بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب عام 1967، جاء بعض أصدقاء الكوميديان السوري الكبير، عبد اللطيف فتحي، وقالوا له: "هل يُعقل أن العالم العربي ينهار وأنت لا تحرّك ساكناً؟ ألا يجب أن يحمل فنّك رسالة في هذا المنعطف التاريخي الذي تمرّ به الأمة العربية؟"
نظر إليهم باستغراب ورد ببرودة أعصاب: "ماذا تريدونني أن أعمل؟".
قالوا: "عليك بمسلسل عن البندقية الفلسطينية، أو فيلم عن الضفة، أو سيناء، أو الجولان!".
ردّ عبد اللطيف فتحي مبتسماً: "يا جماعة... أنا مهرّج، ويكون بعلمكم أنا أفضل مهرّج بهالبلد. لا تجبروني على مكان ما بيشبهني ولا أشبهه، فلا علاقة لي بالسياسة أبداً. خلوني مهرّج، وصدقوني... إذا كل واحد منا اشتغل شغلو بإتقان، منفيد هالبلاد أكثر".
هكذا عاش عبد اللطيف فتحي طوال حياته، مهرّجاً ماهراً ورائداً مجدّداً في فن الكوميديا في سورية، وهكذا أراد للتاريخ أن يذكره.
عاش عبد اللطيف فتحي طوال حياته، مهرّجاً ماهراً ورائداً مجدّداً في فن الكوميديا في سورية، وهكذا أراد للتاريخ أن يذكره
البدايات
ولد عبد اللطيف فتحي في حيّ سوق ساروجا الدمشقي سنة 1916، وكان والده ضابطاً في الجيش العثماني، ثم في الدرك السوري بعد الانتداب الفرنسي عام 1920. دَرَس في مدارس دمشق الحكومية ولكنه لم يُكمل تحصيله العلمي وتفرّغ للفن منذ سنة 1934، ممثلاً في نادي "إزيس" للهواة، والذي كان يرأسه المربّي السوري جودت الركابي. عمل بعدها مع فرقتين مصريتين كانتا تعرضان أعمالاً فنية في سورية ولبنان، وهما فرقة "عطية محمد" وفرقة "أمين عطا الله"، وتعلم منهما الكثير.
الإنجاز الأول: الميوزك هول
تفرّغ عبد اللطيف فتحي للعمل المستقل سنة 1936 وأسّس فرقة مسرحية أطلق عليها اسم "الميوزك هول" (قبل ميشال الفتريادس بقرابة سبعة عقود). كانت تُعني بالرقص الاستعراضي والغناء، ويتخلّل عروضها الموسيقية عروض الرجل الواحد (One Man Show) التي كان يقدّمها فتحي بنفسه، بالتعاون مع الشاعر الشعبي عبد الغني الشيخ. كان نجاح هذه الفرقة محدوداً لأنها كانت جديدة وغريبة على الناس، فأوقفها فتحي وأسس فرقة مسرحية على الطريقة الكلاسيكية، أطلق عليها اسم "فرقة عبد اللطيف فتحي".
الإنجاز الثاني: "تشويم" المسرح
كانت جميع العروض المسرحية في سورية يومها تُعرض إمّا باللغة العربية الفصحى أو باللهجة المصرية، حتى قرّر عبد اللطيف فتحي "تشويمها" سنة 1946، واستبدالها باللهجة الدمشقية المحكية التي شبّ عليها وشاب في أزقة دمشق وحاراتها العتيقة.
"دَمْشَقَةُ المسرح" كانت نقطة تحوّل في حياة عبد اللطيف فتحي وجيله من الفنانين، وسّعت كثيراً من جمهوره وجعلته الأشهر في مدينته. وقد ابتكر فتحي شعاراً خاصاً به (Signature) يقوم بإطلاقه قبيل صعوده على خشبة المسرح في إنذار مبكر منه للجمهور: "هرّو... هرّو... هرّو". لا معنى طبعاً لهذه الكلمة، وقد وصفها عبد اللطيف فتحي بأنها "تعويذة" أو بصمة خاصة به، بات يُعرف بها حتى أيامه الأخيرة. وفي مرحلة لاحقة من حياته، أضاف عليها عبارة ثانية: "يا ساتر!".
كانت مسرحيات فرقة عبد اللطيف فتحي تُعرض على مسرح النصر في سوق الحميدية، الذي هُدم سنة 1983، وعلى خشبة مسرح معرض دمشق الدولي عند افتتاحه سنة 1954. وفي عام 1956 قام بتأسيس فرقة جديدة تدعى "المسرح الحر"، والهدف منها كان تحرير الفنانين السوريين من جشع أصحاب الصالات الكبرى، الذين كانوا يأخذون حصّة الأسد من عائدات شباك التذاكر ولا يتركون للممثلين إلا الفُتات.
قاموا بإنشاء مسرح خاص بهم في شارع العابد وسط دمشق، مقابل مجلس النواب، وصارت عائدات العروض تصبّ في جيوب الفنيين والممثلين، ما رفع قليلاً من سويتهم المعيشية والحياتية.
وفي زمن الوحدة مع مصر سنة 1960، ولدت فكرة مسرح تابع للحكومة السورية، يكون ارتباطه مباشرة بوزارة الثقافة، وأطلق عليه اسم "المسرح القومي". كان عبد اللطيف فتحي من مؤسسيه، ومن رحمه ولدت فرقة "أمية للفنون الشعبية" وفرقة "مسرح العرائس"، وكان عبد اللطيف فتحي مديراً له. كانت تجربة ريادية ناجحة، أضيفت إلى سجله الحافل، حيث قام بالتعاقد مع خبراء من يوغوسلافيا وبلغاريا لأجل هذا النوع من المسرح الجديد على المجتمع، الذي أسّسه فتحي من الصفر.
