“لولا عُمّال التوصيل “الديليفري”، لكان الإغلاق العام في بيروت أسوأ ممّا كان”. بهذه الكلمات يعبّر وسيم عن امتنانه لهؤلاء الشبان المنتشرين في زوايا المدينة، لا سيّما السوريون منهم، الذين يتجوّلون بدرّاجاتهم في شوارع أشبه بالشبكة العنكبوتية، لا أرقام لها، متعرّجة، متداخلة، ضمن مدينة غاب التنظيم عن أجزاء كثيرة منها، ليحملوا طلبات على أنواعها إلى منازل الزبائن، حتى في أحلك ظروف الإقفال العام بسبب جائحة كورونا.
اعتاد هؤلاء الشبّان التحرّك في طرقات بيروت وأحيائها، بعد أن أصبح لكلِّ واحدٍ منهم خريطته الخاصة للمناطق، منها المفضّلة لديه أو غير المفضّلة، كما” الآمنة” أو “الخطرة”، يصنّفونها حسب تجاربهم الشخصية وآرائهم في تقسيمات المدينة السياسية والطائفية والطبقية.
لولا عُمّال التوصيل “الديليفري”، لكان الإغلاق العام في بيروت أسوأ ممّا كان
يفضّل معظمهم إيصال الطلبات إلى الأحياء ذات الأبنية الفخمة كالروشة وتلّة الخياط، أو إلى الأشرفية ومحيطها، والسبب: “ما في مرّة رحت لهونيك إلّا ورجعت ومعي إكراميّة” وفق ما يجيب إبراهيم عبود، الذي يعمل “ديليفري” منذ أربع سنوات في محل سندويش شهير في الحمرا.
بالمقابل، يتجنّبون المناطق التي يشعرون أنّها غير آمنة كي لا يقعوا فريسةً للـ“زعران” أو لحوادث التشليح. يقول محمود الشيخ العامل في شركة توصيل طلبات: “في إحدى الليالي، لحق بي ثلاثة أشخاص على درّجاتهم النارية، ولم أستطع الإفلات منهم إلا بعد أن هربت إلى مشارف بعبدا قرب حواجز الجيش”.
طراد العيسى، عامل توصيل ضمن سوبرماركت في منطقة الحمرا، بيروت
البدايات الصعبة
هؤلاء العمال، في غالبيتهم، غادروا بلدهم هرباً من الحصار والجوع، فإذا بهم يعملون في مجال تأمين الطعام، وغيره من الطلبات، إلى سكّان المدينة، متحدّين ظروف الحرّ والبرد والمطر، وصعوبات أخرى شتّى كصعود الأدراج، في الأبنية القديمة المترهّلة وغير المزوّدة بمصاعد كهربائية أو في تلك التي يصلونها في أوقات انقطاع التيار الكهربائي. وفي الغالب، لا يحصلون، لقاء عنائهم، سوى على زيادة قليلة جدّاً على الفاتورة.
لقد تعرّفوا على طرقات المدينة ومعالمها الرئيسية من خلال شبكة المعارف والأقرباء الذين سبقوهم إليها. يشرح محمود محمد الذي أتمّ عشر سنوات كعامل توصيل كيف أنّ أخاه العامل في المطعم، دربّه على هذا العمل بعد أن تمكّنا من شراء درّاجة نارية واستحصلا على الأوراق النظامية التي تخوّله قيادتها. “البداية كانت صعبة، فلم أكن أعرف كلّ المناطق، وكنت اسأل كثيراً لأصل إلى العنوان المطلوب. بعض الناس لا يرغبون بالمساعدة، وبعضهم الآخر لا يعرف المناطق”. أمّا اليوم، فلا يعتمد محمود لا على طرح الأسئلة ولا على تطبيقات الهواتف الذكيّة للوصول إلى هدفه، بعد أن حفظ بيروت مثل كفّه.
هؤلاء العمال، غادروا بلدهم هرباً من الحصار والجوع، فإذا بهم يعملون في مجال تأمين الطعام، إلى سكّان المدينة، متحدّين ظروف الحرّ والبرد والمطر
أمّا طراد العيسى، وهو ثلاثيني وربّ أسرة، فتدرّج بالعمل في سوبرماركت حتى وصل به الأمر إلى الديليفري بعد أن تعب من المهام الموكلة إليه داخل المحل. لقد بدأ العمل بالتنظيف ونقل البضائع والشغل لساعات طويلة قبل أن يأخذ المبادرة ويستلم مهام التوصيل. “من حيث الراتب، فإنّ العمل داخل المحل أفضل من خارجه، لكنني تعبت من تحميل البضائع وتوضيبها. لذلك، ورغم محدوديّة الراتب الذي بالكاد يكفيني لأدفع إيجار بيتي وتأمين مصروف عائلتي، أفضّله على غيره من الأعمال. ففي أيّ وقت، أشغِّل درّاجتي النارية وأذهب بها إلى أيّ مكانٍ أريده”.
الإكراميّة في العمل
يُجمِع عمّال التوصيل على أنّ الإكراميّة أو Tips هي الحافز الذي يجعلهم يستمرّون بهذا العمل. ترتسم على وجه إبراهيم الذي يبلغ الثالثة والعشرين من العمر، إبتسامة عريضة حين يتذكَر أعلى إكراميّة حصل عليها. لقد كسب 71 ألف ليرة إثر إحدى التوصيلات إلى فندق في بيروت، ما يوازي ضعفَي أجره اليومي.
بدأ إبراهيم العمل في ورش البناء، فكانت تلك الأعمال صعبة وفيها تعب كبير، ومعاشها أقلّ بكثير من عمل الديليفري، ويشرح: “كان أجري اليوميّ لا يتجاوز 30 ألف ليرة. أمّا اليوم، وبفضل الإكراميّات، أحصل على ضعفَي المرتب الشهري الذي كنت أتقاضاه من تلك المهن الشاقة”.
إبراهيم عبود، 23 سنة، عامل توصيل ضمن محل سناك في منطقة الحمرا، بيروت
يرنّ جرس المطعم معلناً جهوزية إحدى الطلبيّات، وعلى أحد الشبّان أن يذهب لتوصيلها. يتدخّل عبد الكريم محمد الذي انتقل أيضاً من العمل في ورش البناء إلى مهنة التوصيل ليضيف أنه بات يستشعر إذا كان سيحصل على إكراميّة أو لا من كيفية استقبال الزبون له. “إذا كان يبتسم كثيراً في وجهي، فلن أحصل على شيء (بيكون بدّو ياخدني بالعبطة). بالنسبة لي، ليست هناك علاقة بين زبون يعيش في بناية فخمة وبين حصولي على إكراميّة أعلى، فكثيرون منهم لا يتركون لي زيادة على قيمة الفاتورة”.
يتّفق جميع الشبّان على أنّ التوصيلات الليليّة فيها بقشيش أكثر، لأنها طلبيّات تصل إلى بيوت الناس الساهرة أو إلى الفنادق والسيّاح. يتحدّث محمود الشيخ، بابتسامته العريضة، عن يوم سعده حين أنهى عمله باكراً وعاد إلى بيته بعد أن كسب من إحدى التوصيلات 10 دولارات، أو ما كان يعادل حينها 150 ألف ليرة لبنانية في ظل الانهيار الاقتصادي حين وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 15 ألف ليرة واليوم يلامس الـ 18 ألفاً.
المخاوف والمخاطر اليوميّة
تشير دراسة بعنوان “اللاجئون صانعو المدينة” إلى أنّ توقيف سائق الدرّاجة وتغريمه واحتجازه لليلة في مخفر الشرطة أو خسارته للدرّاجة وسرقتها هي من أبرز أوجه عدم الحماية التي يختبرها كلّ من يعمل في هذه المهنة، بالإضافة إلى القيود التي تفرضها وزارة الداخلية للاستحصال على رخصة القيادة. ومن هذه الشروط، تأمين الإقامة القانونية والأوراق النظامية التي يصعب الحصول عليها. كلّ ذلك يعزّز هشاشة عيش عمّال التوصيلات السوريين في مدينة باتوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من حياتها.
لذلك، يوازن هؤلاء بين مهارتهم في حفظ جغرافية المدينة وبين أساليبهم في تجنُّب الحواجز الأمنية والغرامات العشوائية، لينشأ بينهم نوع من التضامن، يتجلّى في كثيرٍ من الأحيان بتحذيراتٍ مسبقة ينشرونها فيما بينهم ويتبادلونها حين يصادفون حاجزاً للتفتيش.
أعيش في بيروت منذ زمن طويل، وأطفالي يدرسون في مدراسها. أنا سوري ولكني حزين على هذا البلد الجميل. لقد خربوه
لكنّ أسوأ المخاوف التي قد يختبرها عاملو التوصيل تتلخّص بالتعرّض للسرقة أو “التشليح”. يشير محمود الشيخ إلى أنّ ثمن درّاجته وهاتفه، إضافةً للمبالغ المالية التي قد تكون بحوزته قبل تسليمها، قد يصل مجموعها إلى ألف دولار، فإذا خسرها في لحظة تشليح، فسيعود إلى الصفر وما تحت الصفر، ولن يستطيع تعويض الخسارة ولا حتى بعد سنة كاملة من العمل.
لذا، كثيراً ما يتجنّب السائقون المناطق التي تحدث فيها توترات أو تحرّشات قد تعرّضهم للمساءلة حول جنسيتهم أو طائفتهم، ليستخدموا زواريب مخفية ويجتازوا حارات متوارية، في سبيل ضمان توصيل الطلبية إلى العنوان المطلوب في الوقت المحدّد. في حين يلجأ البعض الآخر إلى تغيير لهجته وأسلوبه في الكلام ليستخدم مفردات أهل المنطقة التي يقصدها، مثل كلمات الترحيب بالفرنسية والإنكليزية ليردّ بها على زبائنه، أو كلمات كـ “مرحبا” أو “السلام عليكم” مع زبائن آخرين.
محمود الشيخ، عامل في شركة توصيل طلبات، بيروت
أمنيات ورغبات مشتركة
يخبرنا إبراهيم عن لحظات اعتزازه بنفسه حين يسأله أحدهم عن مكان ما، فيزوّده بالتوجيهات اللازمة ويرشده إلى الطريق الصحيح. “اللبنانيون لا يعرفون المناطق والطرقات في بيروت، فحين أساعد أحدهم للوصول إلى مقصده، أبتسم لفكرة أنّ ابن البلد يسألني أنا السوري الغريب. ولكنني حقاً أعتبر لبنان بلدي الثاني. فقد تربّيت واشتغلت فيه وتعرّفت على شباب رائعين”. يختم حديثه بغصّة عابرة وهو يركب درّاجته لتوصيل إحدى الطلبيات: “بيروت حلوة وستظلّ سويسرا الشرق رغم كل ما تتعرّض له”.
يشاركه في حسرته طراد العيسى، العامل في السوبرماركت، والمقيم في لبنان منذ العام 2003: “يحزنني كثيراً ما يحدث اليوم، فأنا أعيش في بيروت منذ زمن طويل، وأطفالي يدرسون في مدراسها. أنا سوري ولكني حزين على هذا البلد الجميل. لقد خربوه”.
يوازن العمال بين مهارتهم في حفظ جغرافية المدينة وبين أساليبهم في تجنُّب الحواجز الأمنية والغرامات العشوائية، لينشأ بينهم نوع من التضامن
“لبنان هو بلدي الثاني، وأنا ممتن لأنني أعيش فيه وآكل من خيراته. حتى أنني لا أفكر اليوم بالعودة إلى بلدي سوريا” يختم محمود الشيخ وهو يبدو قلقاً بسبب ما آلت إليه أحوال البلد، ولأنّ مهنته لا تضمن له مستقبلاً آمناً.
ورغم أن مهنة “الديليفري" هي الأكثر تفضيلاً بين فئات العاملين السوريين في لبنان، فهي تتطلب مجهوداً أقل من أعمال الزراعة أو البناء، كما أن حجّة "توصيل الطعام" تمنح هؤلاء وقتاً أطول لاكتشاف المدينة وحاراتها وبيوتها الأثرية والتهرب من رقابة المدير. إلا أن مخاطرها حاضرة وتتمثل بقيادة دراجة نارية في بيروت، حيث يمكن لسائق متهور أن يعرض حياة عامل التوصيل لشتى أنواع الإصابات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون