شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"ما جمعه الخبز والملح لا يفرّقه إنسان"... لبنانيّون وسوريّون تحت سقف واحد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 29 يونيو 202103:24 م

هي قصة حقيقية، وإن غير مألوفة. قصة لم تروَ بعد. أبطالها شخصيات من جنسيات مختلفة تجمعها سمات مشتركة: العفوية المطلقة وحب المشاركة وإرادة التعاون. تجري أحداث القصة في بلدة العقيبة في قضاء كسروان، شمال بيروت. وهي مستمرّة منذ سنتين ونصف، من دون انقطاع، ولم تبلغ نهايتها بعد.

في مشهد أوّل، خارجي، ترتسم معالم بيت قديم تزّين محيطه الأشجار الوارفة. تسكنه عائلة رزوق المؤلفة من الأب حسن والأم روان وطفلتيهما. لقد استأجر أفراد العائلة هذا البيت المتواضع بعد أن أجبروا على النزوح من سوريا هرباً من ويلات الحرب التي دهمت مكان إقامتهم، فقلبت حياتهم رأساً على عقب. على عكس ما يواجهه العديد من اللاجئين السوريين في لبنان من أوضاع غير مستقرّة وظروف عيش صعبة، تتّسم يوميات هذه العائلات بالهناء والأمان. فجدار الفصل العنصري القائم نفسياً بين كثيرين من اللبنانيين والسوريين بسبب خلفيات تاريخية وسياسية واقتصادية تسمّم علاقات الشعبين منذ عقود وتزيد الهوّة اتساعاً بين اللاجئين وبيئتهم "المضيفة" على مرّ سنوات اللجوء، هذا الجدار غير قائم في المساحة المذكورة، بل كأن استُبدل بدرج صغير وفسحة من الباطون. عوض أن يفصل هذا الدرج وتلك الفسحة بين المستأجرين السوريين وأصحاب الملك اللبنانيين، لقد تحوّلا إلى مجال للعبور نحو الآخر ونطاق مشترك تلتقي بفضلهما العائلتان فتتقاسمان المكان والخبز والملح.

على عكس ما يواجهه العديد من اللاجئين السوريين في لبنان من أوضاع غير مستقرّة وظروف عيش صعبة، تتّسم يوميات هذه العائلات بالهناء والأمان

يروي حسن أوّل جزء من القصة: "أعمل يوميًا في كاراج لتصليح السيارات بالقرب من البيت، وهو أمر يناسبني جدًا. إذا عدت باكرًا من العمل، أنظّف الحديقة وأروي المزروعات. أعتبر ذلك تفريجًا عن النفس لا تلبيةً لطلب من "المدام" صاحبة الملك برناديت، لأنّ هذا الأمر يشعرني بالفرح ويذكّرني بعملي في الزراعة عندما كنت في سوريا".

وينوّه حسن بظروف السكن التي يتمتع بها هو وعائلته، مبديًا امتنانًا عميقًا لمالكي العقار. يقول: "أشعر بالحرية هنا. يمكنني استقبال من أريد وكأنّ البيت حقًّا بيتي. فما من شيء ممنوع، على عكس تجربتي في منازل سابقة. هنا، نتشارك السطح وخزان المياه مع اصحاب المنزل". ويضيف: "على الرغم من غلاء المعيشة، لم يتغير بدل الإيجار مرة. وحتى لو تأخرت في الدفع بسبب مواجهتي أزمة في العمل، لا أتعرّض لمضايقات".

وبالنسبة إلى صاحبة الملك برناديت، فهي تعترف بأنها تردّدت قليلًا قبل أن تقبل تأجير المنزل للاجئين سوريين "كوني لا أعرفهم وخوفًا من عدم التزامهم الدفع. لكنّ الأمر لم يتعلّق بجنسيتهم" حسبما تفصح صراحةً. إلّا أنّ "هذا الشعور لم يعد موجودًا. حتّى أنّني أنتظر القبض بالتقسيط أسبوعًا تلوَ آخر، متفهِّمةً أنّ الوضع الاقتصادي صعب للغاية وأنّ المعيشة باتت غالية. لذا لم أرفع قيمة بدل الإيجار ولم أطالبهم بأيّة زيادة لقاء بقائهم هنا".

أشعر بالحرية هنا. يمكنني استقبال من أريد وكأنّ البيت حقًّا بيتي على عكس تجربتي في منازل سابقة

وبعفوية تامة فيها الكثير من البراءة وحسن النية، تطرح برناديت علامة استفهامٍ جوابها منها وفيها: "فما منفعة أن أحصل على المال في الموعد المحدّد والأطفال جائعون؟". ولا تتردّد برناديت في تقييم علاقتها بكل فرد من أفراد الأسرة المستأجِرة. تقول: "لم أتوقّع أن يكون حسن متحلّيًا بهذا الكمّ من الأخلاق. هو إنساني جدًا وطيّب القلب. كأنه أخي، لا يتوانى عن تلبية أيّ طلبٍ من طلباتي. وروان لطيفة ومحترمة، تخجل من طلب المساعدة أحيانًا، فأصرّ على أن أعرف منها ما مشكلتها. أحيانًا تكون حائرة ماذا تطبخ، فأعطيها من طبختي، أو أسعفها بمكوّن ناقص لتتمكّن من تحضير الطعام لعائلتها".

أمّا عن علاقتها بالطفلتين، فهي حالة خاصّة تصفها برناديت بـ"التعلّق المتبادل". تقول: "هما تجلسان قرب الباب تنتظران مروري، وتسألان روان عنّي، وتطلبان منها أن تأتيا إليّ. وبينما نحن نحتسي القهوة أنّا ووالدتهما، تشاهدان أفلامًا مخصّصة للأطفال على هاتفي وتتناولان قطع الحلوى التي أقدّمها لهما. وبما أنّ الإبنة الكبرى لم تستطع دخول المدرسة بسبب ظروف كورونا وموجبات التعلّم عن بُعد، جلبتُ لها دفترًا يتضمّن الأحرف العربية لتتعرّف عليها وتكتبها بمساعدة أمّها، وعرضتُ على أختها الصغرى دفتر تلوين لتتسلّى".

وتشير برناديت إلى أنها ليست مقرّبة بهذا القدر من جيرانها اللبنانيين.


برناديت وروان وحسين قبيل شرب القهوة

من جهتها، تبدي روان امتنانها للإقامة في هذا المنزل بالتحديد، خصوصًا أنّ "طفلتيّ تلعبان في الحديقة المجاورة لمنزل برناديت من دون أن تتعرّضا لأيّ إزعاج". وللدلالة على العلاقة الوثيقة التي تجمعها ببرناديت، تضيف روان: "أستعين بهاتف برناديت أحيانًا لأطمَئنّ على أهلي في سوريا". وتروي: "في إحدى المرات مرضت ابنتي، فأحضرت برناديت الدواء على الفور، وسألت عنها تكرارًا إلى أن تحسّنت حالتها". وتؤكد متأثرةً: "لم أشعر يومًا أنني غريبة، أي أنني سورية وهم لبنانيون، مع أنني سمعت عن رفض بعض اللبنانيين مكالمة سوريين، أو التعامل معهم. إلّا أنً برناديت وأفراد عائلتها ليسوا كذلك".

الميزة الموجودة هنا والتي فقدتها في سوريا هي أن هناك من يستفقد عائلتي أثناء غيابي عن المنزل

وينتهي مشهد المودّة والصداقة المتبادلتين بين العائلتين بانتشار شعور عارم من الأمان. العائلة اللبنانية تؤمّن على سلامة بيتها الأرضي بما انّ العائلة السورية تقيم فيه وتعتني بأقسامه، والعائلة السورية تنعم باستقرار وطمأنينة طالما افتقدتهما. "الميزة الموجودة هنا والتي فقدتها في سوريا هي أن هناك من يستفقد عائلتي أثناء غيابي عن المنزل، هل هي بخير أم بحاجة إلى شيء ما" يقول حسن ممتنًّا.

ووفقًا لحكمتين تختم بهما برناديت تجربتها الشخصية، لا القصة،"إنّ الاستفادة المعنوية من وجودهم أكبر بكثير من الاستفادة المادية" و"التقرّب من الآخر يعرّفك عليه جيدًا فتقدّره وتحبّه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image