شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
سيادة اللواء المحترم يسكن في حارتنا الشعبية

سيادة اللواء المحترم يسكن في حارتنا الشعبية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 20 مايو 202103:17 م

"حضرتك ضابط"، نزل علي السؤال من عامل النظافة، بعد أن انتهى وزوجته من تنظيف المنزل، كالصاعقة، هو يعرف أنني من "شلة" الصحافيين.

وبعد صمت رهيب، متوتر، ربما فاجأه صمتي، لعلّ عيني كانتا متسعتين وهما تنظران إليه، أخبرني أنه "يخدم" في بيوت كثيرة، وأنّ معظم الناس الذين يفضلون العزلة، ولا يحبون الزواج والارتباط يكونون من رتب متقدمة في الجيش أو الشرطة.

أعطيته سيجارة، ونظرت زوجته برغبة مكبوتة إلى السيجارة، فهي تدخن ولكن في السر، عرفت أني رأيتها تدخن، ولكن الالتزام بالتقاليد الذكورية ألجمتها.

حكى لي زوجها عن أفضل الناس الذين قابلهم، لواء متقاعد، وأكثر من مرة يفتتح جملته بعبارة آلمتني "ما يتخيرش عنك تمام"، كيف يستمتع بعزلته، وهو أيضاً يحسن معاملته "زيك تمام"، على عكس الآخرين، يمنعونه عن حقه أحياناً، ويبخسونه في كل الحالات إلا باستثناءات قليلة.

ولكن، لأن كل شخص له عيوب، فما يعيب سيادة اللواء؟ سألني: "إنت بتحب الأطفال ودوشتهم"، أجبته بالنفي القاطع، ليعيد جملته الافتتاحية "هو زي حضرتك تمام، وهو ده عيبه، مرة جبت ابني يلعب في الجنينة ويشم هوا، زعق لي جامد، إني شوهت خلوته وعزلته".

كنت أنظر في عينيه ملياً، وآلمني أن الرجل يتحدث بصدق، بلا تصنع.

الصورة الأولى: التواضع

منذ صغري وأنا أنفر من الشرطة والجيش، وكل من يعملون فيهما، والسبب الأكبر هو كرهي للحياة الانضباطية، القائمة على السمع والطاعة، وضغط عليّ والدي أن أحداً منا (أنا وإخوتي) من المهم أن يلتحق بالجيش أو الشرطة، لتشريف العائلة اجتماعياً، إلا أن أخوي رفضا، أخي الأكبر فقط قدم أوراقه للالتحاق بكلية الشرطة، ولكنها رُفضت، ورفض جميعنا التقدم للالتحاق بالجيش كضابط.

فما الذي يجعل شخصيتي شبيهة إلى هذه الدرجة بهؤلاء في عينيه؟

لا أعرف هل هي من قبيل المصادفة، أم أني لم أكن أنتبه، أن إحدى صديقاتي قبل أن نتفق على موعد للقاء، تقول لي مبتسمة: "إزيك يا سيادة اللواء؟"، سألتها جاداً، ما الذي يجعلك تنعتيني بهذا الوصف، "ما تعقدش وتفلسف في الأمور، دي كلمة الناس بتقولها لأي حد بيحترموه قوي، واسأل أي حد من أصحابك".

تذكرت هنا صديقي سعيد، أربعيني حلاق يسكن في السيدة زينب، ويعاني من بعض الاضطرابات النفسية، التي تشتد أحياناً، وهو يحكي لي عن سيادة اللواء الذي يحبه، ويحترمه أكثر من أي شخص آخر، خاصة أنه يسكن في حارتهم الشعبية.

يجادل صديقي مدافعاً عن سمو شخصية اللواء، التي تسكن في حارته الشعبية، إحدى أبرز حججه إصراره على الحياة مع البسطاء، ورفضه أن يلتحق بسكان الكومبوندات، ويبرر ذلك بأصالته، وكأن وجوده يمنح هذا المكان روحاً وقيمة.

ويذكر الكثير من السماسرة رتب رجال الشرطة العالية، عند ترويجهم لتأجير شقة سكنية، إذا كانوا من الجيران، يرددون دائماً "ده في ضابط كبير حيبقى جارك، اللواء فلان ساكن في العمارة دي"، كنوع من الامتياز، وزيادة الأمان ربما.

يضفي صديقي الحلاق ميزات سحرية على شخصية لوائه، فهو الوحيد من بين جميع الأطباء يعرف مرضه النفسي الغريب، الذي يجعله يسمع أصواتاً، ويصيغ عقله الباطن من اللحظات اليومية العابرة دراما خيالية، الحبة الحمراء التي يعطيها له، تسكن كل تلك الأصوات.

ويرفض اللواء أن يخبره باسمها، ولا يعطيها له كثيراً، حتى لا يعتمد عليها، ويوصيه دائماً بالرياضة والصلاة والاهتمام بعمله ما دام حياً.

عندما أراد سيادة اللواء أن يغازلها في مقهى بمدينة ريفية في محافظة المنوفية، همس في أذن القهوجي، لتجد طلباتها مقدمة، مدفوعة الأجر، مشفوعة بعلبة سجائر "إل إم أحمر" التي تفضل أن تشربها

يرسم صورة جسده بريشة أقرب للفنان، جسده الرياضي، الترينج الماركة، صوته المهيب، نظرته التي تخترقك، وتعريك، ابتسامته، ابتسامة العارف بكل آلامك، حتى عندما يقول كلاماً عابراً مثل "ربنا يسهلك"، "ربنا بيكرمها"، كأنها كلمات عارفة، تحدد مصير حياتك.

يبالغ صديقي في وصف اللواء إلى الدرجة التي شككت كثيراً في وجوده، وأن تكون إحدى علامات اضطراباته النفسية.

مكافحتي الطويلة لأعراض العصاب والاضطرابات النفسية جعلتني متبصراً بإمكانيات الوعي المختلف التي يتيحها، عجز عقلك عن البرمجة المنضبطة، في استقبال إشارات الحواس، وترجمتها بطريقة اتفق عليها الناس أنها واعية، وواقعية، وعملية.

صدقت صديقي، لا حديثه عن شخصية اللواء الواقعية، ولكن تجسيد كلماته لحقيقة نفسية، لمشاعر أصيلة حيال هذه الشريحة من المجتمع، التي تمسك بيدها مقاليد كل شيء مرتبط بحياتنا، الثروة، والتعليم، والسلطة وبالتالي المكانة الاجتماعية، والقيمة النفسية التي يتربعون عليها، وانتزعوها من باشوات محمد علي، وعمدهم في قرى الأقاليم.

الصورة الثانية: التمكين

صورة أخرى رسمها خيالي لنمط شخصية اللواء، ودعنا نوسع الدائرة للرتب العسكرية الكبيرة بداية من العقيد فما فوق، أتقنت رسمها صديقتي هناء.

هناء (24 عاماً) هي الأخرى تعتبر اللواء الذي تعرفه هو أفضل الناس، وأنبل الناس، وأكرم الناس.

عندما أراد سيادة اللواء أن يغازلها في مقهى بمدينة ريفية في محافظة المنوفية، همس في أذن القهوجي، لتجد طلباتها مقدمة، مدفوعة الأجر، مشفوعة بعلبة سجائر "إل إم أحمر" التي تفضل أن تشربها.

سألته ماذا يريد منها؟ أجابها لا شيء، "أن يفرّجها على الدنيا"، كانت تتغنى بنبل أخلاقه، لم ينظر لها نظرة حقيرة كما يفعل كل أصدقائها، نظراً لانفتاحها الجنسي، وتعدد علاقاتها الحميمية، وعندما وقعت في أزمة مالية، وطلبت من الجميع مساعدتها، لم أستطع بمعاونة ثلاثة من أصدقائي أن نوفر لها عملاً باستثناء شعالة في سوبر ماركت بمرتب ثلاثة آلاف جنيه (ما يقارب مائتي دولار).

وبعد تردد كبير، طلبت هناء من سيادة اللواء أن يساعدها، فوفر لها وظيفة، هي ما كانت تحلم بها فعلاً، سكرتيرة شؤون مالية في شركة كبيرة.

جعلني ذلك أعيد التفكير في نمط "العمدة" القديم، وهو الممثل لسلطة البشوات من بقايا عائلة محمد علي، كانت جدتي تحكي لي أن "عمدة بلدنا" كان يسكن في وسط مساكننا، وعندما يمر أحد الفلاحين قرب بيته، ينزل من حماره، وينزع حذاءه إجلالاً ومهابة، ولا تزال لفظة "عمدة" ينادي بها الناس بعضهم بعضاً، دلالة على التعظيم والإجلال في القرى، تماماً مثل مفردة "اللواء" المنتشرة في ضواحي القاهرة، والأحياء الشعبية، وبين بقايا الطبقة الوسطى المتهالكة.

نمط من العلاقات الزبائنية يشكل آليات الترقي الاجتماعي، والحيازة على فرص استثمارات، وقد رفضت مصر الانصياع لأحد شروط البنك الدولي، بضرورة وجود مناقصات تجارية شفافة ونزيهة غير مرتبطة بالسلطة/الدولة، ليتم استنساخ هذا النمط في نسيج العلاقات الاجتماعية.


الشخصيات الطموحة في مصر تسعى لأن تكون "مسنودة من فوق"، ويكون لديها شبكة من العلاقات المتبادلة، لدرجة معينة من الترقي المادي والاجتماعي، يمكن أن تقيس نفوذك في قدرتك وسط محيطك الوظيفي على تسكين البعض في وظائف ومرتبات لائقة، وهكذا تتبادل الخدمات مع آخرين ذوي نفوذ، وعندما تُراكم درجة معينة من النفوذ، يمكن حينها أن تفكر في أن تكون شخصية عامة، تترشح في انتخابات نقابية تابعة لوظيفتك، أو تقوم بعمل خدمي كبير، أو تترشح لمجلس الشعب، ونجاحك هو دلالة قوية على مدى النفوذ والتمكين الاقتصادي الذي تتمتع به.

حتى في وسطنا الإعلامي والصحافي، لا يميز العديد من الناشطين هؤلاء الذين يجرؤون على انتقاد مباشر وواضح للسلطة، دون أن يمسهم سوء، اعتقال أو ملاحقة قضائية أو فصل تعسفي من المؤسسة التي يعملون بها، سوى أنهم "مسنودين"، و"ليهم ظهر".

في الوسط الصحافي تشاع لفظة "مولانا" أكثر من "عمدة"  أو "لواء"، "مولانا" هي لفظة مقتبسة من حالة الولي الصوفي، ويمكن أن نضع تعريفاً لها بأنها تعكس سمات الشخص زعيم الشلة، الذي يتولى أمورها الروحية، ونصائح بخصوص العمل والمكاسب، نابعة من خبرته، وأخلاقياته وعلاقاته.

حكايات تبدو مفرطة يتداولها الناس عن شخصية اللواء في المجتمع المصري، تعكس المهابة، والاحترام، حتى إذا أراد البعض أن يبالغ في تقدير شخص ناداه بـ"سيادة اللوا"

كثيرون هم من أصدقائي الذين طلّقوا العمل الثقافي والإعلامي وسط المثقفين والصحافيين، ولجأوا إلى العمل الحر، أو ترك المجال بشكل عام، خاصة السياسة في فترة ما قبل الإطاحة بمحمد مرسي، حتى يتحرروا من اضطرارهم إلى الخضوع المذل لـ"مولانا"، أو كما نسميها "الشللية" أي الزبائنية.

ولكن بعد تأميم العمل الصحافي أمنياً، وتغول الأجهزة التنفيذية، المخابرات العسكرية والداخلية، في تفاصيل تمويله، بل المجال الفني والثقافي أيضاً، تم تقويض السلطة الرفيعة التي كان يتمتع بها "العمد" و"الأولياء"، في أوساط المهن السائلة بشكل عام، والإعلامية أو الثقافية والسياسية والحقوقية، حتى ما يمكن أن يوفروه لغيرهم لم يعد مجد اقتصادياً، ليعلو شأن الرتب الرفيعة في الجيش والداخلية، وعلى رأسهم يتربع اللواء.

الصورة الثالثة: الناشط أو الذات الفاعلة

إلى أي مدى يستطيع أن يستمر نموذج اللواء بهالاته الغامضة والمهيبة والمحببة أحياناً، أو بلغة أخرى إلى أي مدى يمكن أن يصمد اللواء المحترم في الحارة الشعبية؟

وإن صمد نموذج اللواء المحترم، الأصيل، الذي لا يتنكر لحيرانه وأصله، فلن تصمد الحارة الشعبية، تغيرات التكنولوجيا، وتغول مؤسسات مصرفية دولية في رسم السياسات الاقتصادية للبلد، أحدثت وتحدث وستحدث تغيرات جذرية على الحارة الشعبية.

النموذج المحترم الذي سيحل محل اللواء، هو الناشط، الذي بزغ في عام 2007، وتوهج في بداية ثورة يناير 2011، وسكن وجدان طائفة واسعة من الشباب.

ومثلما فعل البكباشي جمال عبد الناصر مع الإخوان المسلمين، فعل سيادة اللواء عبد الفتاح السيسي مع النشطاء المدنيين، أو دعاة الديمقراطية والحريات كما يصفهم الإعلام الغربي والمستقل، نحن أمام مستقبل محتمل، أخلاقي ومديني، يتم قمعه بلا مبررات مقنعة، هذه الرؤية روج لها عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين في كتاب "براديغما جديدة لفهم عالم اليوم".

في المقابل، إن تغول السلطة الأمنية والعسكرية في احتكارها للثروات ومقاليد الفاعلية الاجتماعية، له تأثير سلبي مقوض للسلطة نفسها، إن هذه الآلية لن تعزز أو تسمح بظهور أفراد أو نماذج اجتماعية من الفاعلين المستفيدين (قيادات الجيش والشرطة)، تكون فاعلة وناشطة بشكل نظيف وإيجابي في المجال العام، لأن ذلك يهدد شرعية تغولها المجحف.

بحسب رؤية آلان تورين، فإن التكنولوجيا بأشكال الوظائف السائلة التي تنتجها، تعزز وجود مهنيين يتعاملون مع العمل باعتباره خبرة نفسية وحياتية، وليس تأميناً مالياً يستمتعون به في العطل والإجازات والشيخوخة، ينشدون الحصول على عدد ساعات عمل أقل، ليطوروا أنفسهم، وليعيدوا تهيئة أنفسهم للمتغيرات التي تخص مهنهم.

سيقاس تطور المجتمعات بمدى تعزيز حريات ومساحات الحركة والتحقق للفرد الناشط أو "الذات الفاعلة".

هذا النمط الوظيفي سيخلق نشطاء فاعلين في محيطهم الوظيفي والاجتماعي/الافتراضي، وستفقد حتى المجتمعات الأوروبية المتقدمة القدرة على توليد ذاتها من ذاتها، بإيمانها القديم في قدرة المجتمع الحر على التغير والتطور بمؤسساته المنظمة، وسيقاس تطور المجتمعات بمدى تعزيز حريات ومساحات الحركة والتحقق للفرد الناشط أو "الذات الفاعلة".

ستجبر، كما يقول تورين، الدول النامية على إعادة التعامل مع مواطنيها بطريقة مختلفة، بحكم متطلبات الإنتاجية العالية لتنجو اقتصادياً، وستحفزهم الظروف المتغيرة على الانخراط أكثر في سوق التكنولوجيا، لزيادة عائداتها ومداخيلها.

التغيير الاجتماعي الذي تحدثه التكنولوجيا كبير وجذري، إنها توفر فرصاً عديدة للترقي الاجتماعي، والتمكين الاقتصادي، فرصاً متحررة من الاشتراطات الاجتماعية المرتبطة بالدولة القومية، أو النظام، وبطريقة نظيفة، وأخلاقية، في المقابل تميل الوظائف التقليدية، التي تمكن أصحابها من الاستقلالية والفاعلية، إلى المحسوبية والشللية.

ومن يدري، ربما في السنوات القليلة القادمة سنشهد في مصر أفول عصر الألوية، وبروز عصر النشطاء الفردانيين، مع الانحلال التام لبقايا النقابات والأحزاب، وكذلك النسيج الاجتماعي القديم القائم على الأسرة والدين.

ولكن المثير للسخرية والحزن، إذا تحققت رؤية آلان تورين، أن هذا التغيير لن يكون مدفوعاً بالزخم الشاعري والأخلاقي للنشطاء السياسيين، ولكن بشروط المؤسسات المصرفية الدولية، وفاعلية التكنولوجيا في إذابة التماسك الاجتماعي بالطريقة القديمة، وإحلال سيولة فارغة مكانها، لبروز نزعات التسلط المؤسساتي والسياسي من ناحية، ولمكانة فردانية كذلك، ممكَّنة اقتصادياً، وفاعلة اجتماعياً، ومؤثرة أخلاقياً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image