شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
صباح مخيف جداً: إنها 2040 ولم تزل سورية الأسد

صباح مخيف جداً: إنها 2040 ولم تزل سورية الأسد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 3 نوفمبر 202003:33 م

السماء زرقاء، إنني أمزح، هي رمادية كما العادة هنا في برلين. استيقظ على سريري بنفس الشكل الجسدي الذي كنت عليه البارحة، أي أنني لست في حلم كافكاوي غريب. في الحقيقة كل يوم استيقظ فيه أتوقع أن أرى نفسي قد تحولت لكائن من خيال كافكا، ذي أطرافٍ كثيرة وظهر مقوس صلبٍ كظهر حشرة سريعة، ولكنني اليوم لم استيقظ بذلك الظهر المقوس القاسي، بالعكس تماماً فما زال ظهري مستقيماً على الرغم من أننا في عام 2040، تخيل يا رعاك الله أننا في عام 2040 وما زلنا نستيقظ ولم نتحول لروبوتات لا تنام.

اليوم أشعر أنه يوم بشع، كما نتوقع من كل يوم أن يكون باعتبار أننا ولدنا سوريين، نعم ما زلنا نطلق على أنفسنا لقب سوريين مع أن البلد لم يعد موجوداً كما نعرفه، شيء يشبه السوريين الذين هاجروا للبرازيل في نهاية القرن التاسع عشر وبعدها فوجئوا بأن بلدهم أصبحت أصغر واسمها لبنان. وقد استمر آخرون باستخدام اسم سوريا، أليس هذا شيئاً كافكاوياً بحياة أمك؟

هيك وهيك من هالصباح!

المهم أن اليوم الذي توقعته أن يكون بشعاً تحقق، كما العادة. فقد تجلى، نعم اليوم البشع أيضاً يتجلى، أنني أصبحت وحدي كلياً، لا أعني أني وحيد دون أولاد أو معارف، بل شيء آخر.

رسالة وصلت إلى جهازي المحمول في شريحة في دماغي من صديقي يقول لي وداعاً.

لقد رحلا صديقيْ الأخيران من برلين، م. و ز.، لقد عادا إلى تلك المنطقة التي ولدنا كلنا فيها. هذا اليوم البشع الذي كنت أتوقعه أن يتجلى، كما قلنا فاليوم البشع يتجلى، قد أتى وأصبح واقعاً.
كنت أستيقظ كل يومٍ مع فكرة تقول إن الجميع في نهاية المطاف سيعودون إلى سورية الأسد، نعم هكذا أصبح اسمها رسمياً: دولة سورية الأسد الخاصة. 

تخيلوا معي، نعم ما زلنا نستطيع أن نتخيل في عام 2040، أن كوريا الشمالية انضمت لكوريا الجنوبية وأصبحتا دولة ديمقراطية في حين أن الجمهورية السورية استمرت تحت ملك عائلة الأسد إلى الجيل الرابع، نعم الرابع لأن انقلاباً حدث بين الحفيد وابن أخيه، لذلك هو الرابع. الرابع يا ناس، رابع، رابع، رابع، رابع.

كما حدث مع الجميع، لم يستطع كل أصدقائي العيش بعيداً عن تلك المنطقة، الشرق الأوسط اللعين، نعم هكذا أصبح رسمياً، اللعين. يوماً بعد يوم ازداد اشتياقهم للوطن اللعين مع ازدياد عمرهم اللعين. بعضهم لم يتحمل أن يموت أهله دون وداعهم، بعضهم لم يتحمل العيش بعيداً عن حمص أرض الظرفاء، وأنا أتفهم وضعهم إلى حد ما، آخرون لم يتحملوا الصراع الحموي الحمصي على حلاوة الجبن، الشوام تعبوا من عدم جدوى وصف أنفسهم بأنهم من "جواة السور" باللغة الألمانية لأناس ملوا من الأسوار، فعادوا إليها. 

الحلبية هم حلبية ولا يكونون حلبية دون حلب، فعادوا، أما أهل مدينة السلمية فلم يستطيعوا أن يكونوا شعراءً دون المدينة، فعادوا. المثقفون برروا عودتهم ومصالحتهم مع دولة سورية الأسد، بالتاء المربوطة، بأن البلد يحتاجهم وعليهم أن يلبوا النداء، فلبوا. كثيرون تعبوا من الـ Der و الـDie و الـ Das، وأنا أفهمهم، فعادوا. الممثلون ملوا من لعب دور اللاجئ والأجنبي والمجرم، فلبوا النداء.

بعضهم لم يتحمل أن يموت أهله دون وداعهم، آخرون لم يتحملوا الصراع الحموي الحمصي على حلاوة الجبن، الشوام تعبوا من عدم جدوى وصف أنفسهم بأنهم من "جواة السور" باللغة الألمانية لأناس ملوا من الأسوار، فعادوا إليها

 في الحقيقة كل هذا الأسباب اخترعتها لأبرر لهم عودتهم أو حتى لا أبرر لهم عودتهم، المهم أنهم لبوا النداء وعادوا. النداء كان ظريفاً جداً، مسامحة كاملة عن كل كلمة في حق الأسد الأول والثاني والثالث والرابع، مسامحة عن كل كلمة قيلت في حق أردوغان، أوجلان، البرزاني الأول والثاني والثالث، حزب الله، السيسي الأول والثاني، صدام الأول والثاني مكرر، وكل الحكام وأولادهم وأطفالهم الشرعيين وغير الشرعيين، أحفادهم، وأصدقاء أولاد يلي خلفوهم.

على الرغم من الزمن الطويل الذي عشته في برلين وأن لدي الكثير من الأصدقاء من أخواتنا "الدويتش"، وكما كل المجتمعات المهاجرة في الكوكب، نعم ما زال كوكباً والنيزك خوزقنا ولم يصل بعد، فقد كان لدي عدد جيد من الأصدقاء السوريين نتبادل الطرفات والأخبار والذكريات ونصرخ أننا لن نعود حتى تصبح سوريا، بالألف، ديمقراطية. كنا نأكل الشاورما والكبسة وأحياناً ورق العنب مع اللية والثوم. طبعاً كل المطاعم السورية تم بيعها وصار الحمص فيها رسمياً يباع مع الخردل فالألمان ألمنوه.
حتى المنحبكجية وجب عليهم أن يقوموا بالتسوية السياسية، فقد تورطوا بالكثير من السب تجاه البلدان المجاورة تبعاً للتوجيهات التعبوية السياسية عبر التاريخ. فهم أيضاً أكلوا الحمص بالخردل وحلفوا عدة أيمان للتوبة، لكنها أقل من أيمان جماعتنا.

التسوية: وهو مصطلح يتردد داخل الأروقة السورية المظلمة منذ منتصف عام 2011 حتى هذه اللحظة عام 2040. كلمة بالنسبة لمن لم يولد في سوريا/ة لا تعني ربما سوى تسوية الرمل أو السرير، أما في سوريا/ة فهي تعني الكثير...اعتذر عن آخر قافية بالصدفة والله.

التسوية: كلمة مغطسة بالعسل تحولك من مغضوب عليه، من مجرم، من خائن، من ابن/ة عرص/ة، من عدو للأمة التافهة، من صاحب أفكار تخريبية، من معادٍ للوطن زوج الأمة، من عدو للممانعة الأسدية إلى مواطن صالح يسمح لك بالعودة إلى حضن الوطن وصدر الأمة، ولن يتم قتلك تحت التعذيب أو اغتصاب زوجتك أمامك ثم قتلك بالسكاكين، تخيل كم هي مهمة هذه الكلمة، أعسل من العسل بل إنها سوبر كلمة، تماماً سوبر كلمة… تسوية.

التسوية: كلمة مغطسة بالعسل تحولك من مغضوب عليه، من مجرم، من خائن، من ابن/ة عرص/ة، من عدو للأمة التافهة، من صاحب أفكار تخريبية، من معادٍ للوطن زوج الأمة، من عدو للممانعة الأسدية إلى مواطن صالح يسمح لك بالعودة إلى حضن الوطن وصدر الأمة
الذي جرى قبل هذا الصباح الفظيع أن هذه الكلمة السوبر، التسوية، تسللت إلى المجتمعات السورية في المنفى مستغلة كما ذكرنا كل الطبقات العميقة من الألم النفسي عند المنفيين السوريين، مرة بغطاء "تعال زور أبوك قبل ما يموت"، ومرة "تعال ما اشتقت لأهلك؟"، ومرة "ولاد أختك صاروا كبار ما بدك تشوفهم" ومرة ومرة ومرة… إلخ. دولة خبرة بالابتزاز.
يبدو أن الأمر جرى باتفاق أمني مع الحكومة الألمانية، فالسوريون هنا يحملون الجواز الألماني أيضاً والاتفاق ينص على أنهم محميون من الحكومة الألمانية داخل الأراضي السورية على شرط ألا يعملوا بشكل مباشر ضد الحكومة السورية الأسدية، جميل.
الجميع عادوا وتركوني هنا! بشرط أن أصمت!
فتحت الشباك، ثم أغلقته لأن الجو بارد ولا قدرة لي على بعض الكليشيهات الكتابية (الشخصية فتحت الشباك وصرخت بأعلى صوتها... إلخ) لأننا لسنا في عام 2020 ولأن الصباح هذا مخيف جداً فسأكتفي بشباك مغلق وبعض المسبات القليلة الأدب الواسعة الخيال التي أشتهر بها… فلم يعد يهم، فالجميع عادوا ولم يعد هنا من يفهم لغتي.
هيك وهيك من هالصباح!

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image