تعدّى اهتمامي بالجانب المتعلّق بغذاء بناتي توفيرَ الطّعام لهنّ، إلى الجوانب الصّحّيّة والثّقافيّة والفنّيّة للطّعام، حتّى أنّ مكتبتي باتت تتوفّر على كتب ودراسات تتناول الجوانب الثّقافيّة والصّحّيّة والفنّيّة له.
قد أنسى أن أشتري سروالاً أو حذاءً أو أجدّد هاتفاً، لكنّني لا أنسى أن أوفّر لهنّ الأطعمة والأشربة التّي تقتضيها صحّتهنّ واكتسابهنّ لأذواق جديدة، خاصّةً تلك التّي تحتكر عناصرَ غذائيّة لا ينمو الجسد من دونها.
لقد أقلعت عن التّدخين بولادة ابنتي الأولى "علياء" عام 2009، وقلّلت من الأسفار بولادة ابنتي الرّابعة "خيال" عام 2018، وسخّرت المال الذّي أصبحت أربحه من ذلك ليوميات بناتي.
حيَل التذوّق
تشهّيتُ ملوخيّة في مدينة عنابة، فأتتني كريمةً من بيتٍ كريم هو بيت صديقي عبد الحقّ بوشيخ صاحب دار "الوسام العربيّ". كانت ملوخيّة ملكيّة تثير غيرة ملوخيّات العالم. الحقَّ أقول إنّني أصررت على الملوخيّة في عطلتي العنّابيّة هذه، ليس من باب التّشهّي الشّخصيّ فقط، بل أيضاً من باب سياستي في إطلاع بناتي على أكلات جديدة، فأنا لا أترك ذلك للصّدفة.
قبل الزّيارة بيومين تعمّدتُ أن أدعوهنّ إلى مواضيعَ في الإنترنيت تتعلّق بالملوخيّة. فعرفن تاريخها وطريقة إعدادها وبعض مزاياها، وأوغلتُ في مدحها، لعلمي المسبق بأنّهنّ سينفرن منها عند مواجهتها.
متى ننتبه إلى أنّنا أمام طفل يكبر نافراً من أطباق كثيرة، بعضها ضروريّ صحّيّاً من غير أن يبادر أبواه إلى امتصاص ذلك النّفور بطريقة مدروسة؟ وقد وصل ذلك النّفور إلى الحليب نفسه! فنحن بصدد طفل يقاطع الحليب ويشرب القهوة! ويقاطع العصير ويقبل على المشروب الغازيّ، بكلّ ما يترتّب عن ذلك من مضاعفات صحّيّة.
نحن مجتمع لا يملك ثقافة دقّ ناقوس الخطر عند تفشّي الاختلالات المتعلّقة بالصّحّة النّفسيّة والجسديّة لأطفاله، وهذا واحد من التّقصيرات التّي ستظهر نتائجها لاحقاً. ولو كنّا مجتمعاً مدنيّاً متفاعلاً ومواكباً لتحوّلاته لنشأت جمعيات كثيرة تتكفّل فقط بإعادة الحليب والعصير إلى أفواه أطفالنا، وفق برامج علميّة لا تقبل الارتجال.
أين هي وزارات الأسرة والطّفل؟ لماذا تحصر حضورها في محاولة التكفّل الماديّ بهذا الحقل ولا تهتمّ بالدّراسات المتعلّقة به؟ والدّليل أنّها تكون مرفوقةً دائماً بعبارة "التّضامن الوطنيّ"؟
كانت الملوخيّة آخر طبق وُضع على الطاولة. فقد سبقتها أطباق تثير اللّعاب. وكنت أمتدح الملوخيّة عند وضع كلّ طبق، حتّى أخلق التّهيُّئ النّفسيَّ لدى البنات.
وُضعت الملوخيّة بطريقة استعراضيّة (تصفيق - صياح)، فالطّفل ينجذب إلى كلّ شيء يُقدَّم له استعراضيّاً، لأنّه يخلق فيه انطباعاً بأنّه مهمّ واستثنائيّ (ما أبعد إشهاراتنا الموجّهة للأطفال عن الوعي بنفسيّة وذهنيّة الطّفل الجديد).
كان عليّ أن أشير إلى جمال لونها وروعة رائحتها، قبل أن أصبّ لهنّ. فتمّ قبولهن أن أصبّ. ثمّ كان عليّ أن أعدّهن لتقبّل المرارة الأوّليّة التّي سيجدنها فيها.
ليس من عادتي أن أربط التّرغيب والتّرهيب في معاقبة أو تشجيع بناتي بتقديم طعام أو حرمانهنّ منه؛ فلم أقل لهنّ إنّني سأمنعهنّ من تناول الأطباق الأخرى إذا لم يتناولن الملوخيّة. لا أحبّ أن أجعل الطّعام الذّي هو حاجة بيولوجيّة وهبةً ربّانية محلّ ابتزازٍ حتّى وإن كان ابتزازاً تربويّاً، بل وعدتهن بتوفير الـwifi في الشّقة.
لا أتدخل إلّا لجعلهنّ يُسقطن تجربة الطّبخ على الحياة. أليست الحياة طبخةً يا بنات؟ إذن عليكن بتعلّم الدّوزنة واحترام الوقت حتّى تكون طبخةً لذيذة
كانت أوّل "تيكتوكة" نشرتها "علياء" و"نجمة" في حسابهنّ المشترك فيديو قلن فيه: "نحترم من يأكل الملوخيّة. لكن لا نمنع أنفسنا من الاندهاش. كيف يستطيعون فعلَ ذلك؟" قلت لأمّهما: "فشلت المحاولة، والعزاء في أنّنا ربحنا أمراً مهمّاً هو أنّنا علّمناهنّ احترام الخصوصيّات الغذائيّة للآخرين." فالجزائريّ يسخر من الصّينيّ لأنّه يأكل الخفافيش والصّراصير والقرود والأفاعي، لكنّه لا يسخر من واقعه الذّي بات يبني فيه الصّينيون جسورَه وعماراتِه وطرقَه ومسجدَه الأعظم.
حيلة المشاركة
أشارك البنات إعداد الغداء للأسرة أثناء عطلنا. وليس الهدف من ذلك إراحة الزّوجة فقط بعد موسم كامل من الشّغل في البيت، خاصّةً بعد إرهاق شهر رمضان وإرهاق الحجر المنزليّ، بل أيضاً لأجل منح فرصة للبنات لأن يمارسن شغفهنّ بالطّبخ.
لستُ من النّوع الذّي يقول لابنته عندما تخطئ "تذكّري كونَكِ كبيرةً"، حتّى لا يجعلها الشّعور بالذّنب تتمنّى لو كانت كبيرةً فعلاً، فتعمل على تكبير نفسها، بما يحرمها من طفولتها، بل أربط الخطأ بالفعل نفسِه لا بالسّنّ. مع ذلك أدرك أنّ هناك هوامشَ موضوعيّةً تجعلهنّ أحياناً يستمتعن بتكبير أنفسهنّ؛ منها إعجابهنّ بأمّهن. ويأتي الدّخول إلى المطبخ في صدارة ممارسة ذلك الشّغف. ثمّ إنّهن يشاهدن فيديوهاتٍ لنجماتٍ طفلاتٍ يُقدِّمن فيها وصفاتٍ، ولا أحبّ أن تبقى عالقةً في أذهانهنّ، فأعمد إلى شراء عناصر تلك الوصفات وأطلق لهنّ العنان في المطبخ.
لا أتدخل إلّا لجعلهنّ يُسقطن تجربة الطّبخ على الحياة. أليست الحياة طبخةً يا بنات؟ إذن عليكن بتعلّم الدّوزنة واحترام الوقت حتّى تكون طبخةً لذيذة. يحدث أن تفشلن في الطّبخة، وهي فرصة لكنّ لتنجحن في المرّات القادمة، فالنّجاح ثمرة لتكرار المحاولة والإيمان بحصوله. يحدث أن تكون الكمّية أقلّ أو أكثر من الأفواه والبطون التّي ستتناولها، وهي فرصة لكُنّ لتتعلّمن ضبط المقادير.
يحدث أن تحترق الوجبة، وهي فرصة لكنّ لتتعلَّمن الانتباه والمتابعة. يحدث أن تصبح الوجبة رديئةً لوناً أو ذوقاً، وهي فرصة لكنّ لتتعلَّمن تحسين الأداء.يحدث أن يطرأ ضيف غير متوقّع، وهي فرصة لكنّ لتتعلَّمن تسيير المفاجأة. يحدث أن تعزن عن توفير عنصرٍ من عناصر الوجبة، وهي فرصة لكنّ لتتعلَّمن تسيير الوضع والأمر الواقع.
ثمّ يحدث أن تتعرّض الوجبة للتّتفيه من طرف الذّين لم يشاركوا في إعدادها، وهي فرصة لتتعلَّمن الثّقة في النّفس، إلّا إذا كان ذلك من باب النّصيحة والاقتراح، فتتعلَّمن الاستفادة من خبرات الآخرين. دافعن دائماً عن خياراتكنّ، وتمسكن بها، إلّا إذا ظهر لكنّ بعدُها عن الصّواب. ما رأيكنّ في إضافة شيءٍ من الزعتر؟ عليكنّ دائماً أن تبحثن عن البصمة واللّمسة الخاصّة؛ الحياة بنت التّميّز.
ذات مرة دخلت غرفة الاستحمام، فوجدت الحوض مليئاً يعلوه كتاب قد شبع ماءً. اكتشفت أنّ نجمة، نتيجة تعلّقها بالكتاب الذّي أحبّته، لم تصبر عليه، فدخلت به إلى الحمام. وفي غفلةٍ منها وقع الكتاب في الماء، فغادرت وتركته عائماً توقّعاً منها أن أعنِّفها
لا تكتفين بنقل الوصفة من المواقع والكتب والقنوات، بل أضفن لها شيئاً منكنّ. قد يبدو الأمرُ صعباً أو مفقوداً لكنّه موجود في دواخلكنّ. يحتاج فقط إلى الإيمان به ليظهر. فالثّقة بالنّفس لا تعني أن نكتفي بالتّذوّق الذّاتيّ. لا بدّ من تذويق الشّركاء في تناول الوجبة. من جهة نستفيد من الملاحظات، فنتفادى النّقائص، ومن جهة ثانية نمنحهم انطباعاً بأنّنا نطبخ من أجلهم أيضاً، فتتقوّى الرّوابط بيننا.
النّار. هل ضبطتنّ النّار كما يجب؟ الحرق هو أهمّ وظائفها؛ لذلك وجب الانتباه إلى ضبط النّار. وإلّا تحوّلت من عاملٍ مساعدٍ على إنضاج الطّبخة إلى عامل لحرقها.
هل تردن أن تبقين رشيقاتٍ؟ تجنّبن إذاً العناصرَ التّي تؤدّي إلى السّمنة أو إلى التّسوّس أو إلى المرض، حتّى وإن كانت لذيذة. فلا تخضعن للمتعة المؤقّتة، فتفقدن المتعة الدّائمة. وليس هناك متعة أكبر من متعة الصّحّة.
ها قد صارت طبختنا جاهزةً. لذيذةً. شهية. صحّيّةً. أنا فخور بكنّ. ألم أقل لكنّ إنّ النّجاح هو ثمرة للإيمان به؟ ما رأيكنّ في أن نرسل شيئاً لجارتنا؟ تصبح لذّة الطبخة مضاعفةً حين نتشاركها مع الآخرين. وإذا حدث أن صعب علينا أن نتنازل عن شيئٍ من طعامنا لغيرنا؛ فلنتذكّر مصدرَه. من رزقنا به؟ الله. هل كان قادراً على ألّا يفعل؟ نعم. إذن فلنكن مثل ربّنا كرماءَ ومحبّين للخير. بهذا تأخذ عبارة "باسم الله" التّي نبدأ بها أكلَنا معناها الحقيقي.
حيلة العفويّة
لا أحبّ أن تشعر بناتي بأنّهن خاضعات لبرامجَ تربويّةٍ من طرفي أو من طرف أمّهنّ. فقد طوّرن مقاومةً ذاتيّةً لكلّ ما هو مفروض عليهنّ. لذلك أعمل على جعلهنّ يتبنّين سلوكاً أو عادةً أو تفكيراً أو موقفاً أو ذوقاً أو رؤيةً معتقداتٍ أنّه نابع من دواخلهنّ، فيصلن إلى مرحلة الدّفاع عنه كما يُدافعن عن أغراضهنّ الخاصّة. ثمّ أحاول لاحقاً، حين ألمس تشرُّبَهن له، من باب التّأكّد، أن أتفِّهه أو أسفِّهه في أذهانهنّ، فألقى معارضةً شرسةً منهنّ، فأطمئنّ عليه فيهنَّ.
قبل رحلة عطلة الصّيف بأيّام، تعمدتُ أن أشاهد مع كلّ واحدةٍ على حدة فيلماً في اليوتيوب، وأوفّر المناخات والعوامل التّي تجعلها تتعلّق به، فأنخرط معها في الحديث عنه، وفي قراءة ومشاهدة مواضيعَ تتعلّق به، حتّى يزيد منسوب التّعلّق، ثمّ فجأةً أقدّم لها كتاباً اقتُبِس الفيلم منه.
إقبال البنت على الكتاب الذّي يُقدم لها بهذه الطّريقة يختلف، من حيث الشّغف والحرارة، عن إقبالاتها الأخرى على كتب أخرى. وقد يصل بها التّعلّق إلى أن تحاول حفظه، فأتدخّل حينها، إلى نقل شغفها إلى كتاب آخر، ذلك أنّني لا أميل إلى سياسة الحفظ؛ فالهدف هو التعلّق بالقراءة بصفتها فعلاً وطقساً وعادةً لا التعلّق بكتاب معيّن. أترك لهنّ هامشاً كبيراً للاختيار، وفق شغفهنّ الخاصّ، مع مرافقة الأمر، حتّى أرصد شخصياتهنّ في هذا الباب، فأتدخل مثمِّناً ما أراه جديراً بالتّثمين، وموجِّهاً ما يكون جديراً بالتّوجيه.
وجدتُ إحداهنُ، مرّةً، منكبّةً على قراءة كتاب يتناول موضوعاً يُفترض أن يكون بعيداً عن هواجس الأطفال. وحين بحثت في الأمر وجدت أنّ اختيار البنت للكتاب كان ثمرةً لتأثّرها بحديث معلّمتها عن موضوعه. طلبتُ المعلمةَ في المدرسة وسألتها: ماذا يعني لك أنّ اللهَ لم يفرض الصّلاة على الأطفال وهي عمود الدّين؟ فكيف تحدِّثينهم عن عذاب القبر الذّي يعني المسلم النّاضج فقط؟
لا أكون مرتجلاً في اختيار الكتب لبناتي. فأنا أراعي حاجاتٍ كثيرةً في ذلك. منها أنّه في مسعى تعلّم "علياء" الإنكليزيّةَ وتعلّم "نجمة" الفرنسيّةَ، اقترحت عليهما كتابين باللّغتين اقتُبِس منهما فيلمان شغفاهما إعجاباً.
ذات مرة دخلت غرفة الاستحمام. فوجدت الحوض مليئاً يعلوه كتاب قد شبع ماءً. كنت مطالباً بأن أزاوج بين الصّرامة في رفض إهمال الكتاب، فقد سبق لي أن ربّيتهنّ على احترامه بصفته كائناً حيّاً، وعدم زرع الرّعب في نفس الفاعلة، فقد يحصل لها أمر نفسيّ غير محمود.
اكتشفت في خضمّ التّحقيق اللّطيف أنّ نجمة، نتيجة تعلّقها بالكتاب الذّي أحبّته بالطّريقة سابقة الذّكْر، لم تصبر عليه، فدخلت به إلى الحمام. وفي غفلةٍ منها وقع الكتاب في الماء، فغادرت وتركته عائماً توقّعاً منها أن أعنِّفها. كانت فرصة لي لأن أعلّمها كيف تدافع عن حقّها في الخطأ النّاتج عن الشّغف الخاصّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...