شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ما أنا بقارئ"... تأوّلات على عبارة نيون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 12 يوليو 202109:48 ص

استضاف مركز الفنون في ضاحية مالاكوف القريبة من باريس، معرضاً جماعياً بعنوان "في مكان ما بين الصمت والأحاديث"، شارك فيه عدد من الفنانين الذين سبق لهم أن عملوا/ ولدوا/ زاروا الجزائر، وهناك حاولوا "الإنصات" لالتقاط الظاهرة اللغوية في الجزائر، وتاريخها المعقد والمتشابك، سواء كنا نتحدث عن الفرنسية، العربية أو الأمازيغية.

يظهر "الإنصات" كتقنية لرصد التشعب والتنوّع وموقف الفنان الذي "يستمع" لما "يُقال" من حوله، ثم يحاول أن ينتج "صوته" الخاص، أو ذاك الصوت القادر على مخاطبة الجميع، والذي يتجلى بشكل أبجدية صوتية مُبتدعة أنجزها الفنان وليد بوشوشي، الذي يدمج الأحرف العربية والأمازيغية واللاتينية، مقدماً لنا 41 رمزاً صوتياً جديداً، قادرة (ربما) على التقاط اللهجة والتاريخ والتنويعات والتداخلات اللغوية في الجزائر.

أكثر ما شدّ انتباهنا في المعرض، هو أعمال الفنان عادل بن تونسي، بصورة أدق، اللوحة النيونية التي لا يمكن إغفالها حين دخول المعرض والتي تُضيء عبارة "ما أنا بقارئ"، وأول ما يثير التساؤل، هو ترجمتها للفرنسية المكتوبة في وصف العمل بالشكل التالي: "je ne sais pas lire"، والتي لمن لا يستطيع قراءة اللوحة العربية، سيكون المعنى الحرفي: "لا أعرف القراءة".

من اللافت في معرض"في مكان ما بين الصمت والأحاديث"، الذي شارك فيه عدد من الفنانين الذين سبق لهم أن  ولدوا/ زاروا الجزائر، هو أعمال الفنان عادل بن تونسي، وبصورة أدق، اللوحة النيونية التي لا يمكن إغفالها حين دخول المعرض والتي تُضيء عبارة "ما أنا بقارئ"

يشير كاتالوج المعرض إلى هذا العمل، ويتبنى واحدة من النسخ المرتبطة بهذه العبارة القرآنية الشهيرة، إذ نقرأ كيف نطقها محمد بن عبد الله حين جاءه جبريل للمرة الأولى (هناك اختلاف حول أول ما أنزله الوحي)، ويُشار أيضاً أن جبريل حضر في "منام" مع "الكتاب المقدس"، وأمر بن عبد الله بـ"القراءة"، فكان الجواب الأخير بأنه لا يجيد القراءة، وبدأت بعدها رحلة التلقين طوال البعثة.

يشير الكاتالوج أيضاً إلى أن معنى كلمة قرآن هو "اقرأ بصوت عال" أو "كرر ما قيل سابقاً بصوت عال"، وأن هذا العمل محاولة الفنان أن يتماهى مع شخص النبي "الذي لا يقرأ"، في إحالة إلى أن بن تونسي فنان خارج الضوابط الفنية، وسبق له أن أحرق أعماله احتجاجاً على الوضع المتردي للفنانين في عنّابة، ليأتي هذا العمل أشبه بوقوف بن تونسي أمام مرآة يرى فيها نفسه صدى لنبي وحيد في المغارة.

علاقة التماهي (أو الانعكاس) بين "الفنان" و "الوحي/ الجني"، يشير إليها جورجيو أغيمبين في كتاب له بعنوان (profanations/ تجديفات) إذ يتحدث عن دور الجني/ العبقري في تهديد "الأنا"، تلك التي تصارع الجني من أجل أن تُظهر فرادتها في ذات الوقت تحول احتواء "العبقرية" وما تمليه من جمال ومعرفة، فالعبقرية والجني المرتبط بها (ذات الثنائية في معنى كلمة عبقري في التراث العربي)، تفترض وجود كيان (غريب) يلتبُس داخل الفنان، يهمس له أو يصرخ فيه، داعياً إياه لـ"العمل" أو "الكلام".

فالعبقرية، أو "مسّ الجنّي" نداء موجه لهذه "الأنا"، يحاول أن يقنعها بأنها إما أكثر أو أقل مما هي عليه، ومهمة الجني/ العبقري، هي دفع حدود هذه الأنا لتعبر عن ذاتها (أو ذات الجنّي؟) في ذات الوقت محاولة للحفاظ على استقلالها، وهنا بالضبط تظهر الصراعات الإبداعية، وبصورة أخرى سؤال: من المؤلف؟ الجنّي/ الوحي، أم الفنان/ النبي؟

يحمل عمل بن تونسي واحدة من خصائص النيون آرت الأشد وضوحاً وجدلاً، فالضوء الأزرق في "ما أنا بقارئ" لا يرفّ، هو مستمرّ لا يتقطّع، علامة على التدفق الدائم للزمن وحركة الإلكترونات في الأسلاك حد الإشعاع، هذا الثبات يمكن قراءته كثبات في المعنى الذي تبناه بن تونسي وذكرناه سابقاً، جواب صارم لا يختلف ارتجافه بالزمن، تصريح علني دائم: "أنا لا أجيد القراءة"، "أنا النبي الذي لم يقرأ كتباً".

طرح سؤال الوحي أمام فنان ورفض الأخير الإجابة يعني رفضاً للتاريخ الفني السابق، وما "قيل" وما "دُوّن" وما "صُنع"، فكله لا يحمل أي أهمية لأنا الفنان المتفردة، تلك التي ترى في كلّ عمل شخصي، مُنتجاً أصيلاً لا يتكرر

لكن، إن تدفق الزمن في الأسلاك، فهو متقطّع في وعي المتلقي المختلف دوماً، خصوصاً أن هذه العبارة تستفز قارئ العربية وتحرّك فيه الحكايات والنصوص وأزمنتها و ألاعيب اللغة النحوية، خصوصاً حين نراها بشكل نيوني، مسحوبة من سياقها المقدس (الذي لا يرف شكلاً)، ومجهزة لتكون إشارة ضوئية تشع وضوحاً وتؤشر إلى ذاتها، وما يدفع للتأمل هو المعنى الفرنسي "لا أجيد القراءة"، العاجز تماماً عن على التقاط تنويعات المعنى باللغة العربية.

تلك التأويلات التي يمكن أن نقرأ فيها العبارة السابقة والصراع بين "الأنا" و"الآخر الماورائي" على مستويين، الأول هو العلاقة بين الفنان نفسه وعبقريته، والثاني العلاقة بين النبي ووحيه، أي مرآة يتبادل عبرها من يقفان على طرفيها (الواقع والانعكاس) التحديق والخصائص.

"ما أنا بصانع": الأداة أولاً، لا الوحي

هناك تشابه بين الفنان والنبي حين يحدّقان ببعضهما البعض، كلاهما ينتظر القادم من "أعلى" وما يتجاوزهما عقلاً وجسداً، فأمر "اقرأ" الذي نطقه الوحي، ردّه النبي بعبارة "ما أنا بقارئ"، وبعيداً عن حكاية النبي الأمي الذي لا يجيد القراءة، يمكن أن ننظر للعبارة بوصفها تعجّباً، فجبريل لم يأت حاملاً معه كتاباً حقيقياً، بسطه أمام محمد بن عبد الله في غار حراء. هنا تظهر "ما أنا بقارئ" بمعنى: "ما الذي سأقرأه؟"، لا شيء أمامي لأرتله عالياً.

يشابه استغراب النبي وحيرته، ما يحصل مع الفنان حين يُطلب منه التالي: "اصنع فناً". ليكون الجواب: "ما أنا بصانع"، أي ما الذي يمكن أن أصنعه ولا شيء أمامي، وحيداً في عزلة مفترضة، أداري أحلامي وتهويماتي الشخصية.

عزلة الفنان هذه والإصغاء إلى "الوحي" (الكلمة المستخدمة في السياق الديني والفني تحمل ذات المعنى)، قد لا تنتج فناً/ قولاً، كما أنها لا تنتج "ما يُقرأ"، كحالة النبي في المغارة الفارغة، فهو والفنان فوجئا بأن الوحي لم يجلب لهما شيئاً، وهنا يظهر سؤال الوحي/ الجنّي العبقري استفزازياً: "اصنع ما يستحق أن يرتل عالياً، الآن وهنا، وأمامي، أنا العلوي، دون أن يكون هناك أحد ليشهد أو يستمع".

"ما أنا بعارف بمن سبقني": فردانية النبي/ الفنان ضد التاريخ

هناك معنى آخر تحويه العبارة القرآنية، يرتبط بمفهوم الأمي، والذي يُقال إنه ذاك الذي لا كتاب مقدّس له، إذ يُقال إن "العرب أميون"، أي لا كتاب مقدس نزل عليهم قبل القرآن، فإن كان الآخرون هم أهل الكتاب، فالعرب بلا كتاب، أي أميون، كحالة نبيهم.

هنا نعود لشأن الوحي ضمن المعنى السابق، إذ يبدو أن جبرائيل استعرض "الكتب" أمام النبي في الغار، وطلب منه أن يقرأ ويرتل واحداً منها، فكان الجواب: "ما أنا بقارئ"، أي هذه الكتب لا شأن لي بها، ولم/ لن أقرأها.

يُمكن التأوّل على "ما أنا بقارئ!" إن أعدنا النظر في كلمة اقرأ، وأصلها السرياني (قريانا)، أي رتّل بصوت عال

مقارنة ما سبق مع حالة الفنان، تكشف لنا عن علاقته مع تاريخ الفن، إذ ينتصر الفنان للمخيلة الذاتية والوعي الجسدي، ويراهن على "أناه" و"حقيقته" (حسب ناتالي هانيش)، نافياً ما قبله من احتمالات التشابه والاقتباس، مُصدّراً الحقيقة من جسده فقط، فما ينجزه/ يقوله هو المختلف حكماً عما سبق، سواء كان يدرك ذاك السابق أو لا يعرفه.

طرح سؤال الوحي أمام فنان ورفض الأخير الإجابة يعني رفضاً للتاريخ الفني السابق، وما "قيل" وما "دُوّن" وما "صُنع"، فكله لا يحمل أي أهمية لأنا الفنان المتفردة، تلك التي ترى في كلّ عمل شخصي، مُنتجاً أصيلاً لا يتكرر ولا يتشابه، أما ما سبقه، فلا يستحق حتى الذكر بصوت عال.

"ما أنا بمكرّر ما سبق": ضرورة الاختلاف في رسالة الوحي/ الجنّي

يُمكن التأوّل على "ما أنا بقارئ!" إن أعدنا النظر في كلمة اقرأ، وأصلها السرياني (قريانا)، أي رتّل بصوت عال، ويفترض هذا المعنى معرفةً سابقةً وحفظاً عن ظهر قلب لما كُتب سابقاً، وهنا يأتي سؤال/ أمر الوحي "اقرأ" بوصفه اختباراً للمعارف السابقة والقدرة على استرجاعها، أما الرد "ما أنا بقارئ"، فهو تحد للوحي نفسه واختباره، وكأن النبي الذي تمرّن على النسيان (القاعدة الأشهر من أجل الإبداع) بانتظار الجديد خاب أمله، فـ"ما أنا بقارئ"، قد تعني أنه لا يوجد ما يستحق تكراره وقوله، و كأنه طلب من الوحي نفسه، أن آتني بالجديد لأكرره علناً وسراً لأني "نسيت" كل ما سبق أن عرفته بانتظارك.

أما فيما يخص الفنان وصورته النبوية في المرآة، يظهر هذا التفسير/ الرد كتحد لمفهوم الوحي، أو بصورة ما، امتعاض من الخذلان الذي يمكن أن يسببه الوحي/ الجنّي، إذ لا يقين مما سيقدمه (هذا إن قدّم شيئاً) للنبي/ الفنان الذي ينتظر ويتمرن في عزلته. هو أيضاً رفض تمارسه "أنا" الفنان، التي لا تريد أن تتحول إلى مجرد بوابة لعبور الرباني/ العبقري، الرفض هنا، محاولة لاستقلال الفنان عن الوحي، والدفاع عن فرادته النابعة من وعيه بمكانته كمُبدع وصاحب حقيقة، لا مجرد وعاء لاحتواء الوحي/ العبقرية.

"ما أنا بُمحدثٍ نفسي فقط": لا بد من مستمع وإلا ضاع الصوت

إن سلّمنا أن "اقرأ" تعني الترتيل علناً وبصوت عال، فرفض النبي في هذه الحالة، قد يكون لسبب بسيط وبراغماتي، ألا وهو غياب الآخرين والمستمعين، فلمن يُرتَل إن لم يكن هناك من سيستقبل الصوت، ومن سيعتبر ويتفكّر، والأهم، يُسائل على هذا الذي يُقال علناً؟

يظهر الجواب "ما أنا بقارئ" إن كرّره الفنان أمام مرآته بوصفه استغراباً من السؤال نفسه، لمن أصنع الفنّ؟ ولمن أرتل؟ وأمام من أتحدث؟ والأهم، بأي لغة؟ بأي لسان أقول ما لدي إن لم يكن هناك اتفاق على الكلام نفسه؟

ربما تكون الترجمة الفرنسية "لا أعرف القراءة" هي المعنى بدرجة صفر ، عبارة فارغة، متكررة عبر التاريخ لكنها تختزنه، تعكس خطاب الفنان/ النبي المُحتار فيما يقول ولمن يقوله

فكل اختلاف في القراءة والتأويل، كما في حال المقال هذا، يفترض معنى جديداً، ربما، يبحث الفنان دون جدوى عن "لسان" يفهمه الجميع، أسلوب للتعبير يأتي من "أعلى"، قادر على الوصول إلى الآخر واستفزازه ليفكر ويطرح الأسئلة، الأمر الذي لن يترك أثراً لدى من لا يجيد العربية. "ما أنا بقارئ" على لسان الفنان في المعرض السابق، ربما تعني اختناقه الذاتي، إذ يتحرّك بين لغة مختلطة، وحي يأمر، تاريخ يصنّف، وغار/ معرض لا أحد فيه يفهم ما يُقال، لا انتقاصاً من العمل نفسه بل بسبب اللسان وتعدد أحواله.

ربما تكون الترجمة الفرنسية هي المعنى بدرجة صفر "لا أعرف القراءة"، عبارة فارغة، متكررة عبر التاريخ لكنها تختزنه، تعكس خطاب الفنان/ النبي المُحتار فيما يقول ولمن يقوله، وكل ما سبق من تأويل ونيون وحذلقة لا يمكن أن يتسع إلا في عبارة واحدة، تنفي بالضبط ما هو مكتوب، وتراهن على الشفاهي وتنوعاته واختلافاته، والأهم، ألسنته السبعة المفقودة.

ملاحظة: يحوي المعرض عملاً آخر لبن تونسي، هو منحوتة تتألف من مكبر صوت مملوء بالأسمنت بعنوان "الكلام المخنوق".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard