شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
العمارة كمسرح لخيال طفل... كيف صمّم أطفال سوريون مدناً أكثر

العمارة كمسرح لخيال طفل... كيف صمّم أطفال سوريون مدناً أكثر "ألفة"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 20 يونيو 202102:43 م

ماذا لو جمعنا خيال الأطفال وأعدنا تشكيله بأدوات معمارية؟ ما النتيجة التي سنحصل عليها؟

كان العرض الفني البصري، الذي أقيم في العاصمة السورية دمشق، الأسبوع الفائت، كمنتج تفاعلي لورشة عمل "إذا أنا هون" التي استمرت أربعة أشهر، محاولة للإجابة عن هذا التساؤل، بعد العمل مع معماريين وأطفال على تعزيز مفهوم المسرح وأهميته في فهم المكان الذي نعيش فيه.

ماذا لو جمعنا خيال الأطفال وأعدنا تشكيله بأدوات معمارية؟

"هي تجربة مكانية لنبش الجانب الفني من العمارة، من خلال تعزيز مفهوم الانتماء للمكان وفهم الواقع المحيط بكل فرد، ودورنا في تصحيحه وجعله 'مكاننا'"، تقول المهندسة رغد عزقول، المسؤولة عن المشروع، في لقاء مع رصيف22، وتضيف بأن العمل استهدف فئتين، الأولى هي المعماريون، سواء أكانوا طلاباً أم خريجين، بوضعهم ضمن فضاء المسرح لخلق حالة جديدة لديهم من اللعب وتحريك المشاعر والخيال، ومراقبة تأثير المسرح على فكرهم المعماري، والفئة الثانية هي الأطفال، بسبب أهمية الطفل في بناء المجتمعات، وأهمية خياله الحرّ في التأثير على المكان بطريقة غير اعتيادية، فوُضعوا ضمن فضاء المسرح لتفجير خيالهم وقدراتهم، والسعي من خلال اللعب لتعزيز الانتماء وفهم المكان الذي يعيشون فيه.

بذلك، عمل مشروع "إذا أنا هون" مع الفئتين في نفس الفضاء المسرحي، لمراقبة تأثير الطفل والمعماري على بعضهما. الطفل بخياله والمعماري بفكره، لتحقيق هدف الوصول إلى الطفل المعماري والمعماري الطفل.

من العرض النهائي لمشروع "إذا أنا هون"


الفكرة: حارة وعائلات وأطفال

تمحورت الورشة حول قصة حارة تشبه كثيراً من حارات دمشق، تعيش فيها عائلات ضمن أبنية وشقق متجاورة، اتّخذ أطفالها الشارع ملعباً لكرة القدم، يقضون فيه وقتهم منذ الصباح وحتى المساء. وكعادة الجيران والأشخاص الكبار في السن، تثير أصوات الأطفال غضبهم، فيبدؤون بتنبيههم وتهديدهم بأخذ الكرة، ليهدؤوا قليلاً ثم يعاودوا اللعب وكأن شيئاً لم يكن.

المشكلة هنا أن الأطفال لا يملكون مكاناً للّعب غير شارع حارتهم، وهي مشكلة عامة في المدن السورية التي يندر أن تحتوي مساحات مخصصة للأطفال، والجيران ليس لديهم ما يقومون به سوى تفريغ غضبهم بالصراخ، وهم أيضاً يعانون من الملل والفراغ في مجتمع لا يقدم الكثير لهذه الفئة العمرية. "بذلك يأتي دورنا لمحاولة فهم الطرفين، ومن هنا بدأت فكرة المشروع: إذا أنا هون شو بعمل؟"، تقول رغد.

هذا الفهم تمّ عن طريق ربط الإنسان بالمكان وبناء مجتمع قائم على تفاعل سكانه بطريقة إيجابية بنّاءة، من خلال المسرح، فهو بالنسبة للطفل عالم لتنمية خياله وتركيزه والتعبير عن ذاته، للوصول إلى اكتشاف شخصيته وفهم عالمه المحيط مهما بلغت صعوبته وتعقيده. وكذلك بالنسبة للمعماريين، فهم يصنعون مكاناً في مخيلتهم، ويتحرّكون ويؤدون وظائف ضمنه قبل البدء بعمليات البناء. من هذا المنطلق يساعدهم المسرح على فهم المكان من خلال لعب أدوار وشخصيات مستخدميه، للإجابة على السؤال الأساسي عند التفكير بأيّ مشروع معماري: لو كنت أنا في هذا المكان كيف سأتصرّف؟ على المعماري بالضرورة أن يعيش شخصيات عديدة للوصول إلى تصميم صحيح وفعّال وإنساني.

هدفنا ربط الإنسان بالمكان وبناء مجتمع قائم على تفاعل سكانه بطريقة إيجابية بنّاءة من خلال المسرح، فهو بالنسبة للطفل عالم لتنمية خياله والوصول إلى اكتشاف شخصيته وفهم عالمه المحيط، والمعماريون يصنعون مكاناً في مخيلتهم، ويتحرّكون ضمنه قبل البدء بعمليات البناء


اللعبة: تجربة وتواصل وخيال

بدأت اللعبة –التي كنتُ جزءاً منها- بفريقين من سبعة مهندسين وستة أطفال، يتفاعلون في فضاء مفتوح على العديد من الافتراضات.

تتالت التمارين والتدريبات، لنصبح كأننا فريق واحد مكون من ثلاثة عشر طفلاً، يحاولون اكتشاف المكان من حولهم. كانت طريقة خلق التواصل بين فئتين عمريتين متباعدتين من أكبر تساؤلات المشروع، لكن ما حدث فاق توقعاتنا، فقد تطوّرت قدرة الأطفال على طرح الأسئلة ونقاشها دون تردد، كما تمكّن المهندسون من استعمال لغة مبسطة للحديث عن المواضيع المعمارية، ثم أعدنا توجيه المسار التجريبي إلى إمكانية التعامل مع مكان حقيقي فعلاً، والعمل على حي موجود (هو نفسه الذي تتواجد فيه قاعة التدريب)، بين خيال الطفل وأدوات المعماري لخدمة هذا الخيال وتشكيله، فتجوّلنا في المكان مع الأطفال لتسجيل السلبيات والإيجابيات والأفكار، وأحياناً بعض الرسومات، وفق آرائنا المشتركة.

من ورشة "إذا أنا هون" مع الأطفال والمعماريين

كان من اللافت سماع تعليقات الأطفال على المكان والفراغ العام، والأفكار المقترحة للتعديل عليه ليصبح ملائماً أكثر للحياة من وجهة نظرهم.

قال عدنان (10 أعوام): "لو بدنا نغيّر المكان ليصير أفضل، ما فينا نهدّ بناية وفيها عالم مضطرين يضلوا ساكنين، وين بدن يروحوا؟! ما لازم يعيشوا بالشوارع، هم ناس عندن حق يعيشوا ببيوت وبمكان آمن"، كما أن سيلين (8 أعوام) طرحت فكرتها لتوسيع مكان اللعب في الحي وإذ بها تشرح مفهوم التشاركية: "صرلنا زمان ساكنين ببيتنا، صار في أله معنى جواتي. لكن لما بدنا نقعد بالحارة بيقلولنا ما تقعدوا لأنه هاد المدخل للجيران. في شي اسمه تشارك، مو أنو إذا عايش هون بيكون كل شي أله، الشارع مشترك والكل بيجي عليه".

بالنسبة لإسراء (9 أعوام) فالأمر مختلف بعض الشيء. هي التي نزحت مع عائلتها عدة مرات خلال سنوات الحرب، أخبرتنا بأنها لم تمتلك يوماً مكاناً استطاعت أن تدعوه "مكاني"، نتيجة النزوح المتكرر، لكن المشروع أتاح لها فرصة التفكير بالمكان الذي تحلم به، كما فتح أمامها مجالاً لصداقات كانت الحرب والصور النمطية عن النازحين ضمن المجتمعات المضيفة، تقف حجر عثرة في طريقها.

على الرغم من بساطة الفكرة، إلا أن لها أهمية بالغة. أتمنى جعل الفكرة الأساسية هي تصميم الأطفال لمكان اللعب الخاص بهم، بدلاً من وضعهم في بيئة جاهزة قد لا تكون مريحة لهم

ملاحظات الأطفال لتفاصيل الشارع وتصنيفها حسب درجة مناسبتها لرغباتهم كانت على بساطتها تعبر فعلاً عن الحي وملاءمته لراحة ساكنيه، وأضافت إلى زوايا رؤيتنا للمكان، نحن المعنيين بشكل أكبر بالعمران كمهنة.

تحوّلت قاعة التدريب لتحاكي شكل الحي المتخيل، برسوم جدارية ملونة تعبر عن المباني الموجودة أصلاً وتموضعها، وقد غيّر الأطفال ألوانها لتصبح أكثر ألفة. الفراغ الوسطي الذي يضمّ حديقة صغيرة تحول إلى حديقة أوسع وبحيرة، كما امتد الرصيف ليشكل مكاناً مخصصاً للعب تغطيه غيمة. السيارات ليس لها مكان مخصص في حيّنا المبتكر، وضعتها مخيلة الصغار في أبعد نقطة عن بصرهم وهي أسطح المباني، كي تفسح مجالاً لأنشطة أكثر أهمية من وجهة نظرهم.

الذاكرة، الخيال، التركيز والتفاصيل كانت العناوين العريضة للتدريبات، لم نلحظ أثرها إلا عند التحضير للعرض النهائي، تقول رغد: "كان التركيز في بداية المشروع على الطفل. المهندس في تلك المرحلة كان أشبه بالمساعد، لكن مع تطور المسار، تحول التركيز ليشمل رصد تأثير التجربة على شخصية المهندس بنفس السوية".

تشرح روز (23 عاماً)، وهي إحدى المهندسات المشاركات في الورشة: "أتاحت لنا هذه التجربة الفرصة للتفكير في تفاصيل لم نتطرق إليها من قبل، كبناء مجسم لمكاننا المفضل"، ويضيف سليمان (12 سنة): "أحببت أنني أستطيع التواصل مع المجموعة بكل أريحية. أصبحوا أصدقائي وليس مجرد أشخاص أكبر مني سناً، أخاف الحديث معهم أو طرح أفكاري أمامهم".

من ورشة "إذا أنا هون" مع الأطفال والمعماريين


العرض: عصا سحرية

تحركت عصا سحرية في الحي المدروس لتسترق النظر إلى عالم الأطفال وأمنياتهم حول المكان الذي يفضلون الحياة فيه. كنا نحن أيضاً أطفالاً نحرك أقصى ما يمكن أن تصنعه مخيلتنا، بعيداً عن تكلّف الهندسة المعمارية وقيودها المكانية. وكفريق مسلّح بالألوان والأحلام نقلنا "حيّنا المتخيّل" إلى الفراغ المسرحي ليشاركنا به أهالي الأطفال، في محاولة لتغيير طرق التعامل مع الطفل ومساعدته لمعرفة احتياجاته.

يبدأ العرض بجولة في الحي للتعرّف على المكان المدروس ومكوناته، ثم عُرض فيلم قصير يوثّق مراحل ورشة العمل والرسومات المتعلقة بالحيّ المدروس وتجهيز المكان بناءً عليها، ثم تُحرّك إحدى الصغيرات عصاها الملونة "أبرا كا دابرا" لتشعل الأضواء وتدعو المتفرجين للتحرك في الحيّ المتخيّل. تشرح حوارات بين أفراد الفريق، أطفالاً ومعماريين، ما صنعناه، وتفتح باب النقاش والأسئلة من قبل المتفرجين حول تجربة فريدة لم يألفها المجتمع السوري من قبل.

من العرض النهائي لورشة "إذا أنا هون"

ردود الأفعال كانت أيضاً غير متوقعة تجاه هذا النوع من الطرح، وكان الملفت تفاعل الأطفال مع أسئلة المتفرجين ومسارعتهم للإجابة وتوضيح الأفكار الموجودة في حيّنا المتخيّل، كما أنّ العرض حرّك لدى المتلقين أفكاراً ومقترحاتٍ جديدةً لأعمال مشابهة. ومن الانطباعات التي تركها الحضور عن العرض:

"العالم كثير أحلى لو منشوفه بعيون الأطفال".

"في شي بيصوّرلك شو موجود جنبنا وشو موجود بين إيدينا، وفي شي بيصوّرلك شو قادرين نغير بالموجود. بين كل الأماكن الواسعة اللي عم تحبسنا بين حيطان كثيرة، شفنا مكان بمساحة صغيرة وروح أوسع، بيسمحلنا نحلم من أول وجديد".

"على الرغم من بساطة الفكرة، إلا أن لها أهمية بالغة. أتمنى جعل الفكرة الأساسية هي تصميم الأطفال لمكان اللعب الخاص بهم، بدلاً من وضعهم في بيئة جاهزة قد لا تكون مريحة لهم".

يبني الطفل من خلال ألعابه وفي خياله أماكن يراها مناسبة له، فهو بحاجة دائمة إلى فراغ للتعبير عن ذاته وتفريغ طاقته، إن كان ذلك في المنزل أو الشارع أو المدرسة أو البيت. لذا كان الربط بين المعماري والطفل ضمن حيّز المسرح، ليساعد الطفل على فهم المكان وتوزيع طاقته ضمن هذا الحيّز بشكل أفضل بمساعدة المعماري، بالمقابل ليقدم الإلهام للمعماري وينقله لمخيلة الطفل الواسعة عند تصميم أي مشروع.

تجدر الإشارة إلى أن إنجاز هذا المسار التجريبي كان بدعم من مؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة، ضمن برنامج "ابتكر سوريا"، وبالتعاون مع المركز الثقافي البريطاني ودعم من مؤسسة ميميتا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard