"نحن نتجدد، نتمدد، ولا نتبدد. كنا ننتظر فوزاً ساحقاً أكبر من الذي حققناه. الذين هاجمونا وأساؤوا إلينا كلهم أجابهم الشعب بـ105 مقاعد، وهم الآن في ذهول تام، ونرد عليهم بأننا سنكون أقوى مستقبلاً".
كانت هذه تصريحات الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، القوة السياسية الأولى في الجزائر، بعد فوز الحزب بأكبر عدد من المقاعد في أول برلمان في عهد الرئيس عبد المجيد تبون.
خطاب هو أقرب إلى قرع طبول النصر، بعد نهاية معركة سياسية طاحنة، كادت أن تنسف الحزب، بعد حراك دام أكثر من عامين، وطالب برحيله، وحله، وإرساله إلى المتحف، فرد عليه بعد الفوز، النائب البرلماني الجديد ونجل القيادي والوزير السابق صادق بوقطاية، زكريا بوقطاية بقوله: "القافلة تسير والكلاب تنبح".
فينيق يُبعث من الرماد
هل يعقل أن يعود شيء ما إلى الحياة بعد موته؟ هل يمكن أن يقاوم سيلاً منهمراً، ويظل شامخاً من دون أن يتحطم من الداخل والخارج؟ هل نحن أمام قصة تشبه قصة أسطورة طائر الفينيق الذي يولد من رماده؟
حزب جزائري بحجم دولة، استطاع أن يتجاوز قانون العزل، وتمكن من الصمود في وجه التيار القوي الذي طالب باستئصاله، ليفوز بأكبر عدد من المقاعد في أول انتخابات تشريعية، بعد خروج 20 مليون جزائري إلى الشارع مطالبين برحيله.
"جبهة التحرير الوطني" يعود إلى الواجهة، ويفوز
شارك في الانتخابات البرلمانية الأولى في حقبة الرئيس عبد المجيد تبون 23 ألف مرشح، موزعون على 1483 قائمة، وهو العدد الأضخم في تاريخ الانتخابات الجزائرية، ليكتسح حزب جبهة التحرير الوطني صناديق الاقتراع، بعد فوزه بـ105 مقاعد كاملة، محتلاً صدارة السباق التشريعي، بعيداً عن أقرب منافسيه، "حركة مجتمع السلم"، بفارق 41 مقعداً، وهو الحزب الإسلامي الذي ينتمي إلى تيار الإخوان في الجزائر، يليهما حزب السلطة الآخر "التجمع الوطني الديمقراطي"، الذي حاز على 57 مقعداً، ثم جبهة المستقبل بـ48 مقعداً، فالحزب الإسلامي الآخر "حركة البناء الوطني"، الذي حصد للمرة الأولى 40 مقعداً.
هل يعقل أن يعود شيء ما إلى الحياة بعد موته؟ هل يمكن أن يقاوم سيلاً منهمراً، ويظل شامخاً من دون أن يتحطم من الداخل والخارج؟ هل نحن أمام قصة تشبه قصة أسطورة طائر الفينيق الذي يولد من رماده؟
النتائج التي أعلنت عنها السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات في 15 حزيران/ يونيو، أكدت أن الخريطة السياسية لم تتغير في الجزائر، والأحزاب نفسها التي شكلت المشهد في حقبة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والتي ثار عليها الشعب، ستقود الحكومة المقبلة، وفق تحالفات تندرج ضمن الغالبية الرئاسية، بعدما تقاسمت في ما بينها كعكة التشريعيات المبكرة، والتي دعا إليها الرئيس تبون، بعد حله البرلمان السابق، والذي وصفه الحراك الشعبي بـ"برلمان العصابة".
"الجزائر لم تطبق قانون العزل السياسي، مثل مصر وتونس". هكذا يستهل الصحافي صالح بوتعريشت حديثه لرصيف22، ويضيف: "الحزب الوطني في مصر، وحزب التجمع الدستوري في تونس، تم تطبيق قانون العزل السياسي عليهما، لينتهيا إلى غير رجعة، بعد مكوثهما في السلطه عقوداً، ومساهماتهما في إفساد المجال العام. لكن هذا لم يحدث للأسف في الجزائر، لذلك تمكن حزب جبهة التحرير الوطني من إعادة تنظيم صفوفه على مدار عامين، ودخل معترك الانتخابات التشريعية، في لحظة تزامنت مع مقاطعة شعبية تجاوزت الـ76 بالمئة، ليجد نفسه منفرداً أمام المرمى، ويسجل هدف العودة".
