ملاحظة ضرورية: يوجد في هذا النص تشوهات تشبه ما يعتري الرقم الحجرية نتيجة العوامل الطبيعية عبر الزمن. فيقوم الباحثون بعملية تخمين يعتمد على السياق العام للنص، لكن هنا وبفعل عامل الخوف على السلامة الشخصية لم يحاول الكاتب حتى مجرد محاولة تخمين وتوضيح النقص المفتعل في النص).
طالما يتباهى حراس اللغة برحابة وغنى القاموس في العربية. فلكل شيء أو موقف أو شعور ألف مفردة تصفه بدقة عالية لحظة تحولاته، وتدخل في الدقيق من الفروقات التي تكاد لا تلمح، وأشهر مثال: قضية الحب، حيث يوردون رأي ابن حزم الاندلسي في تصنيفه لحالات الحب وتدرجاتها في كتابه الشهير "طوق الحمامة"، إذ يميز بين الحب والعشق والهيام والغرام وغيرها من المفردات التي تنتمي إلى نفس الخانة. أو في مقام آخر هناك أسماء الحيوانات حسب تدرجها في العمر وحسب جنسها، لتبدأ مسلسلات التحدي، ما اسم ابن السلحفاة؟ أو ما اسم ذكر النعام؟ ما اسم أنثى البغل؟ إلخ... وينسحب هذا كذلك على مظاهر الطبيعة وحالاتها. فالمزن غير الغيم ولا يجوز أن نقول السحاب على الغيم الأبيض. كما لا يغيب عنهم جملة من عناوين الكتب التي تؤكد التفوق اللغوي ومن أشهرها فقه اللغة وسر العربية للثعالبي، والمغني اللبيب ونهج البلاغة وأبو الأسود والدؤلي وابن العميد والإمام علي وألفية ابن مالك، والقرآن النبع الأنقى لكل ما مر من عناوين ولغيرها. كما لا ننسى أنهم يتباهون بالإعجازات اللغوية واللفظية والنظمية التي جاءت في لحظات تاريخية تؤكد السقوط الحضاري أكثر مما تعبر عن الرفعة اللغوية والإعجاز، وأشهر الأمثلة التغني بالزخرفة والميوعة التي انتشرت في العصر العباسي، حيث تستطيع أن تقرأ البيت الشعري من أوله ثم من أخره، أو تستطيع أن تقرأ بيتاً من المديح وإن قلبته يصبح هجاء.
ليس من المعقول أن شعب بأكمله لا يملك عبر عقود من الزمن إلا مائة مفردة بالأكثر، يستمر بعلكها ومضغها، مفردات تقول حياته بدقة، مفردات تؤكد أنه كائن يعيش الذل والقمع والخراب
لا شك أن اللغة تتبع التطور الحضاري وتتقد في اللحظات الحضارية المشعة، كما أنها تخبو بالمقابل لحظة تنطفئ تلك الشعلة. بغض النظر عن هذا كله لا شك أننا الآن في أسفل المنحدر الحضاري بالعموم، فكيف ونحن في حالة انهيار مرعبة وفي (أتون) حرب نسيت كيف تنتهي، الشعراء فقط- وأدعي أنني منهم بدرجة ما– من يمتلك غلاظة وترف أن يقول مفردة (أتون)، ماذا أريد أن أقول؟ لمَ كل هذه المقدمة المملة والصدامية عن اللغة؟ ببساطة أريد أن أقول إننا نشأنا في أحضان الفخر اللغوي والتغنّي بتاريخنا وأمجادنا وعضلاتنا اللفظية، ومع ذلك نحن لا نتكلم إلا القليل القليل من المفردات في واقعنا. وهنا لا أقصد أبداً العودة إلى التعبير والاستعراض اللفظي الذي يثير السخرية، من قبيل ما نسمعه من تعليقات على فيسبوك، حيث يعلّق الجار لجاره: "دام نبض يراعك"، أو الأخ لأخته: "حرفك من جنس المعاطير"، أو صبية لشاب: "شكراً لمرورك العطر" إلخ...
أنا هنا لأقول فقط أن رغم كل هذا الوهم اللفظي الذي يتلبسنا، نحن أشبه بالبُكم؛ بالكاد نستخدم عدة مفردات في حياتنا اليومية، مفردات لو وضعناها على مقياس التكرار والدراسة نكتشف الأهوال التي نحن فيها. إذ ليس من المعقول أن شعب بأكمله لا يملك عبر عقود من الزمن إلا مائة مفردة بالأكثر، يستمر بعلكها ومضغها، مفردات تقول حياته بدقة، مفردات تؤكد أنه كائن يعيش الذل والقمع والخراب.
كيف للسوري أن يخرج من جلد الواقع، كيف للسانه أن يقول إلا ما يعيشه. ببساطة نسينا المفردات وصارت كلماتنا تعد على أصابع اليدين. مؤلم أننا عشنا هذه الحالة في الخمسين سنة الفائتة، في كل عقد نتكلم حفنة من الكلمات فقط، ثم نستبدلها بحفنة ثانية في العقد الذي يليه، وهكذا، نحن بلا كلمات تحمل دلالة الحياة الحقيقية.
ففي الثمانينيات، كنت تلميذاً في الابتدائية، لا تحمل ذاكرتي إلا عدة مفردات منها (محارم كنار، حصار اقتصادي، مخابرات، موز من لبنان، الإخوان المسلمين، حزب البعث، القائد الأمين، الكيان الصهيوني، الرفيق الطليعي، فلسطين داري، البعث طريقنا، قلم بيك، السادات الخائن، اتحاد شبيبة الثورة، مجلة الشبكة، كتاب القومية، المؤسسة، ما يطلبه الجمهور، السجناء السياسيين، باسم ورباب، الحركة التصحيحية، الاتحاد السوفيتي، بونات سكر ورز، ...... ( تشوه في النص الأصلي لكن يمكننا التخمين أنه اسم حاكم شهير)، الشيوعيون، سمنة النواعير، الصف الخاص، القفز المظلي، رفعت، معلبات كونسروة، الشهداء).
في كل عقد نتكلم حفنة من الكلمات فقط، ثم نستبدلها بحفنة ثانية في العقد الذي يليه، وهكذا، نحن بلا كلمات تحمل دلالة الحياة الحقيقية
لتأتي فترة التسعينيات (قانون الاستثمار رقم 10، القائد الخالد، "سافرت بالبولمان ع الشام"، السجناء السياسيون، المخابرات، "خيي عم يشتغل بلبنان"، ماريا ديب، البعث طريقنا، مجلة العربي وطبيبك، عطر "أصنص لابيدوس"، الشهيد الرائد الركن المهندس المظلي الفارس، محارم ديمة، تجديد البيعة، دعاية منصور طار العشا، شامبو "كاريس"، الشهداء). ثم في بداية الألفية الثالثة (منتدى الأتاسي، شامبو "بانتين"، التطوير والتحديث، المعلوماتية، المجتمع المدني، الأمن، الشفافية، رامي مخلوف، لا يوجد عصا سحرية، "أريبا"، "سرياتيل"، "موبايل الدبدوب"، "نوكيا"، قاهر الدمعة، "البترو دولار"، خطاب القسم، الانفتاح الاقتصادي، الشهداء).
ثم جاء الربيع العربي (الشعب يريد إسقاط النظام، العصابات المسلحة، مظاهرة، مسيرة، مؤيد، معارض، مندسون، ........ (تشوهات في النص لا يستطيع الكاتب حتى تخمينها خوفاً على السلامة الشخصية)، أجندة خارجية، "أنا معارض متلك"، كلنا معارضون للفساد، جريح، بطاقة ذكية، "إجت الكهربا"، طوابير، "بوتين"، "بنزين"، "الشبيحة"، "مازوت"، إيران، "انقطعت الكهربا"، غاز، خبز، داعش، جبهة النصرة، "ع الفيس"، الجيش الاسدي، معونات، لاجئ، "بلم"، العلويون، "ليدات" وبطارية، صاروخ، احتياط، المؤامرة الكونية، تعذيب، اعتقال، تم الدعس، معونات، الشهداء). وفي ملاحظة خاطفة نستطيع أن نقول إننا، ورغم الفقر اللغوي والشح في القول والدلالة، إلا أننا استطعنا أن نُعيد أمجاد اللغة حيث صار للدولار وحده أسماء تتفوق على الاسماء الحسنى (النعنع، الكيوي، الشايع، هداك، الأخضر، الشؤسمو... وغيرها الكثير)، كذلك استطعنا وفي نفس السياق أن نتفنن في وصف الوضع السوري (الازمة، الحراك، الثورة، الحرب، المقتلة، وغيرها).
في الختام لابد من التأكيد بشكل قاطع، مع ضرب الدراسات الاحصائية والأكاديمية بعرض الحائط، أن المفردة التي تفوقت من حيث عدد التكرار على لسان كل سوري وعلى مدى العقود الخمسة الأخيرة كانت ولا زالت جوهرة التاج اللفظي لديه، وهي كلمة "تفوووو".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...