في العام 2007، كتب أستاذ الأدب بجامعة باريس والمحلل النفسي، بيير بايارد، كتاباً طريفاً بعنوان: "كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها". حين يطالعك هذا العنوان تظن أنه يقدم لك نوعية من الكتب التي تتضمن التحايل والتبجح، أو أقلّه الهروب من النقاشات الجادة في الصالونات الأدبية مع عدم إظهار جهلك بالكتاب موضوع النقاش ولا مناقبه أو مثالبه، مثلاً: كيف تبهر صديقتك الجديدة؟ أو كيف تتألق أمام مديرك الجديد؟
لكن بايارد يقدم ضمن هذه النصائح المضحكة، مثل الاطلاع على عناوين فصول الكتاب، سنة الإصدار ودار النشر وخلاصة الناشر في الغلاف الخلفي، مسألة "جدار الثقافة المرعب" الذي يصطدم به الطلاب في الحديث والنقاش وإبداء الآراء، إضافة لتعريف فعل القراءة نفسه، الذي يتضمن "سوء فهم" خطير بحيث يمكن أن نقول إن لا أحد يقرأ الكتاب نفسه إلا على شكل خلاصات.
ويقول إنه كتب هذا الكتاب ليدفع الناس للقراءة أكثر عبر تعلم طرق جديدة للقراءة، غير الطريقة المدرسية التي تتضمن تعبئة استمارة وتحليل "الندبة الثقافية" التي أحدثتها المدرسة في أرواح الطلاب، "أريد أن أساعد الناس على تنظيم مساراتهم الخاصة من خلال الثقافة، وأيضاً أولئك الذين هم خارج الكلمة المكتوبة، الذين يرتبطون بالصورة لدرجة أن لا شيء سيعيدهم للقراءة"، يقول.
المكتبة الافتراضيّة
إذ إن مجموعة "النتف" الثقافية التي يتم تبادلها بين الطلاب على شكل أفكار مبعثرة تصنع نوعاً من "المكتبة الافتراضية" يدور فيها الهواة، أو ذوو الثقافة المتوسطة: "ما يهمّ في كل كتاب هو معرفة التوجّه، أن تتم تنمية الثقافة لا يعني أن تقرأ كل الكتب حول موضوع محدد، بل أن تعرف بدقة كيفية تحديد مكان الذات ككل، وتحديد موقع كل عنصر بالنسبة للآخرين".
يحيل الشاعر والروائي عباس بيضون في مقالة كتبها حول نفس الفكرة في جريدة السفير في 2009، الأمر إلى ثقافة سماعية تتأسس عليها ثقافتنا العربية، "ثرثرة مقاهي" كما يقال، فنحن نستشهد بكتب ومقولات، ليس نحن فقط، بل كتاب كبار ومثقفون مشهود لهم، لم يقرأوها إطلاقاً، أو لم يقرأوها بعناية، ولا نسأل أنفسنا إذا كنا قد وعينا هذه الكتب أو حتى قرأناها. نستخدم مفردات يومياً في كتاباتنا، وربما أحاديثنا أيضاً، من نوع: أفكار دونكيشوتية، نظرة كافكاوية، كعب آخيل، فهل يتطلب استخدامنا لهذه التعابير قراءة حقيقية، جدية وعميقة لسرفانتس وكافكا وهوميروس؟
"نستخدم يوميًا مفردات من نوع: أفكار دونكيشوتية، نظرة كافكاوية، كعب آخيل.ولكن ألا يتطلب استخدامنا لهذه التعابير قراءة حقيقية لسرفانتس وكافكا وهوميروس؟"
عمّ يتحدث كتاب "البخلاء" للجاحظ: طرائف عن البخل. ألف ليلة وليلة: قصص متتالية عن الخيانة الزوجية والسحر والمغامرات. البحث عن الزمن الضائع لبروست: عن الذكريات التي تأتي عبر أشياء بسيطة، الإلياذة: عن الحرب والبطولة.
القراءة ليست عملًا فرديًّا
هناك نوع من الثقافة الشفهية التي تصبح "ملكاً عاماً"، إذ إن القراءة ليست عملاً فردياً برأي عباس بيضون، إنما ماكينة اجتماعية، نقرأ ما يريد لنا الآخرون أن نقرأ، ونفهم ما نلتقطه من هنا وهناك، من فهم الآخرين وقياسه بالنسبة لمعرفتنا بالموضوع، وقياساً على القراءة يصبح الوعي أيضاً أو فهم "الفحوى" فعلاً مؤسساتياً جمعياً ننساق له ونصبح فريسته بعدما كنا طريدته، هذا في ميدان الأدب.
أما إذا انتقلنا إلى ميدان الفلسفة فيصبح الأمر أكثر سهولة: ماركس ملحد قال إن الدين أفيون الشعوب، داروين قال إن أصل الإنسان قرد، سبينوزا متشائم ونيتشه قال إن الله قد مات، وبالتالي لا يستغرق منا "نفي" ماركس و"دحض" نيتشه أكثر من ثلاث دقائق إذا أردنا التفصيل.
وليس القراءة الجماعية فعلاً إيمانياً أو تسليماً بالقول، على طريقة المتطرف الذي حاول اغتيال نجيب محفوظ لأن روايته "أولاد حارتنا" تسيء للذات الإلهية، رغم أنه أمي، لا يقرأ ولا يكتب، الإيمان هنا حلّ محل الجهل وأعطى شرعية ومبرراً، لكن دخول التحايل على الحديث عن كتاب لم نقرأه يضفي اصطداماً متعمداً بجسد الثقافة ومحاولة مقصودة للتباهي بالذكاء عوض المعرفة، وهذا ما تتميزّ به "ثقافة" العربية، سلسلة متتالية من القراءات يختلط فيها الفهم الخاص مع الغرض الشخصي، فينتج كتاباً لا يمت للأصل بصلة.
القراءة ليست عملاً فردياً، إنما ماكينة اجتماعية، نقرأ ما يريد لنا الآخرون أن نقرأ، ونفهم ما نلتقطه من هنا وهناك، وقياساً على القراءة يصبح الوعي أيضاً أو فهم "الفحوى" فعلاً جمعيًّا مؤسساتيًا
رواية 1984
من أكثر الكتاب الذين كانوا عرضة "لعدم القراءة" رغم الاقتباس المتكرر من رواياته، ودخولها في "كلاسيكيات" الثقافة الجمعية، هو الكاتب والصحفي البريطاني جورج أورويل، خصوصاً مع روايته الشهيرة "1984"، التي تسقط حقوق ملكيتها في العام القادم فتصبح بالتالي ضمن المجال العام، وسيصار إلى إصدار ترجمات جديدة لها تظهر اللبس الحاصل في "قراءتها".
تم تفسير أعمال أورويل، وخصوصاً روايته المذكورة، على أنها نقد مباشر للستالينية وبالتالي الاشتراكية، رغم أنه كان حريصاً على الإشارة إلى أن الرواية لم تكن كذلك، وأن تلك القراءة "مُغرضة" وذات دوافع سياسية لا تعنيه، إنما كان ينتقد الإدارة الشمولية للبلدان، والتي هي موجودة داخل الإدارات الليبرالية كما هي الحال ضمن الإدارة الاشتراكية.
من أكثر الكتّاب الذين كانوا عرضة "لعدم القراءة" رغم الاقتباس المتكرر من رواياته، ودخولها في "كلاسيكيات" الثقافة الجمعية، هو الكاتب والصحفي البريطاني جورج أورويل، خصوصاً مع روايته الشهيرة "1984"
مع ذلك وبالكثير من الاستشهادات والجمل التي يُساء اقتباسها أو تنسب إليه، وبالنظر لمجموع الكتابات التي تركها أورويل، صنع "عدم القراءة" أو القراءة المبتسرة أو "القراءة عن قراءة عن قراءة" جورج أورويل آخر. يقول في كتاب صغير "لماذا أكتب" صدر قبل روايته بثلاث سنوات: "كل شيء مهم كتبته، كل كلمة، كل سطر، بشكل مباشر أو غير مباشر، ضد الشمولية، ومن أجل الاشتراكية الديمقراطية كما أفهمها".
لقد أدرك أورويل بحكم تجربته الصحفية وإقامته في إسبانيا وانضمامه إلى جانب الجمهوريين الذين يقاتلون فرانكو، إلى جانب حزب "التوحيد" العمالي، الأهمية لموقعه ككاتب وصحفي، ليس فقط في النزاعات السياسية التي تنشأ، بل بالعديد من المصطلحات التي ابتكرها وانتشرت كـ "الفكر البوليسي" "الأخبار الكاذبة" و"الأخ الأكبر".
وهذه ليست سمة الدول الاشتراكية في تلك الأوقات فحسب، بل هي سمة السياسة الإنجليزية التي كان ينتقدها بشدة في تلك الآونة، خصوصاً التلاعب باللغة السياسية وتحوير الكلمات بحيث تبدو أكثر بريقاً مما هي عليه، فبوريس جونسون، رئيس الحكومة البريطانية، وترامب، ليسا أوّل من مارس هذا الاحتيال والتلاعب بالحقائق.
التلاعب والاحتيال
بالعودة إلى بايارد، يتحدث في كتابه المذكور عن نفس المشكلة، عن التلاعب والاحتيال، الايهام بامتلاك السطوة على المعرفة كلها عبر بضع إيحاءات مخادعة، ودفع القارئ الذي لا يقرأ إلا نتفاً منثورة هنا وهناك، اللاقارئ، المتمسّك بصوابية المعرفة على الدوام، وهذا ما يُحسب له، لعدم اتخاذ موقف دفاعي عندما يتعلق الأمر بكتاب لم يعرف عنه شيئاً، بل يدافع بايارد أيضاً عن تلك القراءة المتقلّبة وغير المنضبطة ويستحسنها، إذ إنها تفعّل خيال القارئ اللاقارئ عبر مشاركته في وضع الكتاب، المساهمة بتأليفه بطريقة ما.
قد نكون مهووسين بالقراءة ومع ذلك قد لا نكون قرّاء بالمعنى العميق، نظراً لكمّ الكتب الهائل الذي أصبح بالمتناول، وللتخصصات الهائلة والفروق الدقيقة التي تصنعها الترجمات المتباينة. إن الحديث عن كتاب لم نقرأه يضعنا في نفس المكان مع المؤلف الذي أيضاً لم يكن يعرف الكتاب قبل كتابته، على سبيل المثال، ها قد كتبت مقالاً كاملاً عن كتابين لم أقرأهما، ولم تشكّ عزيزي القارئ للحظة أني لم أفعل... أليس كذلك؟
ملاحظة أخيرة: حزب العمال الماركسي الموحد هو حزب ثوري ماركسي إسباني، شارك بالحرب ضد فرانكو، يمكن ترجمة اسمه إلى حزب "التوحيد" العمالي، وبقدر ما تشير كلمتا عمّالي وموحد إلى نقابات واتحادات عمالية، بقدر ما تشير كلمة حزب "التوحيد" إلى خطاب مخالف، قسري، أحادي، بل وإسلامي أيضاً، هذا كمثال أخير عما تفعله القراءة السيئة والقراءة المتلاعب بها والمتحايلة لإظهار سمات مغايرة للحقيقة، وتبدو مجرد استنتاجات بسيطة لدى القارئ لكنها دسيسة خفية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين