خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، انتهى العسكريون البريطانيون إلى نظرية تقول بوجوب توفير الجندي البريطاني لحمل السلاح والقتال، وإعفائه تماماً من كل الواجبات الأخرى غير القتالية. وعلى هذا الأساس، تقرَّر إسناد الأعمال غير القتالية إلى فيالق مشكّلة من المصريين، تعمل في خدمة القوات الاستعمارية، ما كان له أسوأ الأثر على حياة الناس.
تروي لطيفة محمد سالم، في مؤلفها "مصر في الحرب العالمية الأولى"، أن هذه الأعمال كانت في البداية يقوم بها مصريون اختيارياً، مقابل أجور، إلا أنه نظراً لموت الكثيرين من العمال في معارك على أراضي فلسطين وسيناء، امتنع كثيرون عنها، ما دعا الإنكليز إلى التفكير في جعل هذا الأمر إجبارياً، نظراً لاحتياجهم الشديد إلى العمالة. ومن هنا بدأت رحلة المآسي.
فيلقا العمال والجمّالة
بدأ التشكيل الفعلي لـ"فيلق النقل بالجمال"، في آب/ أغسطس من عام 1915، ليؤدي مهمات النقل وغيرها، من نقاط نهاية السكك الحديدية إلى الخطوط الأمامية.
ويقول الكاتب صلاح عيسى، في مؤلفه "هوامش المقريزي": "اقتصرت مهماته على مساعدة الحملة البريطانية في مصر، والتي كانت تحارب الجيوش التركية في فلسطين وشبه جزيرة سيناء".
بعد ذلك، تشكّل "فيلق العمال" لينفّذ أعمالاً مدنية وأشغالاً أخرى، لكنه سافر أيضاً إلى جزر موريشيوس (وسط المحيط الهندي) وإلى العراق وفرنسا.
ووقع على عاتق فيالق العمال إصلاح الطرق، وإمداد خطوط السكك الحديدية، وحفر الآبار والخنادق، وإقامة الاستحكامات، وتوصيل أنابيب المياه تحت الرمال، ونقل معدات الهاتف والتلغراف والذخائر والمؤن، وغيرها من الأعمال المجهدة.
في السويس، تتحدث لطيفة سالم عن أنه "أُمر الجمالة المصريون بالذهاب إلى قناة السويس وعدم مبارحتهم إياها، وكذلك بدأ فيلق العمال عمله، إذ أقام التحصينات بقرب الشطوط المهمة وحول ضفتي قناة السويس، بهمة فائقة ونشاط كبير".
وعندما تقهقر العثمانيون عن القناة تتبع الإنكليز خطواتهم في سيناء وكانت قاحلة لا ماء فيها ولا سبيل لسير الجيش فيها بمدافعه وعرباته الضخمة، وهنا "أرسل الإنكليز أمامهم العمال المصريون لتمهيد الطرق حتى أصبحت صالحة لسير السيارات ولجر المدافع الضخمة، ومدّوا بجوارها أنابيب المياه المأخوذة من ترعة الإسماعيلية.
ولعبت فرق الجمّالة دوراً جوهرياً لا يقل أهمية عن دور العمال في الحرب، سواء في شرق مصر أو غربها. تقول سالم: "حينما شرع الجيش البريطاني في تتبع الأتراك في سيناء، كان الطعام والمياه والذخيرة تنقل في كل مكان على ظهور الجمال قبل أن تمد الطرق والسكك الحديدية، كما أدى الجمالة خدمات كبيرة في إسعاف الجرحى البريطانيين، فكانوا ينقلونهم بأسرع ما يمكن وبدون خوف من القنابل والنيران التي كانت تحيط بهم".
خطف الفلاحين
مع الوقت، تحوّلت عملية تشكيل هذه الفيالق إلى سخرة وخطف، وما أن جاء صيف عام 1917 حتى بدأت أبشع عملية لحشد العمال والفلاحين قسراً للعمل.
في كل مركز من المراكز عُيّن ضابط بريطاني ليعاون مأمور المركز في جمع الأنفار المطلوبين من أبناء الفلاحين في قرى المركز، تقول سالم: "عُيّن 26 ضابطاً بريطانياً بين الإسكندرية وأسوان لأجل هذه العملية، وكل ضابط يعاون مأمور المركز في جمع الأنفار".
وشرحت أن العملية كانت تبدأ باستدعاء عمدة القرية وإبلاغه بالعدد المطلوب من قريته، وعندما يأوي الفلاحون إلى دورهم يبدأ الخفراء ورجال الشرطة بالهجوم عليهم لجمع العدد المفروض على القرية، وبين صراخ الأطفال وولولة النساء يحشدون الرجال الذين وقع عليهم الاختيار في مضافة العمدة، تحت حراسة قوة من شرطة المركز.
وفي الصباح يساق الجمع وهم موثقين بالحبال إلى المركز، حيث يتسلمهم الضابط البريطاني ليرسلهم بالقطار إلى معسكر التوزيع في الإسماعيلية، وهناك ربما تنقطع أخبارهم تماماً.
"كان الرجل يُربط بالحبل الغليظ من وسطه، وخلفه أمثاله، ويسيرون على هذه الحال صفاً إلى أن يبلغوا المركز فيحبسون في غرفة المتهمين، ثم يرحَّلون إلى فلسطين"
وتصور سالم مشاهد الاستهتار بحياتهم: "لا يجري خلال هذه العملية أي قدر من التسجيل الدقيق، وإنما يكتفي الضابط البريطاني بإعداد قائمة بأسماء الرجال وأحياناً يقسمهم إلى مجموعات (50 رجلاً)، يختار لكل مجموعة رئيساً من بينهم، يتولى تنفيذ ما يصدر إليه من أوامر خلال الرحلة الحزينة إلى الحرب".
كان من معاصري تلك الفترة الكاتب سلامة موسى (1887-1958). وذكر ما شاهده بنفسه في مؤلفه "تربية سلامة موسى": "رحلت إلى الريف – قرية بمدينة بالزقازيق (كبرى مدن الوجه البحري بمحافظة الشرقية)، ورأيت كيف يسلط الإنكليز علينا الموظفين المصريين من مأمورين ومديرين وحكمدارين وشرطة لخطف محصولاتنا، وكانت الجمال والحمير بل الرجال يخطفون أيضاً... كان الرجل يُربط بالحبل الغليظ من وسطه، وخلفه أمثاله، ويسيرون على هذه الحال صفاً إلى أن يبلغوا المركز فيحبسون في غرفة المتهمين، ثم يرحَّلون إلى فلسطين".
ويصور أحمد شفيق باشا، في كتابه "حوليات مصر السياسية"، معاناة هؤلاء المجنّدين بقوله: "إن قطاراً كان يقل جماعة من المتطوعين المحروسين بالجند شاهري أسلحتهم، قاصداً القنطرة، فما أن ابتعد عن الزقازيق كيلومترات حتى ألقى واحد منه بنفسه أثناء السير، تخلصاً من التطوع الذي لم يكن بالطبع بناء على رغبته فمات في ساعته".
تصفية حسابات ورشاوى
في تلك السنوات، عانى المصريون رعباً هائلاً، إذ لجأ بعض عمد القرى إلى الإيقاع بخصومهم وإرسال أبنائهم إلى حيث لا يعودون، وانتشرت الرشوة، يحاول بها الأثرياء إنقاذ أبنائهم من ذلك المصير المحزن، وهاجر كثيرون من المستورين في الريف ليختفوا في زحام المدن، بعيداً عن أعين السلطة.
يقول سلامة موسى: "كنت أنجح أحياناً بالرشوة في استخلاص بعض هؤلاء المساكين... وفي تلك السنوات السود أثرى كثير من العمد ثراء فاحشاً فقد فرضوا ضرائب على جميع الشباب من سن العشرين إلى الخمسين على مقدار ما يملك، فهذا يؤدي 5 جنيهات وذاك 10 جنيهات، حتى يعفيهم من الاعتقال وبعثهم إلى فلسطين".
ومضت النساء يبعن حليهن حتى يدفعن مقابل الإفراج عن أولادهن وأزواجهن من خدمة السلطة، بحسب سالم.
"في تلك السنوات السود أثرى كثير من العمد ثراء فاحشاً فقد فرضوا ضرائب على جميع الشباب من سن العشرين إلى الخمسين على مقدار ما يملك، فهذا يؤدي 5 جنيهات وذاك 10 جنيهات، حتى يعفيهم من الاعتقال وبعثهم إلى فلسطين"
وكثرت الشهادات حول تلك الفترة الصعبة في حياة المصريين، منها ما نقلته سالم عن "الجود"، الذي كان أميرالاياً في الجيش الإنكليزي، قال فيها: "شيوخ القرى اختاروا الضحايا دون تدخل من أحد، لقد حانت لهم الفرصة لتصفية ثأرهم المبيّت ضد أعدائهم، فوشت العائلات ببعضها البعض، وتسمم الجو بالفساد، وكان الفلاحون الذين لا يستطيعون دفع المال من أجل إعفائهم أول مَن كانوا يؤخذون غالباً، ثم يعقبهم الأعداء الشخصيون لحكام القرية، وكان أهل الريف الذين يرتادون الأسواق يُخطفون عنوة، ثم يُرحّلون إلى أقرب معسكر عمل".
جلد حتى الإقرار بالقبول
حاول العديد من الفلاحين والضعفاء رفض التطوع الإجباري، لكن كان مصيرهم الجلد. وصف ذلك الدكتور غست (Guest)، كما تنقل لطيفة سالم، في صحيفة دايلي نيوز البريطانية، بتاريخ 28 آذار/ مارس 1919، بقوله: "إذا رفض أحدهم هذا التطوع الإجباري جُلد حتى الإقرار بالقبول، وعلى هذا النحو ساقوا صبياناً من سن 14 عاماً وشيوخاً في السبعين، وكانت الجموع المريضة المنهكة تساق لتأدية الأعمال الحربية والكرباج كفيل بتسخيرهم من غير حساب، وأصبح الجلد من الأعمال اليومية، وكان المكلفون بالجلد هم الأطباء أنفسهم حتى أن المرضى كانوا يخافون أن يختلط الأمر فينتقلون خطأ من طابور المحتاجين للعلاج إلى طابور المحكوم عليهم بالجلد".
وفي مذكراته، علق سعد زغلول على هذه المأساة، قائلاً: "افتخر رجال الحكومة بأنهم عارضوا التجنيد الإجباري حتى منعوه، ولكن الحكام في سائر أنحاء القطر أخذوا من بضعة أيام يخطفون الناس من الأسواق والطرقات والمساكن في القرى، ويحملونهم على أن يكتبوا طلباً بالتطوع في الحملة، ومَن يأبى من المخطوفين أن يختم ضرب حتى يختم، وفي بعض المراكز أقيم صانع أختام على باب المركز ليصنع ختماً لكل مَن ليس له ختم"، معتبراً أن ذلك "أشد أنواع مصادرة الأمة في حريتها؛ فإنه احتقار لها بإنزالها منزلة الأنعام السائرة".
على طريق عودتهم إلى مصر بعد سنوات من الشقاء، كانوا يغنّون: سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة/ شفنا الحرب شفنا الضرب وشفنا الديناميت بعنينا/ مهما يكون كله يهون إلا وطنا ما يهونش علينا
تسببت هذه الأوضاع في تفكيك الأسر، وزيادة الفقر. تشير سالم إلى أنه جاء في عدد جريدة الأهرام الصادر في 20 كانون الأول/ ديسمبر 1919، أنه "سطرت مجلة نيشن الأمريكية هذه الحقيقة، بقولها: إن تجنيد فرق العمال فكك عري الأسرة بغياب عائلها ورجالها، ما أدى إلى زيادة الفقر وانحلال الأخلاق، كما أدى سوء معاملة هؤلاء العمال إلى تعرضهم للأمراض وموتهم".
ووفقاً لصلاح عيسى، حدث يوماً أن ترددت شائعة خبيثة وسط عمليات خطف الرجال، تقول إن السلطة قررت حشد جميع البنات والنساء غير المتزوجات، فكان لهذا أثر النار في الهشيم، إذ نفّذ كبار الأسر حملة لتزويج البنات.
عانى المصريون من سوء التغذية ونقص الطبابة، ومات الكثيرون منهم في ميادين القتال. كتب الدكتور غست في صحيفة دايلي نيوز: "نظراً لسوء تغذيتهم وملبسهم وعدم وجود مستشفيات كافية ورداءة أحوالها كانت نسبة الوفيات بينهم عالية جداً رغم عدم نشر إحصاءات".
وكان المؤرخ عبد الرحمن الرافعي (1889-1966) من معاصري تلك الفترة، وكتب عنها في مؤلفه "ثورة 1919/ تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921"، قائلاً: "كانوا يعامَلون معاملة المعتقلين وما هم بالمذنبين، ومات كثيرون منهم في ميادين القتال أو في الصحراء في سيناء والعريش أو في العراق وفرنسا وأصيب كثير منهم بالأمراض والعاهات التي جعلتهم عاجزين عن العمل".
مليون ونصف المليون
يقول عبدالرحمن الرافعي: "بلغ عدد العمال والفلاحين والهجانة الذين أخذوا من مصر بهذه الطريقة حتى نهاية الحرب نحو مليون ونصف مليون عامل، مات كثير منهم، وكانوا عوناً كبيراً لإنكلترا في إدراكها النصر".
وكانت رحلة عودة مَن لم يموتوا أصعب من الرحيل، فقد امتلأت بالعذاب والمشقة واللهفة والحنين لأرض الوطن بعد ذلك الحرمان الطويل والغربة القاسية.
مضت تلك الأيام تاركة أغنية حزينة، كان عمال الفيلق يغنونها: يا عزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي.. ولدي يا ولدي السلطة خدت ولدي
رغم كل ما قاسوه، لم يكن أحد يتحدث عن مصير أبناء الشعب، يقول صلاح عيسى: "كانت الأفواه مكممة، والأحرار مشتتون، لذلك لم يرتفع صوت بالاحتجاج، وفي ما بعد كتب الشاعر بيرم التونسي، زجله المشهور (صعيدي في باريس)، وأشار إلى بعض رجال فيلق العمال الذين ذهبوا إلى هناك:
أبكي عليك يا معوض.. مسكين والله مسكين
وحديك.. وحبايبك في البلد مبسوطين
إذا عاندك زمانك.. اللي حايحامي مين
والسلطة العسكرية قطعت إيدي اليمين
وعندما عادوا، انعكست صورة الفرحة في ما غنّوه به. يروي محمود عسكري في مؤلفه "صفحات من تاريخ الطبقة العاملة" أنهم كانوا يقولون:
سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة
شفنا الحرب شفنا الضرب وشفنا الديناميت بعنينا
مهما يكون كله يهون إلا وطنا ما يهونش علينا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت