شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أردت القراءة بالعربية في بوغوتا فأتى الفَرَج الأندلسي

أردت القراءة بالعربية في بوغوتا فأتى الفَرَج الأندلسي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 26 مارس 202110:10 ص

بعد أكثر من عامٍ من الشوق والحنين إلى القراءة بالعربية، وبعد سؤال القريب والبعيد، العرب والأجانب، عن كتب عربية، وبعد اقترابي من اليأس حين سألتُ إمام المركز الإسلامي، الخطيب التونسي فصيح اللغة، وأخبرني أنه لا يعرف عن مكتبة عربية في واحدة من أكبر عواصم القارة الأمريكية، أتى الفرج الأندلسيّ!

خرجت وحدي صباحاً في العاصمة الكولومبية بوغوتا قاصداً محلاً للحلوى عمره يقارب المئة عام لأقرأ فيه قصائد شاعر أوروغواياني وأشرب الشوكولاتة الساخنة وآكل الخبز الفرنسي الذي يصنعونه، دون أن أخلط الجُبن بالشوكولاتة كما يفعل أصحابنا.

انتهى بي الأمر أقرأ مقابلة مع شاعري التشيلي الأثير: راؤول سوريتا. انتهيتُ من القراءة والإفطار وقررتُ العودة للقراءة في البيت دون موسيقى الخلفية التي لم تتح لي الاستمتاع بموسيقى قصائد بينيديتّي.

أثناء عودتي، لمحتُ فرع مكتبة الجامعة الوطنية، ولم أكن قد زرتها من قبل. دخلت لألقي نظرةً، "(وكانت) نظرةً أودت بقلبي... فغادرَ سهمُها قلبي جريحاً". افترشت الأرض مُربّعاً كعادتي وقرأت عناوين كتب الشعر كتاباً كتاباً، ولم يفتني أن أقرأ بعض القصائد للشاعر الصيني بي لو الذي كان صديقي قد حدثني عنه في ذات الصباح، ثم أفضّ غلاف نسخةً أجمل من حياتي لقصيدة إيثاكا لابن بلادي كفافيس. قرأتها وأغرمتُ برسومها لكنني تركتُها حرصاً على جيبي وعلى قابل الأيام.

انتهيتُ تاركاً دراسة نابوكوف عن دون كيخوته قائلاً لنفسي إنني سأشتريها يوماً آخر في بلدٍ آخر، ولأركّز الآن حيثُ أنا، ولم أحمل في النهاية سوى قاموسٍ في الترجمة من العربية إلى الإسبانية لم أكن قد رأيتُه من قبل، وكتاباً عن أدب الرحلات في القارة الجنوبية، لأرى ما فعل الناس، لعلي أحسّن ما أفعل.

"الباب السحري"

خرجتُ من المكتبة بعد ساعاتٍ لم أعدّها، وتوجّهت إلى واحدة من أعرق المكتبات القديمة في شارع الكتب في بوغوتا: مكتبة "ميرلين"، وكنتُ قد زرتُها مرة واحدةً من قبل ووقعت في غرامها، إذ وجدتُ فيها عشراتٍ من روايات نجيب محفوظ مترجمةً إلى الإسبانية، وفوقه ترجمات إسبانية لروائيين كثر.

لكنني هذه المرة، ولهاناً مشتاقاً، سألتُ أول ما دخلتُ المكتبة عن كتبٍ بالعربيّة، أية كتب، في أي موضوع. تذكرتُ حينها محمود شاكر وسنوات عكوفه واعتكافه على قراءة كتب التراث العربي، وحكايته أنه قرأ طوال تلك السنوات التي لم يخرج فيها إلى الدنيا كل ما وقعت عليه يداه مما كتب العرب في أدب أو دين أو رياضيات أو فلك أو طبٍّ، لكنني كنت على الطرف الآخر من الخط، لا أريد الإحاطة بكل ذلك، وإنما جل ما أريد أن أقرأ حروفاً وجملاً عربيةً في كتابٍ أمسكه بيديّ، يأخذني إلى بيت بعيد تغطي جدرانه الكتب العربية من الأرض إلى السقف، باعدت بيني وبينه البحار والمحيطات. اصطحبني أحد الفتية إلى الدور الثالث ولم أكن أظن أن المكتبة بيتٌ كاملٌ مكتظ عن آخره بالكتب في أدواره الثلاثة. أخبرتُ دليلي أنها ليست "ميرلين" وإنما مكتبة بورخس البابليّة!

وصلنا أخيراً إلى الباب السحري! حائط ممتلئ بكتب بلغاتٍ مختلفة، لكن الدليل أخبرني أنه لا يميّز الكتب العربية. نظرتُ تحتي ووجدتُ كتباً فأريته أحدها ليميّزها ثم تركني وهبط. بدأت في تصفّح الكتب ووجدتُ أغلبها عن القضيّة الفلسطينية، ثم وجدتُ كتاباً صغيراً هو "التغريبة الفلسطينية" لوليد سيف، فقبضتُ عليه ولم أفلته. وتمتمتُ إليه "أجارتنا إنّا غريبانِ هاهُنا... وكُلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ". فكرت أن أغلب هذه الكتب لا بد جاءت مع أصحابها في هجراتهم المتوالية إلى هذا العالم البعيد، باحثين عن "شجرة الأناناس" التي أتى جد الشاعر الهندوراسي رونالدو قطّان يبحث عنها في عالم أحلامه، حازماً معه بعض الكتب التي لا تتركه لغربة اللغة في هذا العالم الآخر.

"حين خرج من فلسطين،

كان يريد أن يجد في هذه الأراضي شجرة الأناناس.

كان يتخيّلها شجرة وارفةً، تشبه تلك التي جعلها الله في الجنة.

هجر أرضه بأمل في أرض جديدة، ولم يجد ما أمّل.

في هذه القصيدة،

سيقدر جدي أن يجمع ثمار الأناناس من قمم الأشجار،

إذ يمكن أن تنمو في القصائد كذلك الأشجار التي لا وجود لها،

والثمار العتيقة، وحتى البلد الأصلي.

ومع ذلك، أصرُّ

ما أريد له أن ينمو من جديد هنا ليس الشجرة،

وإنما الأمل بأنه لا يزال هناك مكان يزخر بأشجار الأناناس".

أكملتُ بحثي، فإذا بي أجدُ اسماً أعرفه جيّداً: "إيميليو غارثيا غوميث". معرفتي بالأستاذ قديمةٌ، فهو أحد أهم وأكبر أسماء أعلام الدراسات العربية في عصرها الذهبي في إسبانيا. تلميذ لأستاذ الأساتذة ميغيل آسين بالاثيوث. إيميليو عبقري من عباقرة الإنسانية، وُلِد عام 1905، وحين أتمّ عشرين عاماً كان قد أنجز الدكتوراه، وبدأ يدرّس في الجامعة.

وفي الثانية والعشرين من عمره حاز منحة لجنة توسيع الدراسات والبحوث العلمية لدراسات مخطوطات عربية أندلسية في مصر والعراق وسوريا. وفي مصر تعرّف على طه حسين وتتلمذ عليه، وتواصل مع أحمد زكي باشا الذي أهداه مخطوطاً لكتاب "رايات المبرزين وغايات المميزين" لابن سعيد المغربي، فاختار منه إيميليو غارثيا غوميث مقاطع ترجمها ونشرها لأول مرة عام 1930، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، بعنوان "قصائد عربية أندلسية"، وكان لهذا الكتاب أثرٌ كبير في واحد من أهم الأجيال الشعرية الإسبانية المعاصرة، جيل الـ27، الذي كان لوركا ورافائيل ألبيرتي من أعلامه.

"فكرت أن أغلب هذه الكتب لا بد جاءت مع أصحابها في هجراتهم المتوالية إلى هذا العالم البعيد، باحثين عن ‘شجرة الأناناس’ التي أتى جد الشاعر الهندوراسي رونالدو قطّان يبحث عنها في عالم أحلامه، حازماً معه بعض الكتب التي لا تتركه لغربة اللغة"

ظل غارثيا غوميث عبقري زمانه في دراساته الأندلسية وترجماته وتحقيقاته وتدريسه في جامعة غرناطة وجامعة مدريد، وعمل سفيراً لإسبانيا في العراق وسوريا وأنقرة. لي حكايتان مع هذا الكتاب الذي سمعت به أثناء دراستي في جامعة سلمنكا الإسبانية، وأصبح حاضراً في ذهني وأنا أبحث عن الكتب في مكتبات البلدان والمدن والشوارع.

غارثيا غوميث في القاهرة

حين عدت إلى مصر، كنت ذاهباً يوماً من جامعة القاهرة إلى المركز الثقافي الإسباني في الدقي. في الطريق، بجوار سور حديقة الأورمان، مررت على بائع كتب قديمة كان لديه بعض الكتب باللغات الأجنبية، أقلها هي الكتب الإسبانية، لكنني كعادتي وقفت لأقلي "نظرة"، فإذا بي أجد نسخة من الكتاب وكانت المرة الأولى التي أراه فيها.

دهشت دهشة كبيرة وزادت دهشتي لزهد ثمن الكتاب فاشتريته على الفور، وذهبتُ أطير فرحاً إلى مكتبة المركز الثقافي. حين وصلتُ وأخرجت الكتاب لأريه لزميلة نادي القراءة التي كانت تعمل أمينة للمكتبة، دهشت هي الأخرى. لكن دهشتها كانت غير دهشتي، فقد نادت مديرتها وظلّتا تتحدثان وتبحثان في فهرس الكتب وأنا لا أدري ما يحدث. ثم أخبرتني أن هذا الكتاب مستعار منذ سنوات من المكتبة ولم يُردّ. فأخبرتها وأنا في نشوة مَن وجد ما يبحث عنه لسنواتٍ، أنها يمكن أن توصل مستعير الكتاب بي وأنا أرد لك كتابه بشرط أن يمنحني نسخة أخرى منه. لكن أياً منهما لم تخبرني بمستعير الكتاب. تركت الكتاب شهراً ثم ردّته إليَّ مديرة المكتبة الإسبانية، وأخبروني أن مَن استعار النسخة أعاد إليهم نسخة جديدة له شخصياً.

عرفت بعد ذلك أن الكتاب كان قد استعاره أستاذي القدير د. علي المنوفي رحمه الله، فقلت في نفسي لو أنهم أخبروني لتركته دون مقابل، لقدر الأستاذ عندي، ولأني أعلم أن أحد الباحثين طلبه منه ثم لم يرده ووجد الكتاب طريقه إلى رصيف حديقة الأورمان. على كل حال سعدت بأن كتاباً له صلة بأستاذي أصبح جزءاً من مكتبتي، وكأنني تركته لها ونسيته.

بعد حوالي ثلاث سنوات، وأنا في مدينة كارتاخينا (قرطاجنّة) في الساحل الكاريبي في شمال كولومبيا، ذهبتُ لأزور واحداً من كتّابها وشعرائها ذوي الأصول العربية. بيت خورخي غارسيّا أوستا (أوسطى) الذي رحل منذ 15 عاماً، لكنّ زوجته لا تزال محتفظة بمكتبته ومخطوطاته وتسجيلاته إلى الآن.

وأنا بين رفوف المكتبة، وصلت كعادتي إلى قسم الشعر، فإذا بي أجد كتابين، أعرف أحدهما وأجهل الآخر. الأول كان كتاباً يلاحقني أو ألاحقه: قصائد عربية أندلسية، لإيميليو غارثيا غوميث، عَبَر المحيط الأطلسي في طبعة قديمة، أقدم من التي وجدتها في القاهرة، إلى مكتبة ذلك الباحث عن جذور أجداده المهاجرين.

والكتاب الآخر كان مختارات لقصائد من الشعر "الشرقي" يجمع قصائد قديمة من الهند والصين واليابان إلى قصائد من المعلقات والشعر الإسلامي على مختلف عصوره.

"هاجمني مدير مهرجان بوغوتا للشعر وهو سكران حين عرف أنني عربي مسلم، إذ سألني عن سر حقيبتي الممتلئة، وهل أحمل فيها قنبلة، وكانت ممتلئة كتباً"

كلاهما كتابان صغيران أوراقهما مرت بألوان عديدة حتى وصلت إلى ذلك اللون الأصفر البني الذي يشعرك بأن الأوراق قد تذوب في يدك. حملت الكتابين بإذن زوجة الكاتب الراحل، والذي أخبرني صديقه الشاعر القرطاجني رومولو بوستوس بعدها أنه هكذا، كريمٌ حيّاً وميّتاً.

بدأ هذان الكتابان جولتهما معي في العاصمة الكولومبية بوغوتا أذكّر بما نسيه تاريخ الأدب الغربي/ العالمي: أن العرب كتبوا شعراً! قرأت أبياتاً من معلقة زهير بن أبي سُلمى، أطلّت من الكتاب صدفة وأنا في افتتاح مكتبة في وسط العاصمة كنت قد تعرضت فيها قبل أسابيع لاتهامات وهجوم من مدير مهرجان بوغوتا للشعر وهو سكران حين عرف أنني عربي مسلم، إذ سألني عن سر حقيبتي الممتلئة، وهل أحمل فيها قنبلة، وكانت ممتلئة كتباً. قرأت أواخر معلقة زهير بن أبي سُلمى في ذمّ الحرب ومدح هَرِم بن سنان والحارث بن عوف اللذين تحمّلا ما لا ناقة لهما فيه ولا بعير لتضع الحربُ أوزارها.

عدت إلى البيت بالكتاب تملأني فرحة مَن يمسك في يده بتذكرة العودة إلى بلاده بعد طول غيبة. ثم كانت المفاجأة أن الكتاب كله مكتوب بخط الأستاذ إيمليو غارثيا غوميث، وأنه مختارات من كتب من التراث العربي، أراد أن ينشرها دون تشكيل لتكون تمريناً لطلاب العربية من الإسبان المتقدمين على القراءة دون حركات.

جعل هذا من الكتاب كنزاً لا يقدر بثمن بالنسبة لي، خصوصاً لملمس أوراقه وقِدَمه. تصفحت فهرسه فوجدته مختارات من كتب: ألف باء في أنواع الآداب وفنون المحاضرات واللغة، لابن الشيخ المالقي الأندلسي، وروض الرياحين في حكايات الصالحين لليافعي، وهو الذي روى عطشي لقراءة حكايات المتصوّفة والعارفين التي كنت دائم القراءة لها في القاهرة والاستماع إليها في الجامع الأزهر ودروس التصوّف. ثم مختارات من كتاب حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر، وهو الكتاب الذي كانت نوادره تجعلني أخجل من نفسي وأنا أضحك بصوت عالٍ ولا أقدر على إيقاف ضحكاتي المتتالية وحدي في أحد مقاهي قرية باريتشارا المطلة على أخدود التشيكا موتشا. ثم تأتي مختارات من كتاب زهر الكمام في قصة يوسف عليه السلام، لعمر بن إبراهيم الأنصاري المُرسي، من مدينة مرسية الأندلسية، مسقط رأس أبي العبّاس المرسي السكندري. وفي النهاية فصل علامات الحب من كتاب طوق الحمامة لابن حزم، وهو أول ما بدأت قراءته.

وبعد ذلك بقليل أتى لي صديق شاعر كولومبي بنسخة شديدة الأناقة من الترجمة الإسبانية لكتاب طوق الحمامة في الألفة والأُلّاف، التي أنجزها على أتقن وجه نفس الأستاذ إيميليو غارثيا غوميث.

ليلة من ألف

حين قدّرت الظروف لي أن ألقي قصائد لي ولشعراء عرب برفقة شاعر هو من أكبر شعراء كولومبيا وأمريكا الجنوبية المعاصرين: خوان مانويل روكا، اخترتُ أن أسمي الندوة: ليلة من ألف. واخترتُ بدلاً من القراءة من ألف ليلة وليلة، أن أقرأ الفصل الأول من كتاب طوق الحمامة في علامات الحب بالعربية، بخطّ غارثيا غوميث، ثم طلبت من الشاعر الكولومبي الكبير خوان مانويل روكا أن يقرأ ترجمة غوميث نفسه لهذا الفصل، محاولاً تقديم كتاب آخر من أجمل كتب الأدب الأندلسي إلى جمهور الشعر والأدب في هذه البلاد البعيدة.

وهكذا، كان غارثيا غوميث حاضراً في هذه العاصمة اللاتينية البعيدة، بعد أكثر من خمس وعشرين عاماً من رحيله، وقد رحل في نفس عام مولدي. كان حاضراً كل ذلك الحضور بخط يده، وبترجماته، وبكلماته، متحدثاً عن الأدب العربي، ومؤنساً لي في غربتي بخطه المغربي الجميل، ومختاراته التي عرّفتني على كتب لم أعرفها ككتاب حدائق الأزاهر، الذي بدأت قراءته بعد الانتهاء من مختارات الأستاذ غوميث، باحثاً عن وقت أقضيه أضحك وحدي ضحكة عربية قبل يوم أقضيه في لغة أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image