لطالما كثفت مشهدية الجسد العاري صورة الطبيعة الفطرية الأولى والبيان المعرفي الأول للخلق، عندما هبط آدم وحواء عراة إلى الأرض وبدآ باكتشاف جسديهما لأول مرة. حيث أن الجسد يشكل جغرافيا مهمة لتموضع المفاهيم والأحاسيس وصورة للتجربة الإنسانية الحية التي ألهمت العديد من الفنانين، ليأتي تجسيدها تعبيراً عن أفكارهم وتطلعاتهم وهواجسهم.
كانت صورتها الأبرز في المدرسة التعبيرية، وتمايزت بلوحات إيغون شيلي وأعماله المتفردة، وهو الذي أعلن تمرده برسوم الجسد ضمن حالاته المختلفة، حيث ركّز على أوضاع الجسد خارج التصنيفات والأفكار التقليدية، في تصويره للرغبات والأحلام والانفعالات والخواطر والحاجات النفسية الخفية أو المكبوتة، وانعكاس كل هذا على حركة الجسد بتفصيلاته، والتركيز على حركة العيون والأصابع والشفاه.
وفي كل رسومه نلاحظ اهتمامه بحركة الأيدي وسلاميّات الأصابع التي يرسمها بشكل دقيق بكل ما فيها من مفاصل وعروق، ويبالغ في حجمها وحركتها.
أيضاً للطبيعة تأثير كبير في السيطرة على أحاسيسه، ولكنه يكنّ شعوراً خاصاً للخريف، يراه في وجوه الأطفال وأجسادهم العارية وفي أوراق الأشجار المفارقة لأمها، أما الربيع فيخلق تجدداً لموسيقا الكون في وجدانه بإحساس خاص وعميق لرؤى الجمال. يقول جون كيتس "الجمال هو الحقيقة والحقيقة هي الجمال"، وأضاف شيلي عليه: "أعتقد أن الإنسان يظل يعاني من عذابات الجمال مادام قادراً على حمل مشاعر الحب".
انسحاق الجسد
سنوات إيغون شيلي القصيرة الثمانية والعشرون كانت عاصفة بالحركة والإبداع والقلق، بإحساس مبهم بأنه يسابق الزمن قبل أن تنتهي حياته، وهي تذكّرنا بما كتبه في رسالته إلى والدته عام 1913 التي يقول فيها: "كل الأشياء الجميلة الرائعة تلتقي وتتّحد في أعماقي... سأكون الثمرة التي تترك وراءها أثراً حياً حتى بعد جفافها".
وقد كان شيلي صريحاً في تعبيراته الجنسية عن الجسد البشري، الجسد المتهالك في تعبيره عن الانسحاق الإنساني. فهو الفنان المأزوم المنحاز إلى الأجساد الضامرة الموحية بتمايز طبقي في اللوحة التي يكشف بها عن بطنه، باعتباره لا يملك كرشاً، حيث الكروش المترهلة إشارة إلى عالم جشع. ولوحة الحضور المزدوج في تصويره المتكرر لذاته كمن يبحث عنها وتشكل هاجسه، إذ لم يلجأ إلى تصوير فوتوكوبي، وإنما حاول إظهار داخله بصورة تعكس أزمته النفسية.
الإيروتيك هو الأنسنة الذكية والحسّاسة للحب البشري، والبورنوغرافيا تُلِحق به الرخص والمهانة، في تخلي المرء عن نعم أطيافه الشخصية وإلغاء التفرد والحرية والانجرار مع موجة السائد والموضة بمفاهيم الجمال
لذا كانت رسوماته عن نفسه بعيدة عن الجمال التقليدي، إذ يرسم أحياناً نفسه بلا ذراع كإشارة لأزمة الارتعاش في يديه، مما ولّد الشك في إصابته بمرض الديستونيا، وهو مرض عصبي يتسبب في تشنجات متكررة وسريعة في العضلات وحركات مفاجئة ملتوية ولا إرادية.
وهذا ما يدعم تكريس أزمة الجسد كحقيقة مادية تفرض نفسها من خلال تصوير الجسد الإنساني وتنازعه بين غريزتي الموت والحياة، كممثل للمدرسة التعبيرية التي تُعنى بما يدور في العقل والنفس البشريين، لما فيها من قلق وتوتر عكس ما كان سائداً في عصره من رسوم زخرفية للظواهر المرئية والمباشرة.
لذا لم تحفل رسومه العارية للنساء بمعايير ومقاييس الجمال الأنثوي السائد، وإنما بتعابير مشوهة مثيرة بشكل يناقض التصورات الدارجة عن الجنس، ومختلطة بتمازج الأنثوي مع الذكري، التي تعود لفكرة أن كل إنسان يحمل في داخله مزيجاً من الذكورة والأنوثة بنسب متفاوتة، حيث هذا الدمج تجلٍّ آخر من الأسلوب الحداثي الذي طرقه مبكراً، فللأجساد ضوؤها الخاص النابع من داخلها. فهو لا يبحث عن الجمال التقليدي وإنما عن القيمة المعقدة التي تستوحي قبحاً مصمّماً بطريقة تظهر جمالية ما.
إذ نلحظ أن الجروح والكدمات لها محل كبير في لوحاته، فبورتريهات الأجساد العارية ليس بغرض الإثارة، وإنما لإظهار التشنّج والارتعاش الكامن عن القلق ليحاكي الحزن والانسحاق في تعبيرهما الوجودي، فالجسد جروح متتالية لا تشفى إلا بالموت، الموت الذي أتاه مبكراً لاكتمال اللوحة التي لم يرسمها عن نفسه.
حياة قلقة قصيرة
حياته القلقة القصيرة وظّفها الفن السابع في الفيلم السينمائي "موت وفتاة"، كما استفاد ماريو بارغاس يوسا منها في روايتيه "دفاتر دون ريغوبيرتو" و"مديح الخالة"، كنوع من تداخل الفنون ورؤية الرسم بمنظار السرد، في تأثر بطله فونتشيتو وانعكاس تأثيره على حياته.
فالإيروتيك هو الأنسنة الذكية والحسّاسة للحب البشري، والبورنوغرافيا تُلِحق به الرخص والمهانة، وفق رأي يوسا، في تخلي المرء عن نعم أطيافه الشخصية وإلغاء التفرد والحرية والانجرار مع موجة السائد والموضة بمفاهيم الجمال، الأمر الذي يعنيه قتل الليبيدو بغذاء مسبق الصنع، في تسفيه وتتفيه الجنس، لأنه يؤدى عبر مهيّجات اصطناعية، بلا طقوس تؤججه وتصعد به إلى علياء التوتر والمتعة.
من حق الكائن البشري أن يصيغ حياته ضد ما هو سائد وبناء على رغباته (حتى قتل الآلهة) في تغيير العالم عن طريق الحلم والخيال، وحتى لو لم يستمر ذلك إلا من خلال القراءة أو الحلم
فقد كثّف في نصه احترام الطقس الجنسي عبر محاكاة الفنون السردية والبصرية في الاحتفاء بالجسد والمعاني المنبثقة عنه. فـ"دفاتر دون ريغوبيرتو" تعرض لمتاهة النزوات البشرية وتشعباتها في لاوعي البشر، لتكشف دلالات عميقة يمكن من خلالها الكشف عن نفسية الكائن وعقده الدفينة وفهم طبيعة الشخصيات المزدوجة، حيث يلحظ في شخصية الفتى فونتشيتو التي تحمل تركيبة شيطان وقديس والتي تتشابه وتتقاطع مع شخصية شيلي كذلك، فهذا الأخير يرسم نفسه بوجه واحد؛ ومرة بوجهين؛ ومرة بثلاثة؛ لإحساس عميق بتجاور شخصيات متعددة في ذاته.
أما بالنسبة للتعبيرات السردية عن الجسد فقد كانت في منجز بارغاس يوسا نوعاً من التنقيب في تفاصيل الجسد وتمظهراته الجمالية والنفسية والإيروتيكية، في محاكاة الألم واللذة وتقصّي دروب المتعة من خلال دمج محموم إيروتيكي لفهم الجسد والفن، بسحر يرتقي بالجنس لمصاف التقديس للفعل الخالق للحياة، بتصويره لأكثر حالات الجسد ازدراء، بحالة حميمية ذات جمال مستتر، تجلله حالة العشق التي ترى وتتذوق الجمال قبل أي شيء آخر.
فقد أخضع الكاتب بطلته لوكريثيا لأكثر من موقف إيروتيكي، مفعم بشراسته وشبقه، ففي لوحة فنية يصورها بأنها تمارس الحب مع شخص يطلي جسدها العاري بالعسل ويقوم بلحسه ولعقه مع مجموعة من قططه الصغيرة المحبة للعسل، ومن ثم يلتحم وإياها في مشهد تخيلي وحميمي.
وفي مشهد آخر توافق لوكريثيا على العرض الذي قدمه لها المهندس الذي كان مغرماً بها، قبيل زواجها للسفر معه إلى باريس وفينيسيا، ويعيشان تجربة هي أقرب إلى الحب العذري، من خلال تخيلات الجسد وجمالياته.
وكانت تحكي لزوجها كل تفاصيل رحلتهما، في فانتازيا التجربة والبوح، يرى يوسا أن هذا الأمر يضيء على حق الكائن البشري في أن يصيغ حياته ضد ما هو سائد وبناء على رغباته (حتى قتل الآلهة) في تغيير العالم عن طريق الحلم والخيال، وحتى لو لم يستمر ذلك إلا من خلال القراءة أو الحلم.
الحرية والفن
العلاقة المتبادلة بين الحرية والفن والحب محرك إبداعي بشكل متواتر ومتعاقب مما نجم عنه بروز الحركات الفنية وتياراتها بتسميات وتداخلات مختلفة، وكانت السوريالية إحدى تجلياتها كحركة ما وراء الواقع اشتغلت على إطلاق كوامن اللاوعي بمعزل عن سيطرة العقل كتأثير علوي قامع للطاقة الحيوية المتوارية.
مع أن فرويد أكد أن السوريالية عمل واع يتم بسيطرة الأنا العليا، لأن مجرّد التقاطها لحركة اللاوعي هو وعي بحد ذاته، ورغم ذلك فالإنسان ينزع بطبيعته لتلبية دوافعه الغريزية وفق مبدأ اللذة، لكن انتماءه الاجتماعي يفرض عليه أن يراعي مطالب المجتمع الأخلاقية والاجتماعية، فيكبح مطالبه ورغباته وميله نحو اللذة ليكون منسجماً مع الواقع الاجتماعي، ما يؤدي إلى فرض المجتمع بعض المحرّمات فيدسّها الفرد في لا وعيه.
ليس غريباً أن تنعكس أحوال الجسد في النتاج الأدبي، كونه انعكاساً لصورة العنف المطبقة عليه في وسط يعجّ بالحروب والصراعات التي تتلقى المرأة والطبيعة نتائجه المدمرة بالدرجة الأولى
وحين تبدأ هذه المحرمات بالضغط على الفرد نفسياً يتم تصعيد الطاقة الغريزية اللاواعية، والتي هي جزء من طبيعة الإنسان، فيلجأ إلى الفن ليحل هذا الصراع بين ما هو نتاج الطبيعة الإنسانية للفرد وبين المجتمع ذي المنظومة الأخلاقية والاجتماعية القامعة للرغبات الوحشية/ الغريزية في الإنسان، فيغدو الفن على صورة تحويل رمزية، يتحقق فيها الوفاق بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع.
الجسد في الفضاء العربي
لذا كان للغة الجسد توظيفات متباينة في عالمنا العربي، فقد تميزت سرديات الجزائرية فضيلة الفاروق، باستثمارها لمفهوم الجسد المشروخ والارتكابات المشينة بحقه في غالبية أعمالها، وبالأخص روايتيها "اكتشاف الشهوة" و"تاء الخجل"، حيث مُنعت الأخيرة في أغلب البلدان باعتبارها منافية للحشمة.
والحق، إن كل اتهام يخفي في طياته خوفاً وخشية من أمر آخر، فالفاروق رصدت حوادث الخطف والاغتصاب والانتهاك الإنساني والإذلال التي تعرّضت لها النساء والفتيات إبان العشرية السوداء على أيدي جبهة الإنقاذ الوطني الإسلامية في الجزائر، كعنف جسدي مباشر يُضاف للعنف الاجتماعي والإنكار والرفض الذي يتعرض له الضحايا من الأهل والمجتمعات المحلية، الأمر الذي دفع العديد منهن للانتحار، في تفكيك منها للمنظومات المقدسة من أعراف ودين وثقافة.
فهذه الفظائع سلّطت صاحبة "مزاج مراهقة" عدستها الكاشفة عليها بجرأة استثنائية لتظهر الفتاوي الدينية التي أنتجت هذه العقلية وهذا الفكر المبرر للفعل الإجرامي، فهي تقول: الناس هنا لا يخافون مما تقوله المآذن حتى عندما قالت: اللهم زن بناتهم، قالوا آمين، وحين قالت: يتّم أبناءهم، قالوا آمين، وحين قالت: رمّل نساءهم، قالوا آمين.
حيث يتم مسح العقول وتدجينها وتكريس ثقافة العنف لتعلو فوق صوت العقل وفق خطاب الكراهية ومحو الآخر، الآخر شريك المكان والانتماء في الخطاب الديني المتطرف، لتتطرق إلى حالة الاغتصاب ضمن مؤسسة الزواج ذاتها، ملفعة كذلك بالفتاوي الدينية الرافضة والقامعة لحق المرأة ورغبتها ومزاجها.
فليس غريباً أن تنعكس أحوال الجسد في النتاج الأدبي، كونه انعكاساً لصورة العنف المطبقة عليه في وسط يعجّ بالحروب والصراعات التي تتلقى المرأة والطبيعة نتائجه المدمرة بالدرجة الأولى، في تكثيف ما تفعله الحرب بأجساد النساء، حيث لم يبق متسع للعشق والأحاسيس الرهيفة، لم يبق سوى لون الدم ولون الموت في معاناة ومصائر مختلفة قامعة للجسد الأنثوي، وقد تركت الأحداث بصمتها القاهرة عليه كشاهد على خراب عصي على النسيان ووصمة تفضح عار هذا الزمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه