شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"كتب لا تزني باللغة لا يعوّل عليها"... هوس المكتبة و"فئران الكتب"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 9 يونيو 202103:50 م

قرأت الكثير عن تجارب كبار الكُتَّاب مع المكتبة وطقوسهم في القراءة، أمثال ألبيرتو مانغويل في كتابه "المكتبة في الليل"، هنري ميللر صاحب "الكتب في حياتي"، بورخيس الذي يتخيل الجنة على هيئة مكتبة، فيرجيينا وولف، صاحبة تعبير "غرفة الإنسان الخاصة" باعتبارها مكاناً لائقاً للقراءة، وغيرهم، كما أعرف الكثير من القرّاء الشغوفين، أو من يُطلق عليهم "فئران الكتب"، بحيث لا يحتسبون يوماً من حياتهم إن لم يملؤوه بالقراءة والانتعاش برائحة الورق والأفكار.

ومنهم أيضاً من ينتشي بـ"سرقة الكتب" ويعتبرها أنبل أنواع السرقة، وأنها تحتسب من الحسنات، لاسيما إن تمَّت ممن لا يعرفون قيمة ما يتملكونه من كتب، وآخرون يتعاملون مع كتبهم كأبنائهم، ويدارونها كنفائس، حتى يكادوا يضعون على مكتباتهم أجهزة إنذار ضد السرقة والحرائق وغيرها من المخاطر، وكأنهم يعيشون بالقراءة وللقراءة، يتروحنون بها، ويكتسبون منها معناهم.

الكتاب بالنسبة إليهم سبب أساسي في كينونتهم، ومُحرِّض على وجودهم، وسند لهم في مداورة مرارة حيواتهم، لدرجة باتت مكتباتهم هي بمثابة سيرة ذاتية لهم، ووسيلة بقاء، إذ إنهم ينجون بالكتب وينجُّونها معهم، "أليس كل قارئ هو من يضمن لكتاب معين قدراً من الخلود؟!"، كما يقول مانغويل.

المكتبة هي الجنة

يحيى زيدو، الحاصل على درجة الماجستير في الفلسفة من جامعة دمشق، يربكه الحديث عن الكتاب، لاسيما أنهما "صديقان يصعب وصف العلاقة بينهما بكلمات"، كما يقول، ويضيف لرصيف22: "تعود علاقتي بالكتاب إلى المرحلة الابتدائية في قريتي المنثورة سهواً والمنسية بين الجبال، قليلٌ من أهلها كان لديه بضعة كتب. وكان للكلمة المطبوعة قداسة ألهمتني عشق رائحة الحبر والورق، وربما كان هذا العشق سبباً في أني لا أستمتع بالقراءة الإلكترونية حتى الآن.

"الإنسان كائن قارئ"، وربما كان هذا ما قصده أرسطو في تعريفه للإنسان باعتباره "حيواناً ناطقاً"؛ أي أنه كائن يستخدم اللغة ويفكّر، وهذا الأمر لا يكون إلا من خلال الكتاب

'الإنسان كائن قارئ'، وربما كان هذا ما قصده أرسطو في تعريفه للإنسان باعتباره 'حيواناً ناطقاً'؛ أي أنه كائن يستخدم اللغة ويفكر، وهذا الأمر لا يكون إلا من خلال الكتاب. وحتى عندما نتحدث عن مجاز الكتاب، كأن نقول: المرأة كتاب، أو الطبيعة كتاب، أو الحب كتاب، أو الموت كتاب، فإننا هنا نتحدث عن الكتاب بوصفه أداة المعرفة، لغةً، قراءةً، كتابةً وتفكيراً.

الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي بورخيس تخيل الجنة باعتبارها مكاناً يشبه المكتبة. أما أنا فإنني أرى من الجهة المقابلة بأن المكتبة هي الجنة، وكل كتاب فيها كائن من كائنات الجنة له درجة يستقر فيها، أو رف يستقر عليه".

للكتاب قُدْسِيَّتُه

يرى زيدو أن "الكتاب مادة يتغذى عليها العقل، وفضاء تتسع به الروح، وهذا ما يوقظ الإحساس بالحرية، وربما بالقوة والسطوة، قوة وسطوة المعرفة. فالكتاب يضيء ويكشف ويحاكم ويدين ويحكم، ويدفع إلى إعادة النظر في اليقينيات والمطلقات التي تشكل ما يراه البعض قناعات ومبادئ نقع في أسرها ونرفض مغادرة سجنها في الغالب".

يقول: "في مكتبتي اليوم ما يزيد عن تسعة آلاف كتاب، جمعتها على مدى عقود، وهي أثمن ما أملك. وكلما تأملتها أتذكر الأيام التي لم أكن فيها قادراً على شراء كتاب، فكنت أقصد معارض الكتب لأقرأ ما أستطيع وقوفاً، أو أستعير كتباً من أصدقاء، وأعيدها بعد الانتهاء من قراءتها، وهنا لا بد من التعبير عن الخيبة من البعض الذي استعار كتباً ولم يقم بإعادتها.

الألم ليس بسبب قيمتها المادية بل بسبب نفادها من المكتبات، أو ارتباطها بذكرى اكتسب الكتاب قيمته منها. وربما بسبب إحساسي بألم الأيام التي لم أكن قادراً فيها على اقتناء الكتاب، ما زلت أُسعد بإعارة الكتب لمن يقرأ، مع علمي بأن بعضها قد لا يُعاد".

لا طقوس محددة للقراءة عند زيدو، فقد تجاوز، كما أخبرنا، مبدأ القراءة من أجل المعرفة إلى القراءة من أجل المتعة؛ متعة القراءة ولا شيء آخر. وحيث يتوفر الوقت يقرأ ويستمتع، وقلّما مر يوم في السنوات الثلاثين الأخيرة من عمره لم يقرأ فيه.

يوضح: "على العموم أقرأ أكثر مما أكتب، وأفضّل القراءة في المنزل أو في مكان مغلق أكثر من القراءة في الأماكن العامة أو المفتوحة. وفي الغالب فإن قراءة الكتاب تكون في الليل أكثر من النهار الذي يمكن أن تقرأ فيه مجلة أو جريدة. فللكتاب حميميّته وخصوصيته، بل قدسيته التي تفرض ألا تنشغل عنه بضوضاء النهار".

"ضد المكتبة"

من جهته، الصحفي والروائي السوري خليل صويلح، ينادي بالإطاحة بهندسة رفوف المكتبة رأساً على عقب في كتابه "ضد المكتبة"، متسائلاً: "هل كل ما اقتنيناه من كتب ينبغي الحفاظ عليه، لاسيما في ظل الثورة التقنية التي أتاحت امتلاك كمبيوترات محمولة على هيئة مكتبة متنقلة تحتشد بالأفكار؟".

ليوضح في حديثه إلى رصيف22: "ما أعنيه هو إلغاء الشكل الفلكلوري للمكتبة، كمظهر استعلائي لا يختلف كصورة رمزية عن فاترينة الكريستال، وتالياً، ضرورة إطاحة عناوين تسلَّلت عنوةً إلى الواجهة بقوة دفع إيديولوجية طوراً، وسطوة أسماء مرموقة تارةً، أكثر منها حاجة روحية ومعرفية".

وهو في هذا يتماهى مع ما قاله بورخيس الذي كان يتخيل دوماً الجنة على شكل مكتبة، لكن من موقع مناقض.

يقول: "أظن أنه من دون تنظيف هذه المكتبة من الأعشاب الضارة، ستكون نوعاً من الجحيم الدنيوي، فاحتياجنا فقط هو إلى الكتب التي تقوم بتغيير مصائرنا وفقاً لما يقوله جيمس بالدوين، وعدم قراءة إلا المؤلفات التي تعضُّنا وتوخزنا، فعلى الكتاب كما يرى كافكا أن يكون كالفأس التي تهشِّم البحر المُتجمِّد فينا، لذا من الضروري تلخيص المكتبة بما يوازيه من تكثيف المتنبي للشعر بقوله: على قلقٍ كأن الريح تحتي".

تحتاج إلى "مذبحة"

ويعتقد صويلح أنه رغم هول كلمة "مذبحة"، إلا أن المكتبة تحتاجها بين فترة وأخرى "كنوع من الاصطفاء الطبيعي والضروري للكتب التي تتكئ على عكّاز الأكاذيب، فقر الدم وتصلُّب الشرايين وضياع الموهبة"، ويضيف: "ميراث الكاتب يتمثل في سلسلة قراءات في المقام الأول، باستعادة لذة طحين الآخرين قبل عجنه بأصابع أخرى، ووشم مختلف في عملية لا نهائية، وكأن رفوف المكتبة صخرة سيزيف موازية".

الشكل الفلكلوري للمكتبة، كمظهر استعلائي، لا يختلف كصورة رمزية عن فاترينة الكريستال، وتالياً، ضرورة إطاحة عناوين تسلَّلت عنوةً إلى الواجهة بقوة دفع إيديولوجية طوراً، وسطوة أسماء مرموقة تارةً، أكثر منها حاجة روحية ومعرفية" 

ليعود فيؤكد بأن مناداته المُضادة للمكتبة هي دعوة إلى القراءة، لكن من موقع مُغاير وغير مألوف. فهو يعتبر أن "كتباً لا تزني باللغة، لا تتوغل في الأحراش الكثيفة المعتمة، لا تحدث طوفاناً، لا يُعوَّل عليها".

من هنا يحتفي صويلح بأصحاب الرؤى الفريدة والخارجة عن المألوف، مثل امبرتو إيكو الذي لطالما خلخل اليقينيات بسرديات مضادة، وبرنهارد شلينك الذي أثبت أن صفحة الكتاب جسد مفتوح على اللذة أيضاً، وميلان كونديرا المُنادي بأن يكتب الروائيون تاريخاً مُضاداً لا يصطدم بحائط النسيان، مروراً ببورخيس كنموذج آخر لمتاهة الكتابة، والروائي الصربي زوران جيفكوفيتش المهووس بالمكتبات.

أيضاً المُمانع الأرجنتيني الفذّ أرنستو ساباتو، وإرفين د. يالوم الذي أدخل الفلاسفة قفص التخييل الروائي، وأيضاً الفرنسي بيار بيارد اللاهي عند تخوم الكتابة لزعزعة قدسيتها، وابن عربي ترجمان الأشواق، ودوغلاس ج ديفيس مؤرِّخ الموت، وليس انتهاءً بالموسوعي جورج طرابيشي وإشراقاته المتفردة التي تربو على مئتي مؤلَّف، وغيرهم الكثير. يختم صاحب "جنة البرابرة": "أن تكون ضد المكتبة، فأنت تحتاج إلى مكتبة أخرى، بخطط ومتاهات لا نهائية!".

عناوينٌ لجسدي المتشظِّي

الإعلامية ردينة نصور، التي تمتلك في طرطوس مكتبة يُشبِّهها كثيرون بصالون مي زيادة، لغناها بالكتب والمراجع النادرة، تصف كنزها ذاك بأنه "محصول من الحب لا يموت".

وبلغة شفيفة تحكي لرصيف22 عن علاقتها بالكتب بالقول: "أنا امرأة آمنت بالذي علَّم بالقلم. الورقة بيتي والقلم عنواني. حكايةٌ مختصرة لجمال الكون، أستمد قوتي من الحروف، بكُتُبٍ هي الأيادي الحنون التي مسحت لي دموع ألمي، هنا جعلت الجهل يتألم ويئنّ. المكتبة معبدي ومعتكفي، صلاتي وعبادتي... مصدر للمعرفة ودليل الثقافات المختلفة، ومكان لمقابلة المشاهير. أنا حكاية الكتب والكتب حكايتي، يحدقون بي بحزنٍ مفضوح، وأسمع أنينهم بوجه صامت متأمل.

"أنا امرأة آمنت بالذي علَّم بالقلم. الورقة بيتي والقلم عنواني. أستمد قوتي من الحروف، بكُتُبٍ هي الأيادي الحنون التي مسحت لي دموع ألمي، هنا جعلت الجهل يتألم ويئنّ. المكتبة معبدي ومعتكفي، صلاتي وعبادتي... مصدر للمعرفة ودليل الثقافات المختلفة، ومكان لمقابلة المشاهير

هم عناوينٌ لجسدي المتشظي الموشوم بتاء الأنوثة النبيلة، عشت معهم وبينهم كعائلة منحتني كل الحب والدف، أشعر بالنار باردة وبالثلج حاراً. أعيش الحب والرحمة مع آبائنا منذ عشرات القرون، أخرج من هذا العصر وعقليته وثيابه ومفرداته، لأحفظ ذاكرتي بلغةٍ تضحك وتبكي وتعصف بعقلي".

بوابة نجاة

ترى نصور أن شخصيتها باتت تنغمر في أحشاء الكتب، وأنها تسير معها إلى حتفها بوجعٍ سيزيفي لا مرئي، وكتّاب تُسدِّد فواتير حبِّهم. تقول: "هم أصحابي وأهل، شأني بحكايات إيسوب، وأشباح ديريدا، وغريب كامو ووحدته وهمومه. مع مواعظ وأشعار عقدي الفريد، أغني مع الأصفهاني، وبستان فسيح الأرجاء من مروج الذهب ومعادن الجوهر، هي رسائل خاصة لكتب تلتصق بي وتمشي بقربي وتصرخ في وجهي.

من خواطر الناس من سام إلى حام، وجمهرة اللغة والبردة العصماء، وأفصح العرب لساناً وأكملهم بياناً، وأرجحهم في إيضاح القول ميزاناً، حروفهم مكسوة بدثار أرواحهم، وأغانيهم خالدة تستوطن ذاكرتي، أطير معهم فوق جسور العالم، أصلحت بحبهم ما أفسده العصر. لا خداع، لا مكر، هم بوابتي للنجاة، ومعهم أبقى على قيد حلم، على قيد سلام، على قيد حب... لا وقت عندي للكره، فقلبي مشغول بالحب.

جميلة أخلاقهم، مختلفة آراؤهم وأفكارهم، وكل واحد منهم يقول للآخر: لا تملّ، فأنا أتَّكئ عليك. وكل يوم قبل أن أودعهم يخبرونني بأن الحياة رواية. حلم بها فاوست وحملها سيزيف وعاشها دانتي. في النهاية لا مخرج آمن إلا بالمعرفة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image