استبَقت إثيوبيا جلسة استثنائية لمجلس الأمن الدولي حول أزمة سد النهضة، بإعلانها بصورة أحادية بدء عملية التعبئة الثانية للخزان بـ13.5 مليار متر مكعب جديدة من المياه، ما يعني، نظرياً، أن أي تحرك لحسم الملف عسكرياً، ينبغي إنجازه خلال أسابيع فقط، وقُبيل تقدّم عملية الملء المقررة نهاياتها في آب/ أغسطس المقبل.
وتكمن خطورة الخيار العسكري بعد اكتمال التعبئة الثانية، في إطلاق 18.5 مليار متر مكعب من المياه دفعة واحدة (حصة السودان من مياه النيل خلال عام تقريباً)، ما يعني محو أحد أهم الخزانات السودانية الواقعة على بعد 65 كليومتراً من سد النهضة (خزان الروصيرص)، بالإضافة إلى غمر مساحات واسعة من الأراضي المحلية بصورة تهدد حياة ملايين السكان القاطنين عند مجرى النيل الأزرق.
ويُذكّر هذا السيناريو المرعب، بالأصوات السودانية التي رفضت باكراً قيام سد يحجز 74 مليار متر مكعب عند حدود البلاد الشرقية فعلياً، مغبة انهياره، وإطلاق كميات مهولة من المياه، يقول نموذج محاكاة مصري لها أن في مقدورها صناعة موجة فيضان بارتفاع 26 متراً، ما سيؤدي إلى إغراق السودان بصورة مأساوية، تضاهي صور أفلام هوليوود، أو حكايات غرق "قارة أطلانتس" الأسطورية.
تصعيد وتعنّت
حتى الآن، يبدو أن إثيوبيا ناجحة في فرض سياسة الأمر الواقع على دول المصب، السودان ومصر، بما في ذلك إلغاء اتفاقية مياه النيل لسنة 1959، الحاكمة لقضية مياه النيل، وتقسيمها الحصص المائية بواقع 18.5 و55.5 مليار متر مكعب من المياه بين السودان ومصر على التوالي، فضلاً عن استخدامها النيل كأداة للهيمنة، والضغط السياسي، ضد دولتَي المصب،
وهو الموقف الذي عبّر عنه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، قائلاً: "إثيوبيا سوف تبدأ ببناء مئة سد العام المقبل"، ومنها ستحصل إثيوبيا على تنميتها المنشودة، وهو ما أكد عليه بوضوح وزير خارجيته غيدو أندارغاشو، حين قال: "في الحقيقة... النيل لنا".
بين الجيشين السوداني والإثيوبي
الحديث عن الحرب استدعى فكرة مقارنة إمكانات الجيش السوداني الحالية بإمكانات نظيره الإثيوبي، للوقوف على نقاط قوة وضعف كلي الجيشين.
وفقاً لدراسة أعدها موقع "غلوبال فاير باور"، فمع أن الجيش السوداني يتأخر عن الجيش الإثيوبي في الترتيب على قائمة أقوى الجيوش (77 مقابل 60) إلا أنه يتفوق عليه في العدد والعتاد. ففي الوقت الذي يخصص السودان 4 مليارات دولار لدعم جيشه وإسناده، ترصد أديس أبابا 520 مليون دولار فقط لتسليح جيشها. ويبلغ عدد أفراد الجيش السوداني حوالي 105 آلاف جندي في الخدمة، بالإضافة إلى 85 ألف جندي في قوات الاحتياط، بينما يبلغ مجمل عدد أفراد الجيش الإثيوبي 162 ألف جندي. أما عن حجم تسليح الجيشين، فالكفة تميل صوب السودان الذي يُعد سلاح جوّه أكثر فاعلية، إذ يضم 190 طائرة حربية، مقابل 92 طائرة فقط عند الجانب الإثيوبي. الأمر ذاته ينطبق على الآليات والمدرعات بـ830 دبابة سودانية، و450 مدرعة، مقابل 365 دبابة إثيوبية، و130 مدرعة.
حتى الآن، يبدو أن إثيوبيا ناجحة في فرض سياسة الأمر الواقع على دول المصب، السودان ومصر، بما في ذلك إلغاء اتفاقية مياه النيل لسنة 1959، الحاكمة لقضية مياه النيل
لكن التفوق في العدة والعتاد لا يعني حكماً تفوّق جيش على آخر، إذ يلعب مستوى التطور التكنولوجي، وحجم التدريب، والحداثة، فضلاً عن الخبرات التراكمية، دوراً كبيراً في تحديد قدرات الجيوش.
كما يجب أيضاً مراعاة أن الجيش السوداني قضى عمره تقريباً في حروب استنزاف أهلية، بدأها منذ ما قبل استقلال السودان في العام 1956، بتمرد في قاعدة "توريت" في دولة جنوب السودان الحالية.
نقاط القوة والضعف عند الجيشين
الحديث عن شبح الحرب يدفعنا إلى البحث عن نقاط القوة والضعف في الجيشين السوداني والإثيوبي. العقيد المتقاعد نور الدين طيفور يحلل تلك النقطة لرصيف22، ويقول: الجيش السوداني يمتلك خبرات كبيرة مقارنة بالجيش الإثيوبي، اكتسبها خلال عقود من التأهيل والقتال المستمر. وعلى الرغم من محاولات تسييس المؤسسة العسكرية، وعمليات اختراقها، لتنفيذ انقلابات لصالح كيانات حزبية، وكثرة الجبهات القتالية الداخلية التي وجد الجيش نفسه منفتحاً عليها منذ العام 1955، تمتاز القوات المسلحة السودانية بعقيدة قتالية واضحة المعالم، وتأهيل عالي المستوى، خلافاً للجيش الإثيوبي المتمرس في حروب العصابات.
ويضيف طيفور إلى عوامل القوة التي يملكها الجيش السوداني، تماسك الجبهة الداخلية بعد وصول حكومة انتقالية أنهت الصراعات الأهلية، في مقابل جبهة إثيوبية متصدعة، حيث خرج إقليم تيغراي من سلطة الدولة، مع تململ في إقليم بني شنقول، حيث يقام سد النهضة، واحتمال انفجار الوضع على الحدود الإثيوبية الصومالية. وفي حال اندلاع حرب بشأن سد النهضة، ستنزع القوميات المناوئة للنظام الفيدرالي في إثيوبيا إلى المناداة بحقوقها عبر استخدام القوة، وقد يصل الأمر إلى المناداة بالانفصال عن أديس أبابا.
يتفوق الجيش السوداني في العدد والعتاد على الجيش الإثيوبي. وفي الوقت الذي يخصص السودان 4 مليارات دولار لدعم جيشه وإسناده، ترصد أديس أبابا 520 مليون دولار فقط لتسليح جيشها
أما مخاوف السودان من الخيار العسكري، فيلخصها الخبير الإستراتيجي، مصطفى عمران، لرصيف22 قائلاً: في حال اندلاع الحرب، من المحتمل دخول إريتريا في الصراع، وهو ما يهدد بإشعال الشريط الشرقي في السودان بكامله، وذلك من دون إغفال وجود قبائل مشتركة مع إريتريا يتورط بعضها في صراعات أهلية في شرق السودان حالياً. فضلاً عن أن التضاريس الإثيوبية شديدة الوعورة، وتُصعّب من حركة الجيوش النظامية، وتالياً تحدّ من قدرة الجيش السوداني على المناورة والحسم.
أما آخر نقطة ضعف في خطة الهجوم العسكري، فتتمثل في التكلفة الاقتصادية العالية للخيار العسكري، إذ يمكن أن تتأثر كبريات المشاريع السودانية (إمكانية تدمير إثيوبيا لخزان الروصيرص القريب من الحدود)، هذا بالإضافة إلى الفاتورة الباهظة جداً لخيار الحرب، ما يعني تفاقم الأوضاع الاقتصادية بطريقة قد تدفع إلى انهيار جهود الحكومة الانتقالية في حل أزمة الاقتصاد المتفاقمة.
طبول الحرب تدق في الخرطوم
التصعيد الإثيوبي من خلال الاستمرار في طريقة تعامله مع سد النهضة، قوبل بأصوات بدأت تتعالى لتهيمن نسبياً على المشهد السوداني، مطالبةً بحتميه إيقاف التقدم الإثيوبي بأي وسيلة، ولو كانت الحرب.
منطق تلك الأصوات، هو أن السماح لإثيوبيا بإكمال تعبئة سد النهضة سيكون بمثابة طامة كبرى على السودان ومصر، خوفاً من نوايا أديس أبابا في بيع النيل وتسليعه، فضلاً عن كونه تهديداً دائماً في حال نشوب أي أزمة سياسية بين البلدين.
البعض الآخر يتخوف من محاولات إثيوبيا ربط قضية سد النهضة بقضية "الفشقة"، والضغط على السودان للانسحاب من المنطقة السودانية شديدة الخصوبة لصالح إعادة احتلالها بواسطة القوات والمليشيات الإثيوبية، وهي المنطقة التي نجح الجيش السوداني في استعادة ما يزيد عن 95% منها من قبضة إثيوبيا مؤخراً، بعدما تخلى عنها الرئيس عمر البشير قبل ما يزيد عن 25 عاماً.
الباحثة في كرسي المياه في جامعة الجزيرة، هالة ونسي، تقول لرصيف22، إنه على الرغم من ممانعتها للخيار العسكري، فإن مصالح السودان تتطلب تفعيله في هذه اللحظة بالذات، لكون انهيار السد اليوم بهذه الكمية من المياه، خيراً من انهياره بعد تعبئته بالكامل، ما يهدد مستقبل البلاد برمتها.
مسارات الحرب المرتقبة
في حال قررت الخرطوم شن حرب على إثيوبيا، فسيكون أمامها مسار من اثنين، وفقاً للخبير العسكري العقيد طيفور.
الأول: توجيه ضربة جوية لجسم السد، عبر طلعات قريبة من داخل الحدود المحلية.
والثاني: الاجتياح البري للسيطرة على منطقة السد في بني شنقول، في ظل الانشقاقات الإثيوبية.
وقطعاً، ما إن يتم الحديث عن الحرب مع إثيوبيا، يقفز اسم مصر على الطاولة، جالباً معه انقساماً حاداً، بين مرحب بالتنسيق مع القاهرة، ورافض للدخول في حرب، بالوكالة، دفاعاً عن المصالح المصرية.
وكان الجيشان المصري والسوداني قد أنهيا مؤخراً مناورات واسعة اختير لها اسم "حماة النيل"، وتضمنت مناورات جوية وبحرية وبرية، هذا إلى جانب توقيع بروتوكولات دفاع مشترك تلزم كل طرف بالقتال لصالح الطرف الآخر، متى تعرّض لعدوان خارجي.
أسابيع قليلة، أو شهور معدودة، وتتضح الرؤية إزاء قضية هي الأخطر في تاريخ ثلاث عواصم إفريقية، فهل تشهد المنطقة حرباً على المياه، أم ينجح الفرقاء في الوصول إلى حل وسط يحقن الدماء؟
وحسب العقيد طيفور، فإن السودان، في حال قرر الجيشان تفعيل الخيار العسكري، سيتكفل بحرب المشاة، وبفتح مطاراته لاستقبال الطائرات الحربية المصرية، فيما سيكون على مصر ضرب السد، وحماية القوات السودانية المتحركة على الأرض، مع تشكيل مظلة حماية جوية للمصالح الحيوية من أي ردود فعل انتقامية للجيش الإثيوبي.
لن نحارب بالوكالة
الرافضون للخيار العسكري في السودان، إلى هذه اللحظة، موزعون على فئات عدة، إحداها تعتقد بأن مصالح السودان المتحققة من السد كبيرة جداً، وثانية ترى أن خيار التفاوض في أزمة السد لا يرتبط بفترة زمنية، علاوة على فريق ثالث لا يريد للسودان أن ينجرّ إلى حرب بالوكالة مع إثيوبيا، نيابة عن مصر.
في لقاء مع رصيف22، حذر خبير المياه زهير سيد علي، من تغليب السودان للسياسي على الفني، قائلاً: ستنجم عن الحرب خسارات كبيرة، فأي عمل عسكري ضد السد، يعني خسارة خط إمدادات دولي للكهرباء بأسعار تفضيلية، واستمرار العجز في الاستفادة من حصة المياه كاملة، واستمرار الفيضانات المدمرة، وتضاؤل نسب المياه المخزنة في السدود المحلية بفعل الطمي.
وأضاف: إن كانت لمصر مخاوف من السد، فيفترض ألا تزجَّ بالسودان في هذه القضية مطلقاً، كما لا يجب للسودان أن يسمح لنفسه بأنه يكون وكيلاً لأحد في عالم يرتكز على المصالح.
أما الخبير الإستراتيجي مصطفى عمران، فيعبّر عن خشيته من أمرين، قال إن أولهما هو الدخول في حرب إقليمية شاملة، توثر على مرحلة الانتقال الشديدة الهشاشة في السودان، وثانيهما رغبة العسكر في تقوية شوكتهم عبر خلق قضية تتطلب التفاف الجميع حول الجيش، وترجيح كفة العسكريين على المدنيين في سدة الحكم في البلاد.
أسابيع قليلة، أو شهور معدودة، وتتضح الرؤية إزاء قضية هي الأخطر في تاريخ ثلاث عواصم إفريقية، فهل تشهد المنطقة حرباً على المياه، أم ينجح الفرقاء في الوصول إلى حل وسط يحقن الدماء؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ ساعتينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 23 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت