رحل المفكر والمؤرخ هشام جعيّط عن عالمنا يوم 1 حزيران/يونيو 2021، عن عمر 86 عاماً، وعرف جعيّط بكتابته المجددة في الفكر العربي الإسلامي، وكان من دعاة الاعتدال والوسطية. كتب بالفرنسية وبالعربية وكانت أول كتاباته في مجلة annales التاريخية.
أزمة في أزمات
في كتابه "أزمة الثقافة العربية "الصادر سنة2000 ، كتب المفكر هشام جعيّط: "أشعر أنني مهان في انتمائي إلى دولة بلا أفق ولا طموح. متسلّطة. إن لم نقل استبدادية. لا يوجد فيها علم ولا عقل ولا جمال ولا حياة ولا ثقافة حقيقية. هذه الدولة تقمعني وأنا أختنق في هذا المجتمع الإقليمي الجاهل والمزيف".
قد يكون الكلام في المطلق اعتراف مثقف عربي، فهم الصراع القائم بين الهوية المأزومة وبين الدولة المتسلطة العاجزة عن إرساء نظام اجتماعي واقتصادي، يضمن قيمة الفرد ويوفّر له مناخاً للحرية وللتفكير الإيجابي في معوقات التأخر التي تنخر حضارة تتقهر منذ قرون.
رحيل المفكر والمؤرخ هشام جعيّط: "أشعر أنني مهان في انتمائي إلى دولة بلا أفق ولا طموح. متسلّطة. إن لم نقل استبدادية. لا يوجد فيها علم ولا عقل ولا جمال ولا حياة ولا ثقافة حقيقية. هذه الدولة تقمعني وأنا أختنق في هذا المجتمع الإقليمي الجاهل والمزيف"
لم يكن هشام جعيّط يوماً بمعزل عما يجري في تونس وفي العالم، بل إنّ الهمّ الفردي والجمعي شغل مؤلفاته وتقاطعا. وقد عالج طبيعة السلطة الاستبدادية وكيفية تفتيتها لثوابت القيم التي يقوم عليها استمرار المجتمعات، واعتبر أنّ الثقافة مجموعة عوامل اقتصادية واجتماعية وروحية فكرية، تثبّت الفرد في واقعه وتربطه بفهم عميق لماضيه ولعصره معاً.
وظلت تصريحات هذا المؤرخ مثار جدل في تونس، لنبذه فكرة التسلّط في الحكم ونزعة الزعامة والشخصنة لدى الحاكم العربي، وموقفه من الحداثة الغربية والديموقراطية ونقده لتعثر الحكومات بعد 14 كانون الثاني /يناير 2011، ونقده لدور الأحزاب ولليسار التونسي، وتشديده على عدم فهم مجتمعنا لطبيعة الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، ونقده للمنهج التشكيكي الهادم كلياً للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي وإيمانه بأن ما حصل في تونس كان ثورة على الديكتاتورية، وكذلك الثورات التي تزامنت معها في العالم العربي..
التاريخ وعي وعمل عقلي ووجداني
ولد هشام جعيّط في 6 كانون الأول/ديسمبر سنة 1935 بتونس العاصمة، لعائلة بورجوازية عُرفت بالعلم وتقلّد المناصب في تونس وارتبطت بجامع الزيتونة وبالتدريس .
تلقى تعليماً تقليدياً وعصرياً بالمدرسة الصادقية ثم أكمل دراسته في فرنسا ليحصل على شهادة التبريز في التاريخ سنة 1962 ثم دكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة السوربون بباريس سنة 1981.
عمل بالجامعة التونسية وبقي أستاذاً فخرياً حتى وفاته، وعمل أستاذاً زائراً بجامعات أوروبية وأمريكية، من بينها جامعة ماك جيل في مونريال، وجامعة كاليفورنيا بركلي، والمدرسة التطبيقية للدراسات العليا بباريس، كما ترأس مؤسسة "بيت الحكمة" في تونس، من سنة 2012 الى سنة 2015، وكان عضواً في الأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون.
كان من أساتذة هشام جعيّط، المستشرق الماركسي الفرنسي المتخصص في التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى كلود كاهن، الذي اعتمد في عمله على الوثيقة التاريخية العربية وخصوصاً المخطوطات، وتفطن إلى أنه لا يمكن فهم تاريخ العرب إلا من خلال العرب أنفسهم بدرجة كبيرة في مرحلة أولى قبل التأليف.
كما اهتم هشام جعيّط في بداية تكوينه العلمي بأعمال مفكرين غربيين، منهم الفيلسوف ماكس فيبر، والمؤرخين مارك بلوغ والروماني ليفي وبرودويل ولوسيان فييبر ومارك بلوش.
ولم يغفل عن أهمية المادة المستقاة من المؤرخين العرب القدامى، كالطبري الذي نقل مصادره بموضوعية نسبية تتناسب مع ما وصلت اليه المعارف التاريخية في عصره.
التاريخ ديوان العرب
كان هشام جعيّط يعتبر أن التاريخ ديوان العرب إضافة إلى الشعر، إذ نقل الأحداث، بينما كان يرى أن المفهوم الأساسي لوظيفة المؤرخ أن يكون هذا العلم معقولًا ولا يغرق في المتناقضات، وأنّ المصادر الشفوية لها قيمة في هذا الجهد المعرفي مع تسليط غربال النقد عليها، وهو يفنّد عمل بعض المستشرقين الذين يجدون أنه من غير المجدي دراسة الفترات الأولى للتاريخ الإسلامي نظراً لتأخر الكتابة عنها بفترات متفاوتة البعد.
وقد وجدت مدرسة تونسية تأريخية تحمل بصمة المؤرخ هشام جعيّط كان نواتها أعمال طلبته القدامى، وكانت كتبه في جزء كبير منها دروساً ومراجعات وسينمارات بحثية جامعية، وكان يشدد على أن الوعي التاريخي هو ما يرسّخ وجود الأمم والحضارات في الذاكرة.
ولمعرفة منهج هشام جعيّط في التأليف حاورت رصيف22 الدكتورة بثينة بن حسين، أستاذة محاضرة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، التي اعتبرته أستاذاً وعالماً وأباً، التحق أخيراً بمؤرخه المفضل ابن خلدون، والتي أكّدت على أهمية إنتاجه في الحقل المعرفي التاريخي وفي مجال التاريخ الإسلامي المبكر، خصوصاً القرن الأول الهجري.
اعتمد هشام جعيّط على الأنثروبولوجيا والفلسفة وعلم الأديان، ما جعله مجدداً في مجاله. فقد درس الكوفة كمصدر أرّخ للفتوحات واستقرار القبائل العربية، وحلل في الوقت نفسه الصراعات السياسية الدينية، وخاصة الثورات الشيعية
سبر أغوار التاريخ الإسلامي وحلل تفاصيله و اعتمد على المصادر الأولية القريبة من الأحداث، كالبلاذري في "أنساب الأشراف" والطبري في "تاريخ الرسل والملوك" واعتمد على كتب التفسير (أقدم تفسير للقرآن للطبري) فكان تفكيكه يعتمد على المنهجية العلمية الصارمة، وخاصة على بحث تدقيقي في الروايات والاتجاهات الإيديولوجية لهؤلاء الرواة.
فأبو مخنف الشيعي، الرواية الأساسي لثورة الحسين بن علي في الكوفة، وكان الزهري يمثل الرواية الأموية بالمدينة، بينما مثّل ابن عوانة بن الحكم الكلبي الرواية الشامية للأحداث.
كما اعتمد على كتب الأنساب كمصدر أساسي لمعرفة العلاقات بين القبائل وتأثير العصبية القبلية، وكانت عصبية قريش من أهم هواجسه (بنو مناف، بنو أمية، بنو هاشم) ولم يخف عليه دور كتب الطبقات في البحث في أعماق الصحابة والتابعين وربطهم بالرسول.
واعتمد على الأنثروبولوجيا والفلسفة وعلم الأديان، ما جعله مجدداً في مجاله. فقد درس الكوفة كمصدر أرّخ للفتوحات واستقرار القبائل العربية، وحلل في الوقت نفسه الصراعات السياسية الدينية، وخاصة الثورات الشيعية، منذ ثورة الحسين بن علي إلى آخر ثورة في العهد الأموي، وكانت له الشجاعة المعرفية للخوض في مسألة الفتنة الكبرى والانشقاقات التي حدثت بين المجموعات الإسلامية.
تميزت دراسته للسيرة النبوية بانها فتحت نافذة على تاريخ قريش وعلاقتها بتاريخ مكة وإشكاليات كتابة السيرة في الفترة الأموية، وكان هاجس الدكتور هشام جعيّط الدائم التعريف بأسس الشخصية العربية الإسلامية والتونسية، وكان خبيراً بتاريخ إفريقيا والمغرب والأندلس وأوروبا. وكان كتابه الأخير عن تاريخ الأديان تفكيراً عميقاً في تاريخ الأديان البوذية والزرادشتية والمسيحية واليهودية والإسلام.
أهمّ مؤلفاته
لقيت مؤلفاته اهتماماً في العالم العربي والغربي نظراً لانشغاله من داخل المدوّنة التاريخية العربية واهتمامه بالمراجعة والمساءلة، معتمداً على متون تراكمية في تفاسير القدامى للسيرة وللقرآن، كما اهتم بالعوامل التاريخية التي شكلت شخصية محمد، الرسول والإنسان ونذكر منها:
"الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي"، بيروت، دار الطليعة، 1984.
"الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية، بيروت، دار الطليعة، 1986.
"الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، بيروت، دار الطليعة، 1992.
"أزمة الثقافة الإسلامية"، بيروت، دار الطليعة، 2000.
"تأسيس الغرب الإسلامي"، بيروت، دار الطليعة، 2004.
"أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة"، بيروت، دار الطليعة، 2007.
"في السيرة النبوية. 1: الوحي والقرآن والنبوة"، بيروت، دار الطليعة، 1999.
"في السيرة النبوية. 2: تاريخية الدعوة المحمدية"، بيروت، دار الطليعة، 2006.
"في السيرة النبوية.3: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام"، بيروت، دار الطليعة، 2014.
"التفكير في التاريخ. التفكير في الدين"، دار سيريس للنشر 2021.
Bas du formulaire
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...