وأخيراً كانت تجربة "المسرح الشعبي" في منتصف الستينيات، التي شارك بها عبد اللطيف فتحي بمسرحية "صابر أفندي" الشهيرة، للقاص الدمشقي المعروف حكمت محسن، التي ظهر فيها عدد من الممثلين الذين باتوا نجوماً كباراً في سنوات لاحقة، أمثال منى واصف وياسر العظمة.
الإنجاز الثالث: بدري أبو كلبشة
نظراً لشهرته الفائقة على المسرح، دُعي عبد اللطيف فتحي للمشاركة في مسلسل "صحّ النوم" الذي أُنتج سنة 1972، وكان من بطولة الثنائي الفني، دريد لحام ونهاد قلعي. لم يكن فتحي ضمن أسرة المسلسل عند إطلاقه، وكان صديقه النجم فهد كعيكاتي، يلعب دور رئيس مخفر "حارة كل من أيده ألو" الافتراضية.
ولكن كعيكاتي اختلف مع الجهة المنتجة وانسحب من العمل بعد تصوير أول حلقتين. عُرض الدور على فتحي، وقَبِل الدخول المتأخر على المسلسل وأن يكون بطلاً بديلاً لزميله، وكان عليه ابتكار شخصية كوميدية خاصة به، مختلفة عن شخصية "أبو فهمي" التي كان يُقدمها كعيكاتي على المسرح وفي إذاعة دمشق. ولم يكن الوقت في صالحه لأن حلقات المسلسل كانت تكتب بشكل أسبوعي قبل التصوير، وأحياناً خلاله، وكونه متأخراً على العمل كان عليه ابتكار الشخصية وتنفيذها في ظرف ثلاثة أيام لا أكثر.
كانت جميع العروض المسرحية في سورية تُعرض إمّا باللغة العربية الفصحى أو باللهجة المصرية، حتى قرر عبد اللطيف فتحي "تشويمها" سنة 1946 واستبدالها باللهجة الدمشقية المحكية التي شبّ عليها وشاب في أزقة دمشق وحاراتها العتيقة
من هنا ولدت شخصية "بدري أبو كلبشة" الشهيرة، التي أوصلت عبد اللطيف فتحي إلى النجومية العربية، وجعلته نجم صفّ أول في التلفزيون، بعد سنوات طويلة من النجومية المطلقة على المسرح. وكما أوجد لنفسه بصمة خاصة على المسرح، فعل ذلك مجدداً في التلفزيون، حيث جعل "أبو كلبشة" يتمتع بحاسة شمّ عالية و"أنف لا يخطئ" في تتبع الجريمة والمجرمين. كما أعطاه جملة قصيرة باتت خالدة في ذاكرة الجماهير العربية: "أنا يللي دوّخت موسوليني".
حقق مسلسل "صحّ النوم" نجاحاً منقطع النظير في سورية ولبنان والأردن، وفي دول الخليج كافة، وقال عنه النقّاد إنه "خلّد كل من شارك فيه من ممثلين"، أمثال نجاح حفيظ (بشخصية فطوم حيص بيص) وناجي جبر (بشخصية أبو عنتر) وياسين بقوش (بشخصية ياسينو)، إضافة طبعاً لنجومه الأصليين دريد لحام (غوار الطوشة) ونهاد قلعي (حسني البورظان). بعد نجاح المسلسل، تبعه سهرة تلفزيونية متمّمة سنة 1973، سُمّيت "ملح وسكر"، ولعب فيها فتحي دور "أبو كلبشة" مجدّداً، ثم جزء ثانٍ للمسلسل وفيلم سينمائي حمل نفس الاسم.
وذات يوم أوقف عبد اللطيف فتحي كاتب المسلسل نهاد قلعي وقال له: "سامحك الله، بعد أربعين سنة شقاء على المسرح، الناس توقفني في الشوارع وتناديني ببدري أبو كلبشة. لقد تغلب هذا الدور على كل مسيرتي المسرحية بالمطلق".
وهي موتة!
في العودة إلى حرب 1967 ومطالبة عبد اللطيف فتحي بتقديم عمل جاد عن السياسة والوطنية، بعيداً عن الكوميديا. رفض الدخول في أي عمل سياسي، ولكنه قَبِل التحدي من حيث الخروج عن النمط الكوميدي الذي عمل به طوال حياته. وفي 30 كانون الأول 1976، قدّم مسرحية "الملك لير"، الذي لعب فيها دور الملك التراجيدي الأشهر في أعمال شكسبير.
كان في تحدٍّ مع منتقديه ومحبيه ومع ذاته، بأنه فنان متعدد المواهب، وسيع الأفق والقدرات، باستطاعته تقديم شخصيات معقدة ومختلفة. أذهل الجمهور بشخصية الملك لير، ولكنه وفي نهائية العرض، خرج الكوميديان الذي في داخله، وعند مشهد وفاة الملك، نظر عبد اللطيف فتحي إلى الجمهور وهو يسقط، وخاطبهم باللهجة المحلية التي طالما عرفوه بها قائلاً: "أي... وهي موتة!".
وقد توفي عبد اللطيف فتحي بعد هذا العرض بسنوات قليلة، يوم 8 آذار 1986.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي