منذ بداية الأزمة السورية، لم أكن أُبدي إلا تفاؤلاً حقيقياً تجاه ما سيحصل في المستقبل. وكثيراً ما حدث، ويحدث حتى اليوم، أن يسألني أحد أصدقائي محقاً عن دواعي "تفاؤلي التاريخي"، وأسبابه.
الواقع مؤلم والحال مرّ في سوريا اليوم. ويكاد يكون الحديث عن التفاؤل في حال كهذا، معيباً ولا أخلاقياً، سيما عندما يأخذ المرء بعين الاعتبار حجم المعاناة التي تكبّدها الشعب السوري، والتي أنكهت عقله وروحه وجسده، وتكاد تفقده صوابه، هذا إذا بقي شيء من الصواب أصلاً.
على الرغم من ذلك، أكتب هنا لأضع القارئ في الصورة الحقيقية الواضحة، وغير الخفيّة، للتفاؤل الذي أبديه، والذي أدعو الجميع إليه. وفي حال حالفني الحظ، ونجحت في بثّ روح التفاؤل فيكم، فإن هذا سيكون في تقديري فعلاً ثورياً من العيار الثقيل، بل وربما من أشدّ الأفعال ثوريةً في هذا العصر الذي اشتدّ فيه الألم، وارتقى الحزن ليصبح مقاماً في لحن أنشودة الحياة.
أعلم جيداً أن الكلام والكتابة وحدهما لا ينفعان أمام معاناة بهذا الحجم. ولأن توصيف الواقع والركون إليه لم يكن حلاً في أي يوم من الأيام، فمن الجيد الانتقال في التعاطي مع الواقع من عتبة توصيفه والركون إليه، إلى تفسيره تمهيداً للتحكم فيه، ثم تغييره من خلال العمل المنظم. وهذا الأخير يحتاج بطبيعة الحال إلى أن يمتلك الإنسان الحد الأدنى المطلوب من التفاؤل الذي يشكل دافعاً حقيقياً للعمل من أجل الحل.
الواقع مؤلم والحال مرّ في سوريا اليوم. ويكاد يكون الحديث عن التفاؤل في حال كهذا، معيباً ولا أخلاقياً
من وجهة نظري، يمكن بناء التفاؤل بشكل علمي يستند إلى وقائع عالمية ملموسة من جهة، وإلى قراءة اللحظة التاريخية التي تمرّ بها البشرية وفهمها من جهة أخرى، والتي لا تعدّ سوريا، ولا غيرها، استثناء فيها.
في الحديث عن الوقائع العالمية الملموسة، تبرز واقعتان على مستوى عالٍ من الأهمية: الأولى هي التوازنات الدولية الجديدة التي تؤسس لمرحلة ما بعد الهيمنة الأمريكية على العالم، والتي تفتح الأفق نحو منظومة دولية جديدة، يصطدم مشروعها بالضرورة مع المشروع الغربي، وما حمله من نهب لشعوب البلدان كلها، وظلم وحروب، وبالأخص بلدان "العالم الثالث" بما فيها العالم العربي. وهذا يشكّل بارقة أمل جديدة للشعوب التي تسعى إلى تقرير مصيرها بنفسها بعيداً عن الإملاءات الخارجية، وإلى بناء دولها الوطنية التي تضع كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار.
أما الثانية، الناتجة عن الأولى والمرتبطة بها، فهي قرار مجلس الأمن رقم 2254 المتعلق بحل الأزمة السورية، والذي يؤسس في جوهره لبناء سوريا الجديدة عبر سلسلة من الإجراءات المترابطة والمتعلقة بالدستور، والمجالس الانتخابية، وشكل الحكم المطلوب، بما يتطلبه ذلك من آليات وطنية ديمقراطية مطلوبة على المستويات جميعها.
بشكل مباشر وأكثر وضوحاً، أعتقد أن مجرّد وجود القرار 2254 يعني أن هناك إمكانية حقيقية وموجودة موضوعياً لفتح أبواب حل الأزمة السورية. والمهمة التي تقع على عاتق الشعب السوري، وقواه الوطنية، اليوم، هي الدفع بشدة في اتجاه تطبيق القرار، والقتال من أجله، لتحويله من مجرد إمكانية موجودة موضوعياً، إلى إمكانية معززة تشق طريقها بقوة وسرعة عالية لتصبح أمراً واقعاً. وبهذا المعنى فإن التوازنات الدولية الجديدة اليوم هي فرصة تاريخية وذهبية تقدمها الحياة للشعب السوري، وعليه أن يقبض عليها بيده بشدّة وإحكام، لتكون سلاحاً فعالاً في معركته ضد أعداء الداخل والخارج.
التوازنات الدولية الجديدة اليوم هي فرصة تاريخية وذهبية تقدمها الحياة للشعب السوري، وعليه أن يقبض عليها بيده بشدّة وإحكام، لتكون سلاحاً فعالاً في معركته
ربما يصبح التفاؤل أكثر وضوحاً ومشروعية عند ربطه باللحظة التاريخية التي تعيشها البشرية الآن. تتحدد الملامح العامة للحظة التاريخية التي أتحدث عنها هنا من خلال قضيتين جوهريتين: الأولى، وهي المنظومة الرأسمالية المأزومة اليوم حتى الصميم، وتعيش أزمتها الأخيرة التي ستقودها إلى النهاية التاريخية كما تشير إحدى التنبؤات العلمية الجريئة، الأمر الذي يفتح الطريق أمام البدائل لكي تظهر وتغيّر وجه العالم في اتجاه حياة جديدة للبشرية. والقضية الثانية هي صعود الحركة الشعبية على مستوى العالم، بعد عقود من الركود. تلك الحركة التي بدأت خطواتها الأولى منذ مطالع القرن الحالي، والذي يشير ميلها العام إلى صعود مستمر في المحصلة النهائية، الأمر الذي ينبئ بأن القادم في الحركة هو مزيد من الصعود، ومزيد من التنظيم في السير نحو تحقيق الأهداف.
إن اللحظة التاريخية المحددة بصعود الحركة الشعبية من جهة، وبانفتاح طريق البدائل من جهة ثانية، تُشعل ضوءاً جديداً في نهاية النفق المظلم الذي عاشت البشرية فيه عقوداً طويلة مؤلمة.
وأجد أن أحد الأمثال الشعبية الروسية يساعدني في إيصال الفكرة التي أريد قولها هنا حول التفاؤل، إذ يقول المثل ما معناه: "لا يوجد أسوأ من الواقع الحالي في رأي المتشائم، أما المتفائل فيقول: لا بل يوجد ما هو أسوأ منه". في محاولة لفهم المثل، يمكن القول إن المتشائم هو من يعتقد بأن الوضع قد وصل إلى دركه الأسفل من السوء، إلى الجحيم الذي ينعدم عنده وجود أي إمكانية للعمل والتفاؤل، ولذلك فهو متشائم. أما المتفائل فهو من لا يرى في واقعه الحالي واقعاً مطلق السوء، ويرى أن هناك ما هو أسوأ منه، وتالياً فإن إمكانية العمل لا تزال موجودة ومتاحة له، لأنها تحميه من الأسوأ القادم، ربما.
بناءً على جميع هذه المعطيات أصيغ تفاؤلي، ويحضر في ذهني دوماً ما قاله الشاعر ناظم حكمت: "أجمل الأيام هي تلك التي لم تأتِ بعد". عموم الشعب السوري مدعوون أيضاً، ليس إلى التفاؤل فحسب، بل وإلى الاستعداد للمعارك السياسية الحقيقية القادمة، لأن "كل ما هو آتٍ قريب، وللأرض من كل حي نصيب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...