يأتي هذا المقال ضمن تعاون مع مجلة Arts Asia Pacific التي تعنى بتغطية الفن المعاصر والأحداث الثقافية في سبع وستين بلداً ضمن آسيا والمحيط الهادي والشرق الأوسط، ويمكن الاطلاع على نسخة المقال الإنكليزية، بعنوان "“GOHYANG: HOME” AND THE NON-WESTERN GAZE" بقلم هاري تشوي HARRY C. H. CHOI في عددها 117 مارس/أبريل من عام 2020.
هو الإصدار الثالث من سلسلة معارض متحف سيول للفنون، الذي يتناول الفنون اللاغربية. فبعد أن أضاء المعرض الافتتاحي في عام 2015 على أفريقيا، وتلاه في عام 2017 بالإضاءة على أمريكا اللاتينية، قدم في عام 2019، الفن المعاصر من الشرق الأوسط والعالم العربي.
فبينما تعرض اليوم التقاريرُ الإخبارية الصراعات المتباينة في هذا الجزء من العالم، وتذكّرنا بالخلفية الاجتماعية والتاريخية المعقدة للمنطقة، ومع أزمة اللاجئين العالمية التي بدأت تشهدها كوريا الجنوبية في عام 2018، مع وصول حوالي 500 مواطن يمني إلى جزيرة جيجو من خلال نظام الدخول بدون تأشيرة، قفز الجمهور الكوري الجنوبي على عجل إلى استنتاجات مخيفة حول هؤلاء الوافدين الجدد، مستوحاة من الخطاب الشعبوي المتزايد ضد اللاجئين في الخارج، وبما أننا نسيء فهم ما نجهله، فقد شكل سوء الفهم هذا معظم الانطباعات عن هؤلاء الغرباء.
يشير عنوان المعرض إلى المعنى الجغرافي للوطن باللغة الكورية “Gohyang: Home”، إلا أنّ أعماله تمتد لتشمل عالماً افتراضياً يجعل التغلب على الشعور بالفقدان والعزلة أمراً ممكناً، ضمن المنطق الغريب لنزعة الاستقرار وغموض بواعث الحنين.
عن المعرض
يتكوّن المعرض من أربعة أقسام معنونة وموزعة على طابقين من متحف سيول للفنون. في البداية، يتعامل قسم "النصب التذكاري" مع الصراع المعروف بين فلسطين وإسرائيل، من خلال وثائقي فوتوغرافي، صورة أرشيفية للذاكرة وتراكيب متعددة الوسائط "multimedia"، تعتمد على خبرات خاصة، وتطرح مسائل تصوراتنا ومعتقداتنا تجاه الظروف المحيطة بالعالم العربي. الجزء الثاني من المعرض بعنوان "ما يكوّننا"، يدرس كيفية سبر الروابط الجماعية الناتجة عن ممارسة الطقوس، الذي يمكن أن يعتبر مقياساً لمشاعر في حالتها المثالية، مثل مشاعر الخسارة أو النقص التي تتم استثارتها داخل محور الزمن الشامل المسمى التاريخ.
على هذا النحو، يمكن النظر إلى هذا الشعور الطقسي للتواصل على أنه "قيمة متخيلة"، تم خلقه بدافع التوق إلى شيء لم يوجد أبداً. الجزء الثالث من المعرض بعنوان "سرد القصص كصمت"، يقدم سلسلة من الروايات لفنانين مختلفين يؤكدون على عامل المعاصرة الذي يظهر نفسه كمصدر جديد للوجود، ويختتم المعرض (unhom) بعبارة "اللا وطن" التي تتناول تجربة شيء مألوف بشكل غريب، وتقدم إمكانية لبصيص من أمل في التعافي أو العلاج من الفقدان والخوف.
مطبات الهيمنة الأمريكية لا تنحصر في مجال السياسة فحسب، بل تتعداه لتتسرب إلى عوالم الخيال الفني... قراءة في محاولة معرض لا غربي تقديم مقاربة للعالم العربي وفنونه
الـ"لا غرب" بعدسة "لا غربية"
في مراجعته للمعرض، يطرح هاري تشوي HARRY C. H. CHOI، زميل زائر في متحف شيكاغو للفن المعاصر (Museum of Contemporary Art Chicago (MCA، قراءته للمعروضات ومآخذه على المحتوى، في ضوء الطرق الجديدة التي يوظفها الفن، من خلال تنوّع ممارساته لنسج شبكات التعاطف والتواصل بين الشعوب.
لعل الحديث عن وجود تعددية للإنتاجات الفنية الحداثية خارج الأطر الأوربية الأمريكية، غالباً ما يبدو مبتذلاً في الوقت الراهن، أما الحديث عما إذا كانت المؤسسات في أوروبا وأمريكا نجحت في توظيف برامجها الفنية في الإضاءة على الأماكن والمناطق الجغرافية التي لم تنل القدر الكافي من الاهتمام في السابق، فهو أمر يقبل الجدل. ولكن ما لا خلاف عليه هو أن النقد اللاذع الذي طال خطاب ما بعد الاستعمار دفعنا إلى زعزعة الثوابت التي قامت عليها البنى الضمنية للقوى التي أنشأت هذه الأطر.
ولكن ماذا عن المؤسسات التي تقع خارج الأطر الغربية، والتي في معظمها تصرّ على استرارية الخطاب الثقافي الذي ينحصر في موروثها الثقافي المحلي؟ ربما لأن المؤسسات غير الغربية قد واجهت بالفعل مخاطر الأطر التهميشية، فانبرت تكرس الكثير من أعمالها لإعادة إحياء نقاط الوصل ذات الخصوصية التاريخية، والتي طواها النسيان، لتحرر نفسها من وطأة الضغط الناجم عن وضع نفسها في مواجهة ضد الغرب.
وهذه النظرة المحدودة للعالم، والناتجة عن حس غير مسبوق بالمسؤولية العلمية، هي ذاتها التي دفعت متحف سيول للفنون إلى تنظيم "غويانغ: الوطن" الذي سعى إلى عرض رؤية للفن الشرق أوسطي الحديث والمعاصر، من منظور شرق آسيوي.
وباعتباره المعرض الثالث في سلسلة من المعارض "غير الغربية" التي تناولت أفريقيا وأمريكا اللاتينية، تألف معرض "غويانغ" من عرض مترامي الأطراف لأعمال تعتمد بشكل رئيسي على عدسة الكاميرا، إلى جانب التراكيب الشاسعة التي قام بتنفيذها كل من الفنان التشكيلي والمخرج العراقي عادل عابدين، والمخرجة اللبنانية منيرة الصلح والفنان الباكستاني خادم علي.
تقدم هذه الأعمال وفرة في الصلات التاريخية الاجتماعية الواعدة، تنطلق من النقاط المشتركة بين كوريا الجنوبية والشرق الأوسط: فقد تم إيفاد آلاف العمال من كوريا الجنوبية عندما بدأت بلدان القارة الآسيوية بإنشاء بنيتها التحتية الرئيسية في السبعينيات، وفي عام 2018 شهدت كوريا الجنوبية وصول أكثر من 500 لاجئ يمني فروا من الحرب الأهلية المندلعة في وطنهم.
إلا أن عدداً قليلاً من الأعمال في المعرض استكشفت هذه الصلات الملموسة، ومن الأمثلة القليلة على ذلك، عرض المصور والمخرج الكوري الجنوبي تشي ون جون، لصور العوام التي تم التقاطها من قبل الكوريين الذين كانوا يعيشون في الشرق الأوسط في الثمانينيات والتسعينيات، وقد خلق غياب مثل هذه الأعمال التي تستكشف السياق التاريخي الغني، نقصاً ملحوظاً في المعرض، حيث كان يمكن أن تكون بمثابة بيان مدوٍّ ضد الكراهية المخيفة والتمييز العنصري الذي يختبره مواطنو العالم العربي بشكل عام في كوريا الجنوبية.
كيف يواجه عالم الفنّ الكراهية المخيفة والتمييز العنصري الذي يختبره مواطنو العالم العربي بشكل عام في كوريا الجنوبية؟
كان يمكن لهذه المشاريع أن تثبت أن ملامح الشرق الأوسط بقيت ترتسم بشكل كبير في الأفق في تاريخ كوريا الجنوبية ما بعد الحرب، وأن سيطرة رهاب المسلمين، أو ما يدعى بالإسلاموفوبيا في الوقت الراهن، يعود في الغالب إلى المنظومة الغربية المتجذرة في الخطاب المعادي "للحرب على الإرهاب".
الصلة بين كوريا الجنوبية والشرق الأوسط
زاد الطين بلّة في غياب دراسة تتمحور حول العلاقة بين كوريا الجنوبية والشرق الأوسط التي أثارها الإنتاج الفني، هو محاولة القيمين على المعرض تقديم رؤية شاملة للفن الحديث والمعاصر من المنطقة، وربما كان تضمين مقطع فيديو بعنوان "أود أن أقول الكثير" So Much I Want to Say من عام 1983، للفنانة الفلسطينية منى حاطوم، حول الرقابة والعنف الذكوري خير مثال على ذلك.
إضافة إلى سلسلة أفلام الفنان المصري وائل شوقي المستمرة حول الحروب المقدسة، "كاباريه الحروب الصليبية" (2010 ــ)، وهي في الغالب أعمال مؤطرة، احتُفي بها على نطاق واسع في المعارض المؤسساتية، خاصة في الغرب.
إن وقوع معرض "غوهيانغ" ضمن المتاهات المتشابكة بين إنشاء صلات ثيماتية مع كوريا وإجراء مسح هادف للمشهد الفني في الشرق الأوسط، وضعه أمام تساؤل ما إذا كان بإمكان مؤسسة لا غربية أن تطرح وجهة نظر فريدة تماماً حول الفن، في بقعة جغرافية لا غربية أخرى، كمقابل لاستيراد الافتراضات المحضة الراسخة (التي ربما لم تواجه أي اعتراض) والمتبناة من قبل المتاحف الأوروبية والأمريكية.
هل بإمكان مؤسسة لا غربية أن تطرح وجهة نظر فريدة تماماً حول الفن، دون الخضوع لسلطة الغرب، ودون استيراد الافتراضات المحضة الراسخة والمتبناة من قبل المتاحف الأوروبية والأمريكية؟
لقد عمّق هذه المعضلة الفيديو الذي قدمته الفنانة والمخرجة الكورية مينها بارك، "خطاب المرايا المتوائمة" (2014–19) من خلال ربط بغداد بموقع التدريب العسكري الأمريكي "مدينة واصل" (Medina Wasl)، الواقع في صحراء موهافي، والذي تم تصميمه ليكون نسخة طبق الأصل من بيئة القرى والمدن العراقية. لا يقدم عرض الفيديو في أي جزء منه دليلاً على جنسية الفنان، كما يمكن إدراج الترجمة الكورية بسهولة بناء على طلب المتحف للجمهور المحلي، لذلك يحدد "خطاب المرايا المتوائمة" الطرق التي تسلل بها منطق الحرب الأمريكي إلى مفاهيم الشرق الأوسط خارج الولايات المتحدة، وأصبح بشكل مقلق مجازاً للصعوبات التي تواجهها كوريا الجنوبية، في تقديم منظور بديل يختلف عن وجهة نظر حلفائها الغربيين.
وفي النهاية نجد أن مطبات الهيمنة الأمريكية لا تنحصر في مجال السياسة فحسب، بل تتعداه لتتسرب إلى عوالم الخيال الفني.
صورة المقال من عمل وائل شوقي"كاباريه الحروب الصليبية" (2010 ــ)، من موقع المجلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.