يرد في تقرير الأرشيف الوطني البريطاني رقم 20845، المسجل بتاريخ 31 كانون الأول 1937، أن عشاءً تم في العاصمة التركية أنقرة، جمع بين رئيس وزراء سورية، جميل مردم بك، والرئيس التركي كمال أتاتورك. كان مردم بك عائداً من فرنسا يومها وفي قلبه الكثير من الخوف على مصير منطقة لواء إسكندرون التي كانت تركيا تنوي احتلالها. وكانت المنطقة واقعة في زاوية التي يُشكلها الشاطئ الشرقي من البحر الأبيض المتوسط والحدود السورية التركية، وفيها مدينة أنطاكيا التاريخية، أكبر وأعرق مُدن "السنجق".
فاتح أتاتورك مردم بك بالموضوع وأصر أتاتورك أنه لا يريد ضم اللواء، بل فقط إعطاء بعض الحقوق السياسية لسكانه الأتراك. اختلف مردم بك مع الرئيس التركي في تحديد عدد سكان اللواء. أتاتورك قال إن فيه 300 ألف نسمة، وأن ما يقارب 240 ألفاً منهم كانوا من الأتراك. عارضه مردم بك بشدة قائلاً إن عدد سكان اللواء كان لا يتعدى 220 ألفاً، مضيفاً أن نسبة الأتراك فيه لا تتجاوز %39.
وبحسب سجلات الحكومة السورية يومها، فإن 48% من سكان اللواء كانوا عرباً (10% سنّة و28% علويين و8% مسيحيين)، إضافة إلى حوالي 4% من الكرد واليهود و11% من الأرمن. في سنوات لاحقة، وجهت اتهامات شتى لجميل مردم بك، بأنه "باع اللواء" إلى أتاتورك، وفضل تمرير معاهدة مع الفرنسيين مقابل تخليه عن اللواء، وهذا كلام عارٍ تماماً عن الصحة، لا يتعدى ثرثرة لا دليل لها أو سند تاريخي بالمطلق.
الجميع يعرف أن تركيا لم تكن راضية عن الحدود التي فُرضت عليها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وأنها قبلت بها على مضض. ولكنها، وفي المادة 16 من اتفاقية لوزان، قبلت أيضاً بحدودها الجديدة مع سورية، التي اعترفت باللواء كأرض سورية. فمنذ بدأ الانتداب الفرنسي عام 1920، كانت دمشق وحدها هي من تعين محافظي المنطقة وكل قضاتها، وأبرز هؤلاء كان حسني البرازي، الذي أصبح رئيساً لوزراء سورية سنة 1942، بحسب ما يذكر في " مذكرات دولة الرئيس حسني بك البرازي" في 2016.
سلخ لواء إسكندرون عن أرض سوريا قبل احتلال فلسطين، فلماذا فضل قادة سورية التحدث فقط عن فلسطين والمطالبة بوقف الهجرة اليهودية إليها برغم حق سوريا الواضح في أرض اللواء؟
جاء أول مطلب تركي في اللواء بمذكرة بتاريخ 10 تشرين الأول 1936، رُفعت بمعية سفير فرنسا في أنقرة، جابرييل بونسو، المندوب السامي الأسبق في سورية ولبنان. وفي تشرين الثاني من نفس العام، تحدث أتاتورك عن اللواء في خطابين متتالين، أحدهما أمام البرلمان التركي، معتبراً أن مصيره بات في خطر في حال بقي تحت سيادة الدولة السورية، كما يرد في كتاب فيليب خوري "سوريا والانتداب الفرنسي" في عام 1987.
الاستفتاء الشهير
قررت فرنسا رفع الأمر لعصبة الأمم في جينيف، واقترحت أن تكون منطقة لواء إسكندرون منزوعة السلاح وتابعة للجمهورية السورية من الناحية المالية والإدارية وفي سياستها الخارجية، بحسب فيليب خوري. يُذكر طبعاً أن سورية لم تكن عضواً في عصبة الأمم وأن تركيا نالت عضويتها سنة 1932، أي قبل سلخ اللواء بست سنوات. وقد طالبت عصبة الأمم بإجراء استفتاء في اللواء، تشرف عليه لجنة مشتركة من الفرنسيين والأتراك، لمعرفة إن كان سكانه يريدون البقاء ضمن الأراضي السورية أم الالتحاق بتركيا.
لم تعترض الحكومة السورية وقبلت بفكرة الإستفتاء، ظناً منها أن سكان اللواء العرب كانوا كفيلين بقلب الموازين ضد تركيا، وكذلك الأرمن الرافضين لأي هيمنة تركية على منطقتهم. ولكن الحكومة التركية مارست ضغوطاً هائلةً يومها، فقامت مثلاً بنقل ثلاثة آلاف مواطن تركي من تركيا إلى اللواء، للتصويت لصالح الضم، مستندة إلى أنهم كانوا من مواليد اللواء.
أجري استفتاء في لواء إسكندرون سنة 1932لمعرفة إن كان سكانه يريدون البقاء ضمن الأراضي السورية أم الالتحاق بتركيا، مارست فيه الحكومة التركية عدداً من الضغوطات لمنع العرب والأرمن من سكانه من قلب الموازين ضد سيطرتها
وقد سهلت سفر هؤلاء ودفعت لكل واحد منهم 25 ليرة تركية، بحسب التقارير البريطانية. إضافة لذلك، كان معظم الأجرة والفلاحين من العرب في اللواء، يعملون في أراضي ملاكين أتراك، فهددت تركيا بطردهم من أماكن عملهم لو صوتوا لصالح سورية، بحسب خوري. وأخيراً، ساعدتهم فرنسا باعتقال كافة الزعماء الوطنيين، من أبناء اللواء المناهضين للمشروع التركي، وقامت بإغلاق مكاتب عصبة العمل القومي والكتلة الوطنية في أنطاكيا
كانت تركيا قد مارست ضغوطاً مشابهة على سكان أهالي اللواء، خلال الانتخابات النيابية السورية التي جرت سنة 1936. فقد أجبرت كافة المواطنين السوريين من أصول تركية على مقاطعة تلك الانتخابات، ومهاجمة النواب العرب الثلاث الذين فازوا بمقاعد نيابية على قوائم الكتلة الوطنية.
في كلتا المرتين نجحت تركيا في مساعيها، ولكنها في المرة الثانية قامت بعقد صفقة مع فرنسا، ضمنت من خلالها دعم أنقرة لباريس، أو حيادها في حال نشوب حرب عالمية جديدة في أوروبا، مقابل دعم الفرنسيين لسلخ اللواء عن سورية. ومع حلول شهر شباط من العام 1939، ونتيجة ذلك الاستفتاء والصفقة، تم فصل اللواء كلياً عن سورية وأصبح جزءاً من الجمهورية التركية. وقد دخل الجيش التركي إلى اللواء يوم 4 تموز 1938 وما زال موجوداً فيه حتى اليوم.
لا أنساك فلسطينُ
سقط لواء إسكندرون من التداول الرسمي يوم سلخه عن الوطن، ولم يتكلم عنه أحد من العرب، لا يوم تأسيس الأمم المتحدة ولا عند إنشاء جامعة الدول العربية. لم يحظ بربع الاهتمام الذي حظيت به فلسطين، شعبياً وسياسياً وإعلامياً
يبقى السؤال: لماذا لم تمارس الحكومات السورية المتتالية أي ضغط على تركيا ولم ترفع الصوت عالياً في المحافل الدولية، وتحديداً بعد تأسيس الأمم المتحدة وتسلّم سورية رئاسة مجلس الأمن عام 1947؟ هذا مع العلم أن معظم قادة سورية في حينها كانوا من الوطنيين الأحرار ممن اعتُقلوا وسُجنوا وعُذّبوا أيام الدولة العثمانية، وجميع زعماء سورية الكبار كانوا يعترفون، بالسر والعلن، أن قضية إسكندرون كانت أكبر هزيمة في حياتهم حتى عام 1948.
مع ذلك، فضّل قادة سورية يومها التحدث فقط عن فلسطين والمطالبة بوقف الهجرة اليهودية إليها وإنهاء الاحتلال البريطاني. هذا مع العِلم أنه قانونياً وأخلاقياً، كان حق سورية باللواء أوضح بكثير من حقها بفلسطين، بموجب الشرعية والاتفاقيات الدولية. ففي اللواء لا وجود لوعد بلفور أو أي شعب مضطهد خرج حديثاً من محارق النازية. كان بإمكان سورية الاعتراض على نتيجة الاستفتاء، تماماً كما فعلت مع قرار تقسيم فلسطين بعد سنوات قليلة، أو دعم مقاومة شعبية ضد الأتراك، كما فعلت بدعمها لمنظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات.
ولكن اللواء سقط من التداول الرسمي يوم سلخه عن الوطن، ولم يتكلم عنه أحد من العرب، لا يوم تأسيس الأمم المتحدة ولا عند إنشاء جامعة الدول العربية. لم يحظ بربع الاهتمام الذي حظيت به فلسطين، شعبياً وسياسياً وإعلامياً، فلا أغنيات أطلقت من أجله ولا مؤتمرات أو حتى شارع أو ميدان،لا في دمشق ولا غيرها من المدن العربية.
لماذا غنت فيروز للقدس وليس لأنطاكيا؟ لماذا طالبت أم كلثوم ببندقية لأجل فلسطين، ولم تُطالب بمثلها لإسكندرون؟
لا نملك جواباً عن هذا الأسئلة طبعاً، ونتركها للتاريخ. قد يكون أحد الأجوبة المستقاة من تاريخنا هو أن الذين لهم أطماع في أرضنا على مدى عقود، نجحوا إلى حد ما في إيهام الحكام العرب أن إجراءاتهم، قدر وأنه لا يمكن لنا أن نغير شيئاً، الأمر الذي أثبط الهمم وأجهض احتمال المبادرة قبل أن تولد. ولا شك أن هذا الموقف سبب لنا الكثير من الخسائر التي ربما كان يمكن تلافيها لو تم اتخاذ مواقف أكثرشجاعة وجرأة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...