّد ترك، الذي وجّه بقطع الطريق بين الخرطوم وبورتسودان، وبين كسلا وبورتسودان، في إطار دفعه بالعديد من المطالب السياسية إلى الحكومة المركزية في الخرطوم، ومن بينها الإفراج عن معتقلين ينتمون إلى تلك النظارات، فاستمر الوضع على حاله عدة أيام، قبل إعلان المجلس الأعلى في 9 تموز/ يوليو الحالي، فتح الطرق حتى نهاية عيد الأضحى.
الأهمية الإستراتيجية للشرق وطبيعة الصراع فيه
وبخلاف التطور النوعي الذي وقع في مدينة بورتسودان، والمتمثل في إلقاء قنبلة يدوية على نادٍ رياضي، تبدو الوقائع كلها في الشرق شبه اعتيادية.
فتلك الأحداث لا تعدو كونها قصة تشابكت خيوطها منذ فترة، وليس مفاجئاً تدخل الجيش لمحاصرة حي دار النعيم في بورتسودان أياماً عدة، والذي لم يكن حدثاً عرضياً، بل جزءاً أصيلاً من القصة يتكرر كلما اندلع الاقتتال الأهلي هناك. على الرغم من أن الجيش في الأساس لا علاقة له بعمليات فض الشغب، أو التعامل مع المواطنين داخل المدن، فهذا دور الشرطة.
كما أن ضعف السلطة في التعامل مع تحركات المجلس الأعلى لنظارات البجا، وتجرؤ الأخير على قطع الطرق القومية بين المدن، وفتحها، كيفما ووقتما اتفق له، لا يُمثل علامة فارقة في تطورات الأحداث في الشرق، بل بات أشبه بالحالة الطبيعية المعبرة عن سطوة الإدارات الأهلية "القبلية"، وما تمارسه من ضغط سياسي يتكرر من حين إلى آخر، في ظل ضعف الدولة هناك، وانعدام الرؤية من قبل الحكومة المركزية للتعامل مع ملف شرق السودان، وحل إشكالاته بصورة جذرية.
في ظل هشاشة الوضع العام في السودان، في أعقاب سقوط حكم البشير، والضعف النسبي الذي تعاني منه السلطة الانتقالية، فإن صراعات الشرق اتخذت أبعاداً أكبر، مثل التهديد بالانفصال، وتقرير المصير
ثم إن الحكاية الأكبر للشرق تندرج تحت عنوان "انعدام القدرة على التعايش بين المكونات الاجتماعية المختلفة، وتسييس الإدارات الأهلية"، وهو ما ينذر بخطر كبير سينعكس على الإقليم كله.
فشرق السودان منطقة جيو-إستراتيجية تربط بين القرن الإفريقي وشمال إفريقيا، وترتكز في أجزاء واسعة منها على البحر الأحمر بأهميته الحيوية للسودان كونه المنفذ البحري الوحيد له،
وأهميته للعالم الذي تتسابق قواه الدولية والإقليمية على إيجاد موطئ قدم لها فيه.
بالإضافة إلى أن شرق السودان جزء من منطقة أكبر، ألا وهي إقليم "البجا"، الذي يمتد من غرب مدينة أسوان جنوب مصر، وصولاً إلى مدينة مصوع الساحلية في إريتريا، ويضم قبائل العبابدة، والبشاريين، والأمرأر، والبني عامر، والحباب، والهدندوة، والحلنقة، والتي تتحدث لغتين رئيستين هما "البداويت" و"التقرايت"، وتتنافس في ما بينها وفق المنطق القبلي على السيادة، والأحقية التاريخية في البجا.
وفي هذا الإطار، يقول المحلل السياسي عبدالله رزق في حديثه لرصيف22: "لا تختلف الأزمات في شرق السودان كثيراً عن الأحداث التي شهدتها وتشهدها مناطق دارفور، وأجزاء أخرى من البلاد، حيث يجري استنفار القبيلة وزجها في الصراع، وهو صراع على السلطة بطبيعة الحال، تشكل بقايا النظام السياسي السابق أحد أطرافه، مبيناً أن الطبيعة الجيوسياسية لشرق السودان، والتي تميزه عن مناطق أخرى، أعطت الأحداث في مدن بورتسودان، والقضارف، وكسلا، أهمية استثنائية، من خلال تفعيل العصبية القبلية لاستثمارها في الصراع السياسي. فشرق السودان يقع في محيط أهم بؤر صراعات القرن الإفريقي، وحروبه على الماء، إلى جانب حرب تيغراي، التي دفعت إريتريا إلى أتونها، ولا يمكن عزل شرق السودان عن المنطقة المضطربة، والتي يشكل جزءاً من جغرافيتها، وتكوينها الاجتماعي.
وأشار رزق، في حديثه لرصيف22، إلى أن الطبيعة الحساسة لشرق السودان جعلت بعض التحليلات تربط مجريات الأحداث فيه، بعوامل وعناصر عابرة للحدود الوطنية، منوهاً بأنه في ظل هشاشة الوضع العام في السودان، في أعقاب سقوط حكم البشير، والضعف النسبي الذي تعاني منه السلطة الانتقالية، فإن صراعات الشرق اتخذت أبعاداً أكبر، مثل التهديد بالانفصال، وتقرير المصير، ما يجعل الأوضاع في الشرق تحتاج إلى معالجة خاصة؛ لتغليب عوامل الحوار والتوافق بدلاً من العنف والاقتتال، بما يمكّن من تجنيب المنطقة الانحدار إلى مستنقع الفوضى.
"لا تختلف الأزمات في شرق السودان كثيراً عن الأحداث التي شهدتها وتشهدها مناطق دارفور، وأجزاء أخرى من البلاد، حيث يجري استنفار القبيلة وزجها في الصراع، وهو صراع على السلطة بطبيعة الحال"
واتفق مع هذه النظرة إلى حالة عدم الاستقرار في الشرق الكاتب المتخصص في شؤون القرن الإفريقي عبدالجليل سليمان، بقوله لرصيف22: "إن ما يحدث في الشرق هو صراع سياسي بواجهات قبليّة. هذا هو التوصيف الصحيح للصراع الراهن في شرق السودان، الذي يُعد أهم إقليم سوداني، إذ يتاخم ثلاث دول مهمة، وهي مصر وإثيوبيا وإريتريا، فضلاً عن إطلالته على البحر الأحمر على طول 780 كيلومتراً، ويقابله الساحل السعودي في الناحية الأخرى. كما أن الإقليم الشرقي يضم مساحات زراعية شاسعة، إذ توجد فيه كبريات مزارع السمسم، والذرة، وزهرة الشمس التي تعتمد على الري المطري، ما يجعل كلفة إنتاجها فيه قليلة جداً".
وأضاف سليمان: "الموقع الجيو-إستراتيجي للشرق، إلى جانب الموارد الطبيعة الهائلة التي يزخر بها، جعلته بؤرة لتصفية الصراعات السياسية الداخلية بين القوى السياسية الديمقراطية المدنية من جهة، والمكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي، مدعوماً من أنصار فلول نظام الإخوان المسلمين الكامنين في مفاصل الدولة، والأجهزة الأمنية والعسكرية من جهة أخرى، وبسندٍ من قوى إقليمية عربية تفضل أن يُحكم السودان من قبل الجيش، وتعمل على إضعاف الأحزاب السياسية المدنية، وتأليب الرأي العام عليها بإظهارها عاجزة وفاشلة".
هكذا بدأت أزمة شرق السودان
وفي العودة إلى الظروف الاجتماعية للشرق، يُنبه الناشط السياسي في مدينة بورتسودان فتحي أورفلي إلى أهمية الحديث عن الخلفية التاريخية للصراع الأهلي في شرق السودان حتى تكتمل الصورة، ويقول: "إن شرق السودان تسكنه قبائل البجا منذ الأزل، بيد أن تغيرات وتحولات حدثت فيه وطالت بنيته الاجتماعية مع هجرة الكثيرين من القبائل من نواحٍ مختلفة إلى المنطقة، ليصبح الشرق سوداناً مصغراً في ظل طبيعة البجا، واستعدادهم للتعايش مع الجميع".
وأضاف في حديثه لرصيف22، أن الصراعات الأهلية بصورتها الطبيعية ظلت موجودة في شرق السودان بين مكوناته البجاوية، وهي في غالبيتها صراعات على الأرض والماء، غير أن التطورات الجديدة في الشرق، والتي بدأت منذ سقوط نظام الإخوان المسلمين، تتمثل في تسييس الصراعات القبلية، وهي حالة لم تمر على الشرق في تاريخه، إلا في عام 1986، حينما حدث صراع بين البني عامر والمجموعات الإثنية من جبال النوبة، مثلما يجري حالياً في بورتسودان.
اللافت في الأحداث التي وقعت قبل 35 عاماً، أنها أعقبت "انتفاضة نيسان/ أبريل"، وفي فترة انتقالية مشابهة للوضع السياسي الحالي في السودان.
ما يثير مخاوف الكثيرين هو دخول الشرق في حرب أهلية، تمتد لتهدد السلم والأمن في المنطقة برمتها. وبوضع الموقع الجغرافي للشرق في عين الاعتبار، يتبيّن أن الفوضى فيه ستجعله يدخل في سيناريو الصوملة، عبر ظهور مليشيات إرهابية، وقراصنة بحريين يهددون السفن في البحر الأحمر
الإدارات الأهلية في الشرق هي عبارة عن تقنين لدور العمد، ومشايخ القبائل ونظارها، بمنحهم صلاحيات لتسيير أمور الناس، وحفظ السلام والأمن في مناطقهم، ونادراً ما يحدث صراع أو تقاطع للمصالح بين الإدارات الأهلية، والسلطة، أو أي نظام سياسي حاكم في الدولة.
لكن تسييس الإدارات الأهلية حدث في العهد السابق، عبر الزج بها في أتون الصراعات والمكايدات، واستخدامها كأذرع للسلطة السياسية. وبعد إسقاط النظام، حدث تحور في الإدارة الأهلية في الشرق، وظهرت أجسام قبلية جديدة كواجهات سياسية، مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا، وغيرها، مشيراً إلى أن مفاوضات الجبهة الثورية مع الحكومة الانتقالية في جوبا، والتي بدأت عام 2019، أدت إلى تصاعد خطاب الكراهية، وامتلاء وسائل التواصل الاجتماعي به، منذ إعلانها عن مسار الشرق، بسبب عدم اعتراف المجلس الأعلى لنظارات البجا به، ورفضهم لممثليه، لأسباب إثنية.
شبح الحرب الأهلية
ما يثير مخاوف الكثيرين هو دخول الشرق في حرب أهلية، تمتد لتهدد السلم والأمن في المنطقة برمتها. وبوضع الموقع الجغرافي للشرق في عين الاعتبار، يتبيّن أن الفوضى فيه ستجعله يدخل في سيناريو الصوملة، عبر ظهور مليشيات إرهابية، وقراصنة بحريين يهددون السفن في البحر الأحمر، الأمر الذي يحتم على المجتمع الدولي، والإقليمي، التدخل الفوري، لتهدئة الأوضاع في هذه المنطقة الإستراتيجية.
من جهته، شدد سليمان على أن هناك مخططاً واضحاً لجر الشرق السوداني إلى سيناريو الحرب، بغرض إعادة الجيش إلى السلطة، وإقصاء المكون المدني، وإفشال التوجه الديمقراطي، لافتاً إلى أن البيئة في الشرق، بما تحمله من تخلف، وفقر، وعصبية قبلية، تُعد خصبة جداً لإنجاح أي مخطط للعصف بالعملية السياسية القائمة.
وقال إن الأوضاع في الشرق تطورت بسرعة، وبصورة درامية لا عوامل موضوعية لها، بعد شهر واحد من سقوط نظام البشير. فمدينة القضارف شهدت أحداثاً دامية بين البني عامر ومكونات إثنية من جبال النوبة، لمجرد خلاف على سعر عبوة ماء، لينتقل الصراع بين هذين المكونين إلى مدن الشرق كلها، مثل خشم القربة، وكسلا، وحلفا الجديدة، وبورتسودان، ثم أخذ بعده السياسي بدخول نظارة قبيلة الهدندوة على الخط، حينما رفض الناظر سيّد محمد تعيين صالح عمار أحد أفراد قبيلة البني عامر والياً على ولاية كسلا، وبعد ذلك تصاعد الخطاب العنصري بين القبائل، بادعاء كل قبيلة بأنها قبيلة سودانية خالصة، وأن الأخرى دخيلة على البلاد.
وأكد سليمان عدم وجود مشاكل حقيقية بين القبائل، وأن ما يجري على الساحة قضايا مفتعلة، لتحويل منطقة الشرق إلى منطقة حرب، وقاعدة لتنفيذ مخططات خارجية، تسعى إلى نهب ثروات السودان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...