جبهة التحرير… حزب سبق تأسيس الدولة
ارتبط ميلاد الحزب الذي يطلق عليه في الجزائر اسم الحزب العتيد، باجتماع مجموعة الـ22 في حزيران/ يونيو 1954، حيث تم اتخاذ قرار تشكيل قوة سياسية تُسمع صوت الجزائر المطالب بالاستقلال للعالم، وأُطلق عليها اسم "جبهة التحرير الوطني"، وعلى جناحها المسلح اسم "جيش التحرير الوطني"، الذي أعلن عن انطلاق ثورة الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1954، لتحرير الأرض والإنسان، بأهداف أوجزها بيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر.
بعد الاستقلال، ظل الحزب حاكماً ووحيداً في الجزائر، حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، حين خاضت الجزائر تجربة التعددية الحزبية، والتي أُجهضت بعد تدخل الجيش حينها بقيادة وزير الدفاع خالد نزار، الذي ألغى نتائج الانتخابات التشريعية التي فاز فبها حزب الجبهة الوطنية للإنقاذ (الإسلامي)، لتغرق بعدها الجزائر في حمام دم العشرية السوداء التي قتل فيها أكثر من ربع مليون جزائري.
النتائج التي أعلنت عنها السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، أكدت أن الخريطة السياسية لم تتغير في الجزائر، والأحزاب نفسها التي شكلت المشهد في حقبة بوتفليقة، والتي ثار عليها الشعب، ستقود الحكومة المقبلة، وفق تحالفات تندرج ضمن الغالبية الرئاسية
وحين صعد عبد العزيز بوتفليقة إلى قمة السلطة عام 1999، سعى إلى المصالحة، وإيقاف المجازر الدموية، لكنه ترأس الحزب الذي عمل بدوره على تأمين بقائه في السلطة عبر إجراء تغييرات عديدة في الدستور، ما مكّنه من البقاء على كرسيه لأكثر من عشرين عاماً، وكانت العلاقة بين الرئيس والحزب الحاكم نفعية بامتياز.
حراك 22 شباط/ فبراير FLN dégage
لكن الحزب الذي ساهم في تثبيت عرش بوتفليقة لعقود، دقّ المسمار الأخير في نعش حكمه. إذ حين أعلن منسق هيئة تسيير الحزب معاذ بوشارب، عن ترشح بوتفليقة لولاية خامسة، في مهرجان شعبي ضخم في القاعة البيضاوية، اندلعت مظاهرات شعبية عارمة، خرج فيها الملايين في ثورة شعبية تطالب برحيل بوتفليقة، وحل الحزب العتيد، وإرساله إلى المتحف، حفاظاً على صورته في الذاكرة الجزائرية، كحزب وطني حقق الاستقلال للجزائر.
حينها، استقال بوشارب من قيادة الحزب، ودخل الأمين العام الأسبق جمال ولد عباس إلى السجن بتهم فساد ثقيلة جداً، ثم لحق به الأمين العام الجديد محمد جميعي.
عقب هذه الضربات المتتالية، ساد الهدوء فترة، وبدأ الحزب في التفكير للمرحلة المقبلة. وفي الوقت الذي راهن فيه المراقبون على نهايته، كانت القيادة تخطط برفقة الأمين العام الجديد أبو الفضل بعجي، لإعادة الهيكلة، والتموضع من جديد لاقتحام الساحة من بوابة المجالس المنتخبة.
أتت لحظة العوده مع قرار الرئيس تبون حل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات مبكرة. وهي الانتخابات التي حقق الحزب فيها فوزاً ساحقاً، وسط اتهامات بالتزوير.
وينفي عضو مجلس الأمة عبد الوهاب بن زعيم هذه الاتهامات في حديثه لرصيف22 قائلاً: الأصوات التي تتكلم عن التزوير، هي أصوات قوى سياسية لم تشارك أصلاً في العملية، أو أخرى خسرت الرهان، ومن يخسر الرهان يلجأ إلى التخوين، وإلى الاتهامات الباطلة. وعلى الرغم من ذلك، هناك أكثر من 400 طعن لدى المجلس الدستوري، مع العلم أننا أيضاً قدمنا طعوناً، ولنا ثقة كبيرة في عدالة المجلس الدستوري، وإعطائه الحقوق كاملة لأصحابها.
من أين يستمد الحزب قوته؟
استمرار الحزب طوال تلك العقود كلها، ثم قدرته على العودة إلى الصدارة مرة أخرى عبر الصناديق الانتخابية، بعد الموجة العاتية التي أطاحت بقياداته، تدل على امتلاكه مفاتيح نافذة، قادرة على إدارة الشارع السياسي الجزائري، وتحريكه.
ما زالت الأصوات الثائرة الداعية إلى التغيير لا تملك امتداداً مجتمعياً، ولا قواعد نضالية قادرة على وضعهم في صدارة المشهد، مكتفين بإشهار سلاح المقاطعة الذي، وعلى الرغم من وجود أسباب تبدو منطقية له من وجه نظرهم، لا يتعدى في حقيقة الأمر كونه أوكسجين السلطة المتجددة
القيادي في حزب جبهة التحرير الوطني مالك بلقاسم أيوب، يشرح لرصيف22 مصادر قوة الحزب، ويقول: "بالنسبة إلى المناضلين، حزب جبهة التحرير الوطني إرث تاريخي يجب الحفاظ على رمزيته، تجسيداً لمبادئ الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر التي مثّلها بعد الاستقلال. فضلاً عن أن حزبنا لديه خصائص فريدة جعلته يستمر في الصدارة حتى اليوم، فهو موجود، ومنظّم في بلديات الوطن جميعها (1541 بلدية)، ويملك الخبرة في العمل الانتخابي، ويدرك تماماً طبيعة تفكير المواطن الجزائري، كونه يتواجد في الساحة السياسية منذ الساعات الأولى للاستقلال".
ويختم بلقاسم أيوب حديثه ساخراً من المطالبات بحل الحزب، أو إحالته إلى المتحف قائلاً: "هذه مطالب غير واقعية، وغير مسؤولة، فنحن تنظيم سياسي، كبقية الأحزاب، ولا أعتقد أنه من الطبيعي أن يطالب أحدهم بحل الحزب لمجرد الاختلاف معه، أو رفضاً لممارسات معزولة داخله".
نتائج الانتخابات تعكس الواقع السياسي
لكن بعيداً عن إشكالية فوز الحزب الحاكم مرة أخرى، وأسباب المقاطعة الشعبية للانتخابات،
تشي نظرة على نتائج العملية الانتخابية بأن واقع المشهد السياسي الجزائري لم يتغير كثيراً بعد الحراك الشعبي، وأن المطالب الشعبية في الشارع ما زالت لا تعرف مساراً راسخاً نحو التحول إلى رقم سياسي فاعل.
النتائج تخبرنا أن المشهد السياسي ما زال حكراً على النظام القديم ممثلاً في جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، والتيار الإسلامي (حركة مجتمع السلم، وحركة البناء).
هم من استولوا على مقاعد البرلمان وسط تلاشٍ تام للقوى الثورية، والداعين إلى التغيير،
وتلك النتائج لها ما يبررها، فمن جانب ما زال الحرس القديم يتمتع بكتل تصويتية ثابتة، ممثلة في شبكة علاقات مصلحية وعشائرية واسعة. أما الإسلاميون، والمحافظون، والمناضلون، فيمثلون كتلاً تصويتية ثابتة في كل استحقاق انتخابي.
وحتى الآن، ما زالت الأصوات الثائرة الداعية إلى التغيير لا تملك امتداداً مجتمعياً، ولا قواعد نضالية قادرة على وضعهم في صدراة المشهد، مكتفين بإشهار سلاح المقاطعة الذي، وعلى الرغم من وجود أسباب تبدو منطقية له من وجه نظرهم، لا يتعدى في حقيقة الأمر كونه أوكسجين السلطة المتجددة، ومداد القوى المحافظة الذي لا ينضب.
وتبقى جملة رئيس البرلمان السابق معاذ بوشارب المتهكمة، سارية المفعول للأسف حتى إشعار آخر: "أقول للحالمين بالتغيير أحلاماً سعيدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين