هل شاهد أحدكم حملة إعلانية يحضر رجلٌ فيها زجاجة لإرضاع طفله أو يغير له حفاضه؟ أبطال الشاشة والحملات الإعلانية المخصصة لفترة الحمل والمراحل الأولى من عمر الطفل هم النساء والأطفال، استناداً إلى المفهوم السائد بأن المرأة تحمل وتنجب. وعليه، ليس الرجل المعني الأول بهذه الفترة، فيغدو هو الغريب الذي يراقب عن بعد التغيرات الفيزيولوجية والنفسية التي تعيشها زوجته، وينتظر هذا الضيف الجديد، الذي هو من صلب الأم. وهكذا بقيت مسألة إجازة الأبوة إشكالية في العديد من الدول الغربية، وكل المجتمع العربي لوقت طويل. أما المرأة فاستحقت إجازتها للأمومة منذ أواخر الستينيات، مع تطورٍ ملحوظٍ من عقدٍ لآخر.
الزوج الحاضن، الأب الحاضر
أدت أبحاث علمية عدة إلى تأكيد أهمية وجود الأب إلى جانب زوجته خلال فترة الحمل، من خلال مرافقتها في زيارات الطبيب الدورية، وفي مراحل التحضير وصولاً إلى الولادة وما بعدها. وهذا ما دفع مؤسس فيسبوك مارك زوكربرغ، لأخذ إجازة شهرين بعد ولادة ابنته الأولى العام الماضي، مستنداً إلى الدراسات التي تثبت أنه عندما يأخذ الأهل العاملون عطلة للبقاء مع أولادهم الحديثي الولادة، تكون النتائج أفضل على الأهل والأولاد.
فالأهل سيرتاحون من عناء تقاسم الوقت بين البيت والعمل، فيستثمرون طاقاتهم في الاهتمام بطفلهم وبناء الرابط الأسري معه Bonding، الذي سوف يساعد الطفل على الشعور بالأمان والإحاطة ويسمح له بتكوين حصانة ذاتية. علماً أن السنتين الأوليين من حياة الطفل هما الأكثر دقة، فخلال هذه الفترة يكون العامل الاجتماعي، أي العائلة والمحيط، مؤثراً جداً في اكتساب المهارات، وتكوين شخصية الطفل ومنحه الأمان الذي سيهيئه للنمو السليم. كما أن بقاء الأب إلى جانب الأم خلال فترة الحضانة الأولى، يعزز الروابط الأسرية ويسهم في إدماجه في العملية التربوية، فيدخله إلى عالم الطفل ويقربه من زوجته. هكذا تشعر الأم أن لها سنداً وشريكاً، ما يساعد على تخفيف نسبة إصابة الأمهات بحالات اكتئاب ما بعد الولادة Postpartum Depression.
هذا التطور لم يأت عبثاً، بل نتيجة دراسات وأبحاث معمقة، أرادت فهم دور الأب ومكانته الفعلية في الحياة الأسرية، وفي تكوين شخصيات الأولاد وبناء حصانتهم النفسية. إن الأب بوجوده الفعلي والمعنوي يجسد لدى طفله مفهوم بناء الـ"أنا"، في وقتٍ يكون مسؤولاً عن فك الالتحام الموجود بين الطفل والأم، والذي سيمنح الطفل القدرة على بناء شخصيته وإدراك أنه كائن منفصل، له مشاعره، وطباعه، وآراؤه وتميزه. ويلعب الأب دوراً بارزاً في توثيق انتماء الطفل الجنسي من خلال التماثل مع الأب إن كان الطفل ذكراً، أو التشبه بالأم لكسب محبة الأب إن كان الطفل أنثى، كما حلل ذلك سيغموند فرويد.
وتكمن أهمية دور الأب في فرض الحدود في ذهن الطفل، وهي التي تمنعه من ارتكاب الأخطاء تمثلاً بصورة الأب، فينقل لولده مفهوم القانون العام، الذي يسمح له بالانخراط في المجتمع والتمسك بالقوانين. ترسيخ هذا الدور يبدأ مع ولادة الطفل، كما أشار العالم النفسي جاك لاكان في كتابه الشهير "باسم الأب" Name of the father، إذ شدد على "الوظيفة الرمزية" للأب في حياة الطفل، فدوره ليس فقط مساعدة الأم وتحمل معها عبء الحمل والولادة، بل أيضاً فرض "الواقع" الذي يخرج الطفل من حالة "النشوة المطلقة"، التي كان يعيشها في أحشاء أمه، ليستعد بعدها إلى مواجهة الحياة بمفرده في عالم الواقع والحاجات، فيصير مجبراً على أن يطلب هو بنفسه الأكل والشرب الحاجات الأساسية، التي كان يحصل عليها دون الحاجة إلى الطلب لما كان "السلطان المطلق" في أحشاء والدته، وهذه أول خطوة نحو الاستقلالية والحاجة إلى التواصل مع الأخر.
بالعودة إلى إجازات الأبوة، ليست مبادرة مؤسس فيسبوك مارك زوكربرغ الأولى من نوعها، فالدول الغربية كانت سباقة إلى منح إجازة أبوة، بدءاً بالدول السكندينافية، حيث يعطى الأب إجازة أبوة أسوة بالأم لأسبوعين مدفوعي الراتب. وتتفاوت هذه النسب بين بلد وآخر، فبعض الدول الأوروبية يعطي فرصاً غير مدفوعة يمكن أن تصل حتى عامين كاملين، كما في فرنسا مثلاً، ودول تعطي إجازة أبوة مدفوعة لكن براتب أقل من الراتب الأساسي.
تطور خجول وخطوات منقوصة في الدول العربية
لاقت التعديلات في البلاد الغربية صداها في العالم العربي، فأخذت بعض الدول العربية القرار بمنح الموظف الذي يرزق مولوداً إجازة أبوة مدفوعة الراتب، لمساعدة زوجته انطلاقاً من منطق مراعاة مفهوم النوع الاجتماعي فيخفف من الضغط الذي تسببه هذه الفترة. ويساهم بإعطاء الأم فرصة للراحة ويشارك في تربية طفله منذ بداية نموه، وهذا ما يعزز المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، فتصبح المرأة أكثر استعداداً للعودة إلى العمل بنشاط أكبر، في حين يرسخ الأب صورته في عقل الطفل.
بينما ما زالت معظم الدول العربية تدرس موضوع منح إجازة أبوة مدفوعة الأجر أو تتجاهل الموضوع، سمحت الإمارات بمنح الأب إجازة مدفوعة الراتب لمدة 3 أيام عمل خلال الشهر الأول من ولادة الطفل، شرط أن تتم الولادة داخل الدولة، لحقتها الأردن، فمُنح موظفو القطاع العام 3 أيام أيضاً. أما في دول المغرب العربي، فإجازة الأبوة في الجزائر والمغرب هي ثلاث أيّام، في حين تعطي تونس يوم عطلة لموظفي القطاع الخاص، ويومي عطلة لموظفي القطاع العام. أما أطول إجازات الأبوة، فمن نصيب جزر القمر (10 أيام مدفوعة الأجر).
يمكن اعتبار هذه الخطوة مهمة خطتها حكومات هذه الدول بمنح الأب إجازة مدفوعة الراتب للبقاء إلى جانب زوجته والاعتناء بطفله عند الولادة، حتى لو كانت هذه الخطوة خجولة ومنقوصة. وهذا التطور، إن دل على شيء، فهو يدل على أن المفهوم الذي كان سائداً ويقوم على أن المرأة تلد وتربي، تطور بعض الشيء، وإن كنا ما زلنا نسمع أصداء الشارع العربي من بعض النساء والرجال، الذين يعتبرون المرأة الراعي الأوحد للطفل، وأن الرجل يصبح عبئاً في البيت فهو غير مؤهل للعب دور فعال في مساندة المرأة ومواكبة نمو الطفل خلال هذه الفترة، بل إن وجوده في المنزل يعرقل المرأة، فتصبح مضطرة للاهتمام بالطفل والزوج معاً.ألم يحن الوقت بعد لكسر هذه الصورة النمطية في عالمنا العربي والتطلع إلى حاجات الطفل النفسية كأولوية لا يمكن تجزئتها؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...