شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"رغبتُ بالبكاء والصراخ"... حكايات رجال مع اكتئاب ما بعد الولادة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 13 يونيو 202103:09 م

نوبات من البكاء والقلق وتقلّبات المزاج، حزن وفقدان للشهية. هذا ما تشعر به العديد من الأمهات بعد الإنجاب مباشرة، نتيجة المعاناة من "اكتئاب ما بعد الولادة"، ويُعتبر الأمر شائعاً وليس بجديد، لكن الغريب ربما أن بعض الرجال يصابون أيضاً بهذا الشعور.

"تبكي المرأة وتحزن وقتما تشاء. من حقّ النساء الدخول في نوبات بكاء واكتئاب، وسيجدن الدعم من الجميع، لكن نحن الرجال غير مسموح لنا بذلك، لأن الرجال لا يبكون ويجب أن نكون أقوياء"، يقول عماد عبد الستار.

شعور متناقض وإحساس متداخل، فطيلة حياته وهو ينتظر هذا اليوم، وها قد أتى لكن لم يستطع الاستمتاع به. بداخل هذا الرجل الذي يقف صامداً أمام زوجته وعائلته بركان يغلي، لا يعرف كيف يظهر شعوره. يرسم ابتسامة مصطنعة على وجهه لإخفاء مشاعره والهروب من مواجهة الآخرين، ففي مجتمعاتنا يصعب على بعض الرجال إظهار مشاعرهم الحقيقية كالخوف والحزن والاكتئاب، خوفاً من سخرية المجتمع أو اتهامهم بأنهم ليسوا رجالاً.


"كيف أتعامل مع هذا المخلوق الصغير؟"

يضيف عماد، وهو اسم مستعار، إنه خلال شهور حمل زوجته، كان يشعر بأنه تائه، ولا يستطيع تفسير ما يحدث له، وكان يعاني لإخفاء مشاعره خوفاً من المجتمع الذي يعيش فيه، لأن البعض ينظرون إلى الرجال على أنهم جماد، يجب أن يكونوا صامدين، لا يشعرون ولا يبكون.

ليست النساء وحدهنّ من يعاني من اكتئاب ما بعد الولادة، فبعض الرجال يصابون أيضاً بهذا الشعور.

بدأت المعاناة الحقيقية لدى عماد، وهو يعمل موظف خدمة عملاء في القاهرة، بعد ولادة طفله الأول والوحيد، ورجوعهم إلى المنزل، فكان لا يستطيع النوم، ويشعر أنه غير قادر على تحمل المسؤولية، وكان يترك الغرفة التي تمكث فيها زوجته وطفله ويجلس في الخارج، وأحياناً كان يقف بجانب الطفل هو نائم، خوفاً من أن يصيبه مكروه ولا يستطيع إنقاذه.

يتابع الرجل الثلاثيني حديثه لرصيف22: "كانت أكبر مخاوفي هي عدم معرفة كيفية التعامل مع هذا المخلوق الصغير، بجانب قلقي على مستقبله وخوفي من أن يحدث له أي أذى ولا أستطيع حمايته. كنت أنظر إليه ولا أستطيع فعل شيء، واستمر هذا الشعور معي لفترة، فقررت أن أذهب للطبيب النفسي لطلب المساعدة، لأنني كنت أعاني من مشاكل نفسية أخرى، وكنت أخشى البوح بأي من تلك المشاعر أمام أصدقائي أو عائلتي، لأنني حاولت مراراً أن أتكلم عن الأمر، لكن ردود الأفعال صدمتني وجعلتني أصمت تماماً وأتألم وحيداً".

ويضيف: "ذهبت إلى الطبيب النفسي وحدثته عن مخاوفي وقلقي ومشكلاتي النفسية، فأعطاني بعض النصائح، كأن أتعامل مع الأمر على أنه شيء طبيعي، وأنني سأعتاد على الوضع بالتدريج، وكل هذه المشاعر ستختفي مع مرور الوقت، وكتب لي أدوية مهدئة ومضادة للاكتئاب، امتنعت عن أخذها فيما بعد، بسبب تأثيرها على نشاطي وعلى تركيزي، وتوقفت أيضاً عن زيارة الطبيب، بعد الشعور بأنني تأقلمت على الوضع الجديد تدريجياً، وبدأت في ممارسة حياتي بشكل طبيعي".

ويختتم: "القلق والخوف على طفلي لم يختفيا بعد، ولكن أعتقد أن الذي أشعر به الآن هو القلق الطبيعي الذي يشعر به الآباء تجاه أبنائهم. لا أظن أنني سأتعرض لنفس الموقف السابق وتكرار التجربة مع ولادة طفلي القادم، بسبب اكتسابي بعض الخبرات، فالقلق الطبيعي سيظل موجوداً حتى لو أنجبت عشرة أطفال".


"الرجال لا يبكون ولا يظهرون مشاعرهم!"

يقول أحمد داوود، وهو اسم مستعار لمهندس أربعيني من محافظة الجيزة ولديه 4 أبناء، إنه عند ولادة أطفاله، كان يمر بحالة قلق وضيق تستمرّ لمدة أيام، ولم يتغير شعوره من طفل لآخر، بل بالعكس كان يزداد خوفاً في كل مرة، لكنه اعتاد على هذه الأحاسيس.

ويضيف في حديث لرصيف22: "حملي كان يثقل كل مرة. كنت أشعر بأن مسؤولياتي تتزايد، وكان ما يزيد من تعبي هو إخفاء مشاعري والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام، حتى لا يتهمني أحد بأنني لست رجلاً وغير قادر على تحمل المسؤولية، على عكس زوجتي، التي كانت كلما اشتد التعب عليها تبكي وتشتكي وأحياناً تصرخ أمام الجميع وفي أي وقت، وكانت تجد الدعم، لكن أنا لم يكن مسموحاً لي البكاء أو الشكوى، لأنني رجل، والرجال لا يبكون ولا يظهرون مشاعرهم، كما قالوا لنا قديماً".

بدأت المعاناة الحقيقية لدى عماد بعد ولادة طفله، فكان لا يستطيع النوم، ويشعر أنه غير قادر على تحمل المسؤولية، وكان يترك الغرفة التي تمكث فيها زوجته وطفله ويجلس في الخارج، وأحياناً كان يقف بجانب الطفل هو نائم، خوفاً من أن يصيبه مكروه ولا يستطيع إنقاذه

في كل مرة كان أحمد ينظر لأطفاله، كان ينتابه شعور غير مفهوم: "كنت أشعر بالرغبة بالبكاء والصراخ. هل سأستطيع تربيتهم بشكل صحيح؟ هل سألبّي كل طلباتهم؟ هل سأرفع الأذى عنهم؟ ماذا لو توفيت وتركتهم؟ أسئلة عديدة كانت تراودني وتزيد من حدة قلقي، وكانت تهدأ مع الوقت وتتجدّد مع ولادة كل طفل".

ومع تراكم هذه الأسئلة والمشاعر، قرر أحمد أن يربي أطفاله بعيداً عن العادات الخاطئة التي تربى هو عليها: "سأعلمهم أن الرجال يحق لهم إظهار مشاعرهم أمام الجميع، وأن البكاء ليس حكراً على النساء. سأجعلهم أسوياء نفسياً، لأن الكبت وكتمان المشاعر يسببان مشاكل عديدة. سأجعلهم مختلفين عني حتى يكونوا شجعاناً بما فيه الكفاية ليظهروا بأسمائهم الحقيقية إذا قرروا المشاركة في تقرير صحفي كهذا، وليس بأسماء مستعارة مثل أبيهم".


توتر نفسي بعد الولادة

يفسر الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي بجامعة القاهرة، هذه الظاهرة التي تحدث لبعض الرجال، على أنها خوف من المسؤولية، وهذا موجود بشكل كبير عند الرجال أصحاب الشخصية العصابية الوسواسية التي تخشى تحمل مسؤولية طفل، وتظل تفكّر في احتياجات المولود وما قد يصيبه، مثل التعرّض لوعكة صحية أو الحاجة للطعام، لافتاً إلى أنه لا يوجد مسمّى علمي لهذه الظاهرة، ولكن يمكن أن نطلق عليها "توتر نفسي يأتي بعد الولادة".

أنا لم يكن مسموحاً لي البكاء أو الشكوى، لأنني رجل، والرجال لا يبكون ولا يظهرون مشاعرهم.

ويضيف لرصيف22: "للتغلب على هذه الظاهرة، يجب أن يسيطر الشخص على جهازه العصبي اللا إرادي، ويهدّئ من روعه، وأن تكون لديه المقدرة على التعامل مع الأمور الضاغطة. وهذا الأمر يرجع للرجل نفسه، لأن كل شخص يعلم كيف يتعامل مع أحاسيسه. وإذا تطور الأمر ووصل إلى أعراض جسمانية وتوتر في عادات الغذاء والنوم، يجب زيارة الطبيب النفسي".

ويتابع: "أغلب الحالات التي تأتيني، تكون مجرد استفسار أو استنكار لحدث معين، وبمجرد توضيح الأمر لهم وطمأنتهم، يتجاوبون مع الأمر بسرعة وينتهي الموقف".


"بكيت عند رؤية طفلي الأول"

الأمر كان مختلفاً لدى محمد أحمد (34 عاماً)، وهو أب لثلاثة أبناء ويعمل مدرساً في محافظة الجيزة. لم يفكر محمد عند ولادة أطفاله في كيفية إطعامهم أو الإنفاق عليهم، ولم يكن خائفاً من تحمل المسؤولية، لكنه دخل في نوبة بكاء عندما رأى طفله الأول، دون معرفة السبب، وانتابه شعور بالفزع، لكنه انتهى بسرعة وحل محله إحساس بالسعادة، فبات ينتظر بفارغ الصبر انتهاء ساعات دوامه ليعود إلى المنزل لرؤية طفله.

ويستكمل في حديثه لرصيف22: "المكان والزمان لهما تأثير على الأمر، فابني الثاني وُلد حينما كنت خارج مصر، ولم أشعر بأي قلق بل كنت سعيداً، وكان كل ما يشغلني هو الاطمئنان على زوجتي وطفلي، واستكملت حياتي بشكل طبيعي. وعند ولادة طفلتي الأخيرة، كان الإحساس مختلفاً. كنت سعيداً جداً لأن الله رزقني ببنت، ولم أتعرض لأي قلق أو اكتئاب".


قلق ما بعد الفطام

للدكتور هاشم بحري، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، رأي آخر في هذه الظاهرة، فيقول إن بعض الرجال عندما يُرزقون بالطفل الأول يكون لديهم نوع من القلق النفسي، مفسّراً ذلك بأن الرجل طوال عمره يعيش في بيت والدته ويعامل معاملة الطفل المدلّل، لأن المجتمع الذكوري يُقدر الرجال أكثر من الفتيات، وأغلب الأمهات يعززن هذا الشعور.

يمكن تفسير هذه الظاهرة التي تحدث لبعض الرجال، على أنها خوف من المسؤولية، وهي موجودة عند الرجال أصحاب الشخصية العصابية الوسواسية التي تخشى تحمل مسؤولية طفل، وتظل تفكّر في احتياجات المولود وما قد يصيبه

ويضيف في لقاء مع رصيف22: "عندما يتزوج الرجل، يقول لزوجته 'يا ماما'، وتتنافس الأم والزوجة على إرضائه وإعطائه الحنان والاهتمام. وعندما تنجب الزوجة تكون غريزة الأمومة قوية جداً لديها، وتبدأ في الاهتمام بطفلها، ويقلّ الاهتمام بالزوج، وهنا تظهر على الرجل أعراض تشبه أعراض الفطام عن الأم، فيشعر بالهجر والإهمال لانشغال والدته وزوجته بالطفل الجديد، وانحسار الاهتمام به تدريجياً، وأحياناً مرة واحدة، فيشعر بقلق الانفصال".

ويتابع: "القلق النفسي من الأمراض التي تسبب عدم القدرة على الاستقرار وشعوراً بعدم الأمان، وتظهر على الإنسان بعض العلامات، وقد يدخل في حالة اكتئاب بسيط. لتجنّب هذه الظاهرة، يجب على الزوجة والأم أن تعاملا الرجل على أنه إنسان مسؤول، عليه الاهتمام بنفسه وليس الاعتماد عليهما فقط، وأن تحتوياه نتيجة أفعاله وما يقدّمه، وليس لمجرد لأنه رجل".

واختتم: "هذه الظاهرة متكرّرة في المجتمع المصري، ومئات الأشخاص يأتون إليّ طالبين المساعدة، ويشتكون من زوجاتهم بعد الإنجاب. نقوم بتوعيتهم، ونؤكد عليهم أن يأخذوا اهتمامهم من الآخرين من واقع أفعالهم وما يقومون به من واجبات ومسؤوليات وليس لأنهم ذكور. يمكن أن نسمّي هذه الظاهرة بقلق ما بعد الفطام، ولا يوجد لها مسمى علمي، غير قلة الاهتمام أو صدمة ثقافية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image