البيئة وتحديات "التوحد"
هناك طفل مصاب بالتوحد من كل 160 طفلاً، وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية. ويوجد في مصر حوالي 800 ألف طفل متوحد، وعرّفت المنظمة التوحّد باعتباره مجموعة من الاضطرابات المعقدة في نمو الدماغ، أما جمعية الطب النفسي الأمريكية فقالت إن المصابين به، يعانون من ضعف في المهارات الاجتماعية، واللغوية، وسلوك نمطي متكررة. وتبدأ ظهور الأعراض مبكراً من عمر الطفل، ما بين عمر عامين إلى 3 أعوام، لا توجد حالتان متشابهتان، هناك أنواع وأطياف مختلفة للمرض، لدى كل منها حساسية بدرجات متفاوتة ومختلفة.
لا يوجد علاج حتى الآن، لكن العلاجات السلوكية تحسّن تواصلهم الاجتماعي، وتؤثّر إيجابياً في حياتهم، إلا أن هذه العملية العلاجية يمكن أن تقابلها عدة مشكلات تمثل تحدياً، أبرزها هي البيئة المحيطة بهم.
"التفاصيل الكثيرة تشتّتهم وتسبّب غضبهم"، تقول د. نهال ياسر، مديرة وحدة أطفال التوحد النهارية بمستشفى العباسية في القاهرة، لرصيف22، متفقة أيضاً مع ما أشارت إليه الجمعية الوطنية للتوحد بلندن، في أحد أبرز حملاتها "Too Much Information" التي استمرّت في الفترة بين عامي 2015 و2018، لتعريف المجتمع باحتياجات أطفال التوحد.
الوعي المجتمعي بالتوحد قليل، فبحسب تقرير الحملة، هناك 16% من المصابين فقط يشعرون أن العالم يفهمهم، ويقدر حجم مرضهم، وأكدت الحملة أن الضوضاء، والأصوات المرتفعة، والروائح النفاذة، والأضواء المبهرة، تسبّب تشتتاً، وألماً، وقلقاً لهم، إذن هذه هي التحديات التي ينبغي أن يقدم المعماريون حلاً لها.
تخيّل أنك سمعت انفجار قنبلة بجوار أذنك؟ هذا بالضبط ما يشعر به الطفل المصاب بالتوحد تجاه الأصوات المرتفعة. وليست الأصوات وحدها ما تزعجهم
د. ياسر قالت إن الحوائط التي بها رسومات كثيرة، الألوان المتعددة، الإضاءة المتغيرة، عدم وجود علامات ترشد الطفل إلى طريقه والصوت العالي، كل ذلك يسبب مقاومة لديه، وقد يقع، ويدبدب على الأرض، ويرفض التعامل وأخذ جلسته، وبالتالي يؤثر ذلك على تحصيله وعلاجه.
معمار صديق للتوحد
أبحاث ودراسات قليلة في مصر قدمت حلولاً لتحسين بيئة أطفال التوحد، آخرها كان في ديسمبر الماضي، عبر رسالة ماجستير بكلية الهندسة، جامعة القاهرة (حصلت رصيف22 على نسخة منها)، للمعمارية الشيماء جلال، طرحت خلالها توصيات لأنسنة البيئة المحيطة بأطفال التوحد، لتسهيل حركتهم، تمكينهم من إيجاد طريقهم بسهولة، وكيلا يصبحوا عبئاً على أحد، سواء في البيت، المركز الطبي والمدرسة.
تنقَّلت جلال بين 4 محافظات مصرية "القاهرة، الجيزة، المنيا، سوهاج" وأجرت مقابلات واستبيانات مع إجمالي 22 عائلة لأطفال مصابين بالتوحد، بين 3 إلى 12 عاماً، و7 معماريين و37 معالجاً.طفل التوحد استثنائي، روتيني، فإذا تغير كرسي من مكانه قد يثير ذلك غضبه، ما اضطر أحد الآباء لاحتواء غضب ابنه المتكرر وإبقاء الأثاث كما هو، وتحديد ألوان مختلفة للغرف بالأزرق وللمطبخ بالأحمر، حتى يضمن أنه لن يدخله، بحسب رسالة الماجستير.
أما ميشيل بباوي، أخصائي نفسي بمستشفى العباسية، ووالد لطفل مصاب بالتوحد، كيرلس، 5 سنوات، فقال لرصيف22 إنه قام بتغيير تخصصه من العمل مع حالات الكبار إلى التعامل مع أطفال التوحد ليكون بجوار ابنه، وبدأ في تهيئة البيت ليتعامل معه. فدهن غرفة كيرلس باللون "الموف"، وجعل إضاءتها هادئة. مضيفاً أن طفله كان ينزعج بشدة عند سماع أصوات الشجار والصراخ من الشارع، لذلك هناك غرف متعددة وهادئة في البيت لاستقباله Escaping room، كما أنه ذكي بشكل كافي ليعرف مكان غرفته، وكيف يذهب إليها بمفرده، ومكان المطبخ.
"معمار صديق لأطفال التوحد" أو Autism Friendly Architecture، لعل أبرز المعماريين الرائدين في هذا المجال في مصر هي د. ماجدة مصطفى، أستاذ مساعد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. قدمت عدة أبحاث خلال سنوات بحثها في هذا المجال، منذ عام 2006 حتى الآن.أعدت د. مصطفى، بصحبة باحثين، "كتيباً" تصميمياً يحتوي على مجموعة من العناصر المعمارية التي يمكن أخذها بعين الاعتبار، أثناء تصميم المباني وتعديلها، لتكون صديقة للمتعايشين مع العالم الأزرق.
في عام 2008، قدمت مصطفى استراتيجية تصميم فريدة للبيئات التعليمية، حددت بها عناصر التصميم المعماري الأكثر تأثيراً على سلوك أطفال التوحد. وأشارت النتائج إلى أن الأصوات هي الأكثر تأثيراً، يليها التوزيع المكاني للعناصر والأنشطة في المساحات الفارغة، ثم الألوان والإضاءة والرائحة والملمس. ثم أجرت دراسة لتقييم واختبار تأثير العنصرين الأعلى مرتبة على الأطفال المصابين بالتوحد الذين يحضرون إلى المراكز التعليمية في القاهرة. بالنسبة للأصوات، أجرت تعديلات لعزل الصوت لتقليل الضوضاء، ثم تتبعت أداء الأطفال قبل وبعد التعديلات، وأكدت التأثير الإيجابي على زيادة الانتباه وتحسين السلوكيات وتقليل وقت الاستجابة.واتفقت معها في الرأي د. نهال ياسر، التي أكدت أن الأطفال يحبون الألوان الهادئة، ويؤثر اللون الأزرق بدرجاته في نفسيتهم، كما يحبون رؤية الصور على أرضيات سادة وفاتحة وذات ملمس واحد.
لماذا الأزرق وليس الأصفر؟
يفضل أطفال التوحد بأطيافه المختلفة، ألوان الطبيعة، كالأزرق والأخضر والبني، ولا يميلون إلى الألوان الدافئة مثل الأصفر والأحمر، بحسب نتائج لدراسة نشرت في دورية Frontiers in Psychology في ديسمبر 2016 بدعم من JSPS (الجمعية اليابانية لدعم العلوم)، أجراها كل من مارينا جراند جورج، محاضر في جامعة رينيز الفرنسية، ونوبو ماساتاكا، أستاذ في جامعة كويوتو اليابانية.
ورغم أنه مقابل كل فتاة هناك 4 ذكور مصابين بالتوحد، لكن لا يمكن أن نتجاهل هذه النتائج ولا نعتمدها بالتأكيد، حيث قارنت الدراسة 29 طفلاً مصاباً بالتوحد، تتراوح أعمارهم بين 4 و17 عاماً، بـ 38 طفلاً من نفس العمر من الأشخاص الطبيعيين جميعهم ذكور، لدراسة تفضيلهم لستة ألوان: الأحمر، الوردي، الأصفر، البني، الأخضر والأزرق.
"يرى مرضى التوحد الأصفر حملا زائداً، بسبب الإحساس المفرط".
ورجح الباحثان أنه نتيجة الإحساس المفرط لمرضى التوحد، يرون الأصفر حملاً زائداً ويسبب إرهاقهم نفسياً، عكس الأزرق والأخضر، بينما الألوان التي تخص الطبيعة مقبولة. ولأنهم يرسمون الألوان بمشاعرهم، فيمثل اللون الأحمر لهم لون وجه غاضب، كما نصحت الدراسة بتجنب اللون الأصفر حتى مع الإضاءة.
تروي د. نهال ياسر أنه في أحد المرات، كان هناك طفل من نوع "Hyper ASD" وكان كل شيء يقوم بتشتيته مهما كانت الألوان شاحبة أو الإضاءة خافتة، وكان التعامل مع حساسيته تحدياً لهم، سلطوا ضوء كشاف على الطفل بمفرده، وعلى الرسوم التي كان يدرسها وليس على المعالج معه حتى لا يتشتت، وتم إطفاء جميع مصادر الإضاءة، ونجحت خطتهم.
عالم معقد وبسيط
"رنة الجرس تشبه زلزالاً في رأسي"، كان هذا أبسط ما وصف به محمد، اسم مستعار، مصاب التوحد (12 عاماً)، كيف تثيره الأصوات المرتفعة، والتي لا ينتبه المعماريون كثيراً لوضع حلول لعزلها عن الأطفال، ويضيف: "عندما أعرف أنه سيرنّ، أشعر بالقلق ولا أستطيع التركيز، وعندما يرن أغطي أذني وأتأرجح للأمام وللخلف. وفي أحد الأيام لم يرن الجرس فقط في التاسعة صباحاً مرة واحدة كالمعتاد بالمدرسة، بل ظل يرن حتى التاسعة والنصف، اضطررت للبقاء في غرفة هادئة وبعيدة، وأبقيت يدي على أذني طوال اليوم لأنه كان يوماً سيئاً".
التأقلم مع البيئة المحيطة لأطفال التوحد يمثل تحدياً للمعماريين.
التأقلم مع البيئة المحيطة لأطفال التوحد يمثل تحدياً للمعماريين، بحسب مقال نشرته جوان سكوت لوف، محاضرة في العمارة الداخلية بجامعة ليدز بيكيت البريطانية، في موقع the conversation ، عن تأثير العمارة الصديقة لأطفال التوحد في تحسين حياتهم، وأكدت أنهم يتعاملون بطريقة مختلفة مع حواسهم، فيمكن أن ينتج عن تفاعلهم إما حساسية زائدة أو أقل من المعتاد، وأي تغيير مفاجئ في بيئتهم المحيطة قد يسبب نوبات قلق، والتي أحياناً يُساء فهمها بأنها نوبات غضب.
وعلى مدى 5 سنوات، أجرت سكوت بحثاً بدعم من جامعة بيكيت، حول كيفية تدريس تصميم بيئات التوحد لمصممين شباب، وكيفية تطبيقها مع 8 حالات لمدراس وكليات مختلفة. وحدد البحث طرقاً عدة يمكن للمدارس اتباعها لتعديل المساحات، لمساعدة الأطفال والشباب المصابين بالتوحد للتكيف مع محيطهم، وبالتالي التعلم بشكل أكثر فعالية.
تتحدث عبير بفخر عن ابنها سيد الذي أصبح بطلاً للجمهورية في رياضات الفروسية والسباحة، لكنها لم تكن رحلة سهلة على الإطلاق، بدأتها من إدراكها لتهيئة بيئته في البيت
واقترحت سكوت توفير أماكن فارغة مثل أسفل السلم أو التجاويف، إزالة باب خزانة ضيق، توفير مداخل متعددة تعطي الطفل الحق في اختيار إما طريق طويل مليء بالألعاب أو طريق قصير هادئ، وجود نوافذ لتعزز شعورهم بالاطمئنان، وتوفير أنشطة تحاكي الواقع لدمجهم مع العالم الخارجي بشكل أبسط، مثل متجر صغير لتعليمه كيفية الشراء والدفع مقابل مشترياته.
بيئة مزعجة
بحسب د. نهال فإن وحدة الأطفال بالعباسية والتي تديرها فيها عيوب بناء، منها طرق قريبة جداً من السلم، وذلك خلق مشكلة تشتيت لدى بعض الأطفال، حيث أن السلم الذي يخرج منه هو نفس السلم الذي يستعمله للذهاب إلى الجلسات، قائلة: "لما الطفل بيوصل عند الباب بيفكر إنه هيروح لكن بيكتشف إنه مش هيروح"، كما أن الباب ضيق، مضيفة أن هذه العيوب تؤدي إلى هدر وقت المعالج وتأخير العملية العلاجية للطفل وتسبب غضباً لبعض الأطفال.
لكن المعمارية جلال أكدت أنهم أوجدوا حلاً مؤقتاً وفعالاً لهذه المشكلة، كما توصلت خلال رسالتها إلى 37 توصية يمكن بها تعديل البيئة المحيطة بالطفل، أبرزها: استخدام إضاءة هادئة وطبيعية، عزل الضوضاء في الداخل والخارج، عزل الروائح النفاذة، جعل الحوائط منحنية وليس ذات حواف، وغيرها.
أما مؤمن فايز، مدير أكاديمية "أي كيدز" لرعاية أطفال التوحد، فقال لرصيف22: "إن الأداء البصري لطفل التوحد عال، فيحفظ كل شيء اعتماداً على صورة بصرية واضحة ومحددة، لذا ينبغي أن تكون الصورة بسيطة لتساعده على الحركة بسهولة"، مضيفاً أن أحد الأطفال كان يصاب بنوبات هلع وغضب تصل إلى حد إيذاء نفسه والمحيطين به، لأنه لم يكن يعرف طريق الذهاب إلى الحديقة والجيم، قائلاً: "عياط وانهيار بشكل هستيري، ولما بدأنا نعمل علامات وإشارات وأسهم واضحة للحديقة وللجيم بقى مبسوط وفرحان".بينما تتحدث عبير بفخر عن ابنها سيد الذي أصبح بطلاً للجمهورية في رياضات الفروسية والسباحة، لكنها لم تكن رحلة سهلة على الإطلاق، بدأتها من إدراكها لتهيئة بيئته في البيت، تقول لرصيف22: "كان بيتعصب من الصوت العالي، والزحمة، والأماكن المغلقة، والمساحة الصغيرة بتجبله نوبة غضب وصراخ".
وتضيف عبير: "فضيت أوضته، بقى فيها سرير ومكتب ودولاب ولعب وبس، لون الحيطان وردي فاتح أوي عشان ما يجيلوش اكتئاب، ولزقت على الحيطة كارتون بيحبه زي ميكي".
(ھذا التقریر نشر كجزء من مشاركة الكاتبة فى ورشة الصحافة العلمیة ومن خلال مشروع "العلم حكایة"، وھو أحد مشروعات معھد جوتة المموَّلة من قبل وزارة الخارجیة الألمانیة)
